بين يدي القصيدة
بقلم د. عادل سمارة
ما الذي يجمع بين النقض في الشعر وبين المقاومة في النضالين القومي والطبقي؟ وما الذي يأخذ مبدعًا إلى حدّ استغراق عمره في النقض بدل أن ينظم في الأنثى والعشق وفلسفة الشعر.. وما الذي يذهب بمواطن عادي بعيدًا عن الحياة الطبيعية ليتحوّل من طبيب إلى مقاتل حرب مغوار يُمضي حياته فيها ويقضي؟
هي الحالة العربية الفلسطينية تحديدًا التي توصلك إلى هذا وذاك. في فلسطين تدّعي الخرافة العبرية أن الرعاة العبرانيين "أي ما قبل الحضارة" تغلّبوا على مجتمع الزراعة الكنعاني، وهذا منافٍ لمنطق وسياق الحضارة والتاريخ والتحليل والتجريد الذهني. لكن ما هو ثابت أن هؤلاء الرعاة، بغضّ النظر عمّا إذا كانوا قد اغتالوا أرض كنعان عمليًا، أم كانوا في جزيرة العرب، قد سرقوا التاريخ والحضارة وسرقوا الأسطورة وحوّلوها إلى دين، تمهيدًا "تاريخيًا" وتبريرًا "اسطوريًا" لسرقة فلسطين الأرض والوطن. قد يوحي هذا بمؤامرة ممتدة، نعم... إنه يوحي، حتى لو اتّهمنا الأكاديميون بالتمسّك بنظرية المؤامرة، لا يهمّ.
هذا المناخ الممتدّ تاريخيًا وأسطوريًا وعميًا اليوم، هو الذي ذهب بفارس كنعان إلى المقاومة وليس شعر المقاومة وحده.
فليس أحمد حسين مجرّد شاعر مقاومة من الطراز الذي عهدناه يقاوم اليوم ويساوم غدًا. ربّما يكمن استمرار أحمد حسين في المقاومة في أنه بدأ من "عنات"... من التاريخ والأسطورة... من الحضن التاريخي الأوّل الذي ولّد القومية العربية. وظلّ أحمد حسين قابضًا على جمر الأصول مكافحًا بكل شعره كي يردّ قطار العصور الذي ابتعد عن كنعان باتجاه القطرية في جانب، واللامكان.. اللاوطن في جانب آخر.
وإذا كان اغتيال "عنات"وسرقة الأسطورة وتحويلها إلى خرافة واغتصاب فلسطين تفترض مقاومة لا نهاية لها، فإن خيانة "عنات" بالزواج من "ريتا"، والتنازل عن حيفا من أجل "غرفة في أريحا"، لا بدّ أن يشحذا مستوىً آخر من المقاومة إلى جانب المقاومة القومية... المقاومة من الداخل، المقاومة الطبقية.
من هنا كان أحمد حسين شاعر المقومة بمستوييها القومي العربي الكنعاني، والطبقي الذي يقاوم بسيف الشعر كلاً من شعر التفريط وسياسة التفريط اللتين قامتا وتقوم بهما الرأسمالية الفلسطينية والعربية، ومعهما شعراؤهما ومثقفوهما العضويون.
أطروحة أحمد حسين: نحن هنا، ما زلنا نمتشق السيوف الدمشقية ونقاوم حتى نعود، نبدأ من كنعان، فلا حقيقة قبل كنعان ولن تكون هناك حقيقة بعد كنعان. نُطعن من الظهر... نعم، ولكنّا نقوم. لسنا قلّة ولا أقلية. قد نبدو على السطح قِلّة، ولكن البسطاء، الأكثرية، معنا. لنا الفخر بالمقاومة، ولكننا ننقذ فشلنا في إعادة تشكيل هذه الأكثرية التي معنا في بوتقة مقاومة من الطراز الذي يتمكن من تحرير "عنات". هذا ما يعذّب فارس كنعان. وهذا سرّ النقض في الشعر والمقاومة في المجتمع والقوميات.
لعلّ أهمية هذا الديوان، القصيدة، أنه حالة جدلية دائمة، حالة مقاومة شعرية، تُحلّ الحزن في موضعه الطبيعي، فالحزن حياة، إنه النزوع البشري نحو الخلود والأبدية. حزن الخلود لا ينتهي، وكي يتحقق لا بدّ أن يكون على الأرض محرّك للثورة والمقاومة ليخلق فرحًا مختلفًا عن فرح الاستهلاكية والتمتع بـ"رخام جسد ريتا". فرح إعادة تجليس الأسطورة والتاريخ وكنعان وشعب فلسطين العربي في وطنه، وليس الجلوس في "السراب" خارج الوطن والهروب من الوطن كمشروع وموضوع، واستبداله بالقصيدة والرمزية والسراب ادّعاءً، والقبول "بغرفة في أريحا" عمليًا. هكذا انتهى الوطن عند محمود درويش. الوطن في أطروحة أحمد حسين أرض وامتداد تاريخيّ. أرض من المحيط إلى الخليج، وامتداد تاريخيّ من كنعان إلى دولة العرب الموحدة لا القطر ولا الكانتونات، ولا الكومبرادور الرأسمالي والثقافي. الوطن وعاء حضاريّ وموقع حياتيّ وأرضيّة إنتاج ودفء أسرة في بيتها وعلاقاتها وقرباها وقريتها وعزبتها، وليس "اللامكان" الذي انتهى إليه إدوارد سعيد في الهروب إلى لا جدوى ولا معنى فكرة الوطن عند "أدورنو" لينتهي "أدورنو" من نظرية المطلق الكوني كوطن إلى مقيم في وطنه، أما إدوارد سعيد فينتهي إلى إسقاط حق العودة للشعب الفلسطيني وإلى عرض "ريتا" رخامها الأنثوي وفجورها الرأسمالي الغربي على حساب عفّة فاطمة، لكي تتأرجح "ريتا" بجدائل سلمى. لذا ظلّ أحمد حسين مقاتلاً... وظلّت قصيدته، لا بل شعره، مشروع تواصل المقاومة بكلّ ألوانها ومستوياتها.
عادل سمارة
رام الله - آب 2002
ما الذي يجمع بين النقض في الشعر وبين المقاومة في النضالين القومي والطبقي؟ وما الذي يأخذ مبدعًا إلى حدّ استغراق عمره في النقض بدل أن ينظم في الأنثى والعشق وفلسفة الشعر.. وما الذي يذهب بمواطن عادي بعيدًا عن الحياة الطبيعية ليتحوّل من طبيب إلى مقاتل حرب مغوار يُمضي حياته فيها ويقضي؟
هي الحالة العربية الفلسطينية تحديدًا التي توصلك إلى هذا وذاك. في فلسطين تدّعي الخرافة العبرية أن الرعاة العبرانيين "أي ما قبل الحضارة" تغلّبوا على مجتمع الزراعة الكنعاني، وهذا منافٍ لمنطق وسياق الحضارة والتاريخ والتحليل والتجريد الذهني. لكن ما هو ثابت أن هؤلاء الرعاة، بغضّ النظر عمّا إذا كانوا قد اغتالوا أرض كنعان عمليًا، أم كانوا في جزيرة العرب، قد سرقوا التاريخ والحضارة وسرقوا الأسطورة وحوّلوها إلى دين، تمهيدًا "تاريخيًا" وتبريرًا "اسطوريًا" لسرقة فلسطين الأرض والوطن. قد يوحي هذا بمؤامرة ممتدة، نعم... إنه يوحي، حتى لو اتّهمنا الأكاديميون بالتمسّك بنظرية المؤامرة، لا يهمّ.
هذا المناخ الممتدّ تاريخيًا وأسطوريًا وعميًا اليوم، هو الذي ذهب بفارس كنعان إلى المقاومة وليس شعر المقاومة وحده.
فليس أحمد حسين مجرّد شاعر مقاومة من الطراز الذي عهدناه يقاوم اليوم ويساوم غدًا. ربّما يكمن استمرار أحمد حسين في المقاومة في أنه بدأ من "عنات"... من التاريخ والأسطورة... من الحضن التاريخي الأوّل الذي ولّد القومية العربية. وظلّ أحمد حسين قابضًا على جمر الأصول مكافحًا بكل شعره كي يردّ قطار العصور الذي ابتعد عن كنعان باتجاه القطرية في جانب، واللامكان.. اللاوطن في جانب آخر.
وإذا كان اغتيال "عنات"وسرقة الأسطورة وتحويلها إلى خرافة واغتصاب فلسطين تفترض مقاومة لا نهاية لها، فإن خيانة "عنات" بالزواج من "ريتا"، والتنازل عن حيفا من أجل "غرفة في أريحا"، لا بدّ أن يشحذا مستوىً آخر من المقاومة إلى جانب المقاومة القومية... المقاومة من الداخل، المقاومة الطبقية.
من هنا كان أحمد حسين شاعر المقومة بمستوييها القومي العربي الكنعاني، والطبقي الذي يقاوم بسيف الشعر كلاً من شعر التفريط وسياسة التفريط اللتين قامتا وتقوم بهما الرأسمالية الفلسطينية والعربية، ومعهما شعراؤهما ومثقفوهما العضويون.
أطروحة أحمد حسين: نحن هنا، ما زلنا نمتشق السيوف الدمشقية ونقاوم حتى نعود، نبدأ من كنعان، فلا حقيقة قبل كنعان ولن تكون هناك حقيقة بعد كنعان. نُطعن من الظهر... نعم، ولكنّا نقوم. لسنا قلّة ولا أقلية. قد نبدو على السطح قِلّة، ولكن البسطاء، الأكثرية، معنا. لنا الفخر بالمقاومة، ولكننا ننقذ فشلنا في إعادة تشكيل هذه الأكثرية التي معنا في بوتقة مقاومة من الطراز الذي يتمكن من تحرير "عنات". هذا ما يعذّب فارس كنعان. وهذا سرّ النقض في الشعر والمقاومة في المجتمع والقوميات.
لعلّ أهمية هذا الديوان، القصيدة، أنه حالة جدلية دائمة، حالة مقاومة شعرية، تُحلّ الحزن في موضعه الطبيعي، فالحزن حياة، إنه النزوع البشري نحو الخلود والأبدية. حزن الخلود لا ينتهي، وكي يتحقق لا بدّ أن يكون على الأرض محرّك للثورة والمقاومة ليخلق فرحًا مختلفًا عن فرح الاستهلاكية والتمتع بـ"رخام جسد ريتا". فرح إعادة تجليس الأسطورة والتاريخ وكنعان وشعب فلسطين العربي في وطنه، وليس الجلوس في "السراب" خارج الوطن والهروب من الوطن كمشروع وموضوع، واستبداله بالقصيدة والرمزية والسراب ادّعاءً، والقبول "بغرفة في أريحا" عمليًا. هكذا انتهى الوطن عند محمود درويش. الوطن في أطروحة أحمد حسين أرض وامتداد تاريخيّ. أرض من المحيط إلى الخليج، وامتداد تاريخيّ من كنعان إلى دولة العرب الموحدة لا القطر ولا الكانتونات، ولا الكومبرادور الرأسمالي والثقافي. الوطن وعاء حضاريّ وموقع حياتيّ وأرضيّة إنتاج ودفء أسرة في بيتها وعلاقاتها وقرباها وقريتها وعزبتها، وليس "اللامكان" الذي انتهى إليه إدوارد سعيد في الهروب إلى لا جدوى ولا معنى فكرة الوطن عند "أدورنو" لينتهي "أدورنو" من نظرية المطلق الكوني كوطن إلى مقيم في وطنه، أما إدوارد سعيد فينتهي إلى إسقاط حق العودة للشعب الفلسطيني وإلى عرض "ريتا" رخامها الأنثوي وفجورها الرأسمالي الغربي على حساب عفّة فاطمة، لكي تتأرجح "ريتا" بجدائل سلمى. لذا ظلّ أحمد حسين مقاتلاً... وظلّت قصيدته، لا بل شعره، مشروع تواصل المقاومة بكلّ ألوانها ومستوياتها.
عادل سمارة
رام الله - آب 2002