بالحزن أفرح من جديد
أَنا لَنْ أُعَلِّقَ بَعْدَ هذا اليَوْمِ أُغْنِيَةً عَلى امْرَأَةٍ سِواكْ.
سَأَمُرُّ مِنْ بَعْضِ النِّساءِ إِلَيْكِ، لكِنْ لَنْ أُفَتِّشَ عَنْكِ في امْرَأَةٍ سِواكْ.
أَعْطَيْتِني جَسَدًا، خُذيهِ إذَنْ!
سَئِمْتُ مِنَ الوُقوفِ عَلى غِيابِكِ تَضْحَكينَ وَتَحْزَنينَ وَلا أراكْ.
وَتُبَدِّلينَ ثِيابَ نَوْمِكِ في السَّريرِ وَلا أَراكْ.
وَتُحاوِلينَ العِشْقَ مِنْ غَيْرِ الرُّجوعِ إلى تَفاصيلِ الجَسَدْ.
هَلْ أَنْتِ عاشِقَةٌ أمِ امْرَأَةٌ تُحِبُّ بِدونِ نَهْدَيْها يُدَوِّنُها السَّريرْ
جَسَدًا بِلا مَعْنى،
مُحاوَرَةً عَلى صَيْفِ المِلاءَةِ بَيْنَ جَهْرِ السّاقِ بِالأُنْثى وَغَمْغَمَةِ الحَريرْ.
هَلْ أَنْتِ عاشِقَةٌ أَمِ امْرَأَةٌ!
تَعِبْتُ مِنَ التَّجَوُّلِ في شَوارِعِكِ الأَنيقَةِ كَالزُّجاجْ.
جَسَدي يُلاحِقُني،
أَفِرُّ إلى القَصيدَةِ مِنْهُ، أَتْرُكُهُ لِتَقتُلَهُ النِّساءُ المُسْرِعاتُ إلى المَساءْ،
يَحْمِلْنَ تَحْتَ ثِيابِهِنَّ اللَّوْزَ وَالرُّمّانَ
وَالزَّهْرَ الَّذي نَثَرَتْ عَلَيْهِ «عَناتُ» نَشْوَتَها لِمائِدَةِ الحَبيبْ.
كُلٌّ وَلَيْلَتَها، وَلكِنَّ النِّساءَ هِيَ النِّساءْ.
جَسَدي يُلاحِقُني إلى بابِ القَصيدَةِ بِالبُكاءْ.
ماذا يُريدُ العِشْقُ مِنْ كَذِبِ الأُنوثَةِ في قَميصِ النَّوْمِ،
مِنْ أُنْثى تُطارِدُ عاشِقًا عَنْ نَهْدِها؟
هَلْ أَنْتِ عاشِقَةٌ أَمِ امْرَأةٌ؟
إذا جاءَتْ إلَيْكِ يَدِي تَلاشى اللَّمْسُ فيكِ وَأَطْفَأتْكِ أنامِلي،
هَلْ أَنْتُما مَطَرٌ وَنارْ،
وَأنا نَشيدٌ خالِصٌ لِلْعِشْقِ حينَ يَصيرُ ظِلّاً خالِصًا كَالآلِهَة،
وَيَصيرُ وَجْهُ حَبيبَتي لُغَةً مُؤَنَّثةً
كَأَنَّ عِبارَةً سَقَطَتْ عَلى سَطْحِ الكَنيسَةِ مِنْ حِوارِ الأنْبِياءْ.
أَرْجَعْتِ لي جَسَدي وَكُنْتُ نَسِيتُهُ حُزْنًا عَلى امْرَأَةٍ أَصيرُ لِكَيْ أُعانِقَها ضَبابًا أَوْ سَرابْ.
أُعْطي إلى مَلِكِ الخُرافَةِ
ما يَشاءُ مِنَ الكُهوفِ وَما يَشاءُ مِنَ القُبورِ وَما يَشاءُ مِنَ الغِيابْ
أُعْطيهِ كاهِنَةً وَبَيْتًا مِنْ بُيوتِ الشِّعْرِ
أَكْتُبُهُ عَلى حَجَرٍ تُدَحْرِجُهُ الخَرائِبُ في تَنَقُّلِها، وَيُنْشِدُهُ غُرابْ
أُعْطيهِ سَيْفًا مِنْ صَهيلِ العَظْمِ في بَرِّيَّةِ المَوْتَى
وَطلَّسَمًا يُحيلُ الرّوحَ آنِيَةً مُهَشَّمَةً لِتَسْكُنَ روحُهُ فيها
وَأَيّامًا بِلا سَبَبٍ سِوى هذا الرَّحيلْ
أُعْطيهِ حُبَّكِ كُلَّهُ،
إنْ كانَ يُسْكِنُني خُرافَتَهُ لِتَأْخُذَني إلَيْها عَبْرَ دَرْبِ المُسْتَحيلْ.
لا دَرْبَ حَتّى المَوْتُ يوصِلُني إلَيْها
لَيْسَ في كَنْعانَ قَبْرٌ واحِدٌ لَمْ يَطْرُدوهُ مِنَ التُّرابْ.
لَمْ يَبْقَ في كَنْعانَ قَبْرٌ واحِدٌ لَمْ يَحْمِلوهُ إلى خُروجِ الأَرْضِ مِنْ سَفَرِ الحِكايَةِ
لا ذَهابَ وَلَوْ عَلى وَهْمِ الذَّهابِ وَلا إيابْ.
لا وَقْتَ يوصِلُني إلَيْها.
أَلْوَقْتُ يَمْضي كَالصَّفيرِ بِدونِ ذاكِرَةٍ
فَنَنْسى أَنَّنا كُنّا هُنا قَبْلَ اقْتِسامِ الأَرْضِ بَيْنَ الآلِهَة
وَبِأَنَّنا كُنّا هُنا بَعْدَ اقْتِسامِ الأَرْضِ بَيْنَ الآلِهَة.
وَلَسَوْفَ نَنْسى أَنَّنا كُنّا هُنا، وَلَسَوْفَ تَنْسى
وَتَمُرُّ مِنْ غَدِها إلى غَدِها وَتَعْشَقُ عابِرًا لَمْ يَعْرِفِ الأَلْوانَ إلاّ في حَديقَتِها،
وَتُنْجِبُ مِنْهُ أَطْفالاً بِلَوْنِ بُصاقِهِمْ، وَأَنا سَأَنْسى...
مَعْنى النِّساءِ إذا عَشِقْنَ، وَكَيْفَ يُصْبِحُ عاشِقٌ مَلِكًا عَلى الدُّنْيا لِساعَة.
كَمْ مَرَّةً لَمْ تَدْعُني «كِسْرى» وَلكِنّي رَأَيْتُ النّارَ تَنْهَضُ لي
وَبَهْوًا مِنْ نِساءٍ يَمْتَشِقْنَ قُدودَهُنَّ عَلى خُطايَ
وَيَلْتَقِطْنَ أَنامِلي بِنُهودِهِنَّ مِنَ الهَواءْ.
هَلْ أَنْتِ عاشِقَةٌ أَمِ امْرَأَةٌ مِنَ البَلُّورِ
تَمْتَصُّ الرِّجالَ مِنَ العُبورِ إلى مَراياها العَقيمَة...
مَلْهىً وَراقِصَةٌ وَرُوّادٌ بِدونِ رُجولَةٍ إلاّ مَلابِسَهُمْ وَأُغْنِيَةٌ قَديمَة.
وَالشِّعْرُ دَرْبٌ أَحْمَقٌ!
لا يَبْحَثُ الشُّعَراءُ عَنْ شَيْءٍ سِوى ما لا يَكونُ لِكَيْ يَكونَ
فَإِنَّهُمْ رُسُلٌ لِرَبٍّ لَمْ تُؤَلِّفْهُ الصَّلاةُ
لأَنَّهُ لَمْ يَمْشِ في دَرْبِ الحَريرِ وَلَمْ يُغادِرْ لَحْظَةَ الخَلْقِ العَظيمَة.
كَمْ ضَيَّعَتْ طُرُقُ القَوافِلِ عاشِقًا ضَلَّ الطَّريقَ إلَيْهِ
لكِنِّي اهْتَدَيْتُ فَلَنْ أُعَلِّقَ بَعْدَ هذا اليَوْمِ أُغْنِيَةً عَلى امْرَأَةٍ سِواكْ.
أَنْتِ الطَّريقُ إلَيْهِ
يَشْدو البَحْرُ في عَيْنَيْكِ أَجْنِحَةً أطيرُ بِها إلى ما لا يَكونُ لِكَيْ يَكونَ
فَإنَّ فاطِمَةً هُناكْ.
كُلُّ الدُّروبِ لَهُ لأَنَّ الأَرْضَ تَعْبُرُ مِنْ هُناكْ،
وَالشَّمْسُ تَعْبُرُ مِنْ هُناكْ
وَأنا وَأَنْتِ - هُنا - الطَّريقُ إلى هُناكْ.
فَلِمَنْ تُخَبِّئُكِ المَواعيدُ الَّتي رَحَلَتْ عَلى عَجَلٍ لِتَبْحَثَ عَنْ «زُلَيْخَةَ» في سِواكْ
وَلِمَنْ يُخَبِّئُ عاشِقٌ مِثْلي مُداعَبَةَ النَّهارِ عَلى سُفوحِ النَّهْدِ
أَوْ سَهَرِ الشِّفاهِ عَلى الشِّفاهْ؟
كَمْ أَنْتِ مَلْأى بِالعِناقِ وَكَمْ أَنا رَجُلٌ
وَلكِنْ بَيْنَ وَجْهَيْنا زَمانٌ مَيِّتٌ، فَتَلَمَّسيني
شَبَحًا، فَكَمْ مَرَّتْ عَجائِبُ مِنْ هُنا
وَلَعَلَّ مُعْجِزَةً تَمُرُّ لِكَيْ أَكونَ وَكَيْ تَكوني.
لا أَنْتِ فاطِمَةٌ وَلا أَنا مَنْ عَشِقْتِ، أَنا سَرابُكِ فَاتْبَعيني
طَرَدوكِ عَنْ وَشْكِ العِناقِ، تَوَهَّمي وَجْهَ الحَبيبِ وَعانِقيني
طَرَدوكِ عَنْ وَقْتِ الوَداعِ، تَخَيَّلي أَنّي القَتيلُ وَوَدِّعيني.
مِنْ أَيْنَ يَأْتينا السَّرابُ لَوَ انَّهُ كَذِبٌ تَبوحُ بِهِ الصَّحارى ثُمَّ تَكْتُمُهُ
فَهَلْ إلاّ كَما حَضَروا وَغابوا؟
وَأَقولُ إنَّ الكَوْنَ مَبْدَؤُهُ السَّرابُ.
أَيَّ البِلادِ أُحِبُّ أَمْ أَيَّ النِّساءِ
أَنا الذي اخْتَلَسَ المَكانُ بِلادَهُ حَتّى أَقاصي اللَّوْنِ
وَاسْتَوْلى الغِيابُ عَلى حَبيبَتِهِ وَأَنْكَرَها الغِيابُ.
وَأَنا الَّذي وَشَتِ الصَّلاةُ بِهِ لِزُرْقَتِها لَيَغْرَقَ في مِياهِ البَحْرِ
وَاسْتَوْفى مَلامِحَهُ الذَّهابُ
وَأَنا - كَما زَعَموا - السَّرابُ
وَهُمْ لِغَيْبَتِيَ السَّرابُ.
نَسِيَتْ وُقوفي تَحْتَ خَيْمَةِ عِطْرِها غُصْنًا مِنَ النِّعْناعِ يَنْتَظِرُ المَطَرْ،
وَالأُرْجُوانُ الظِّلُّ وَقْتٌ لا وُجودَ لَهُ عَلى شَيْءٍ سِوانا.
لَمْ تُعْطِني شَيْئًا سِوى حِزْني وَبابًا لِلخُروجِ مِنَ ابْتِسامَتِها وَوَقْتًا لِلْوَداعْ.
قالَتْ سَتَحْمِلُكَ الحِكايَةُ نَحْوَ آخِرِها، انْتَظِرْ حَتّى أَعودَ مِنَ السَّفَرْ...
إنْ شِئْتَ
قُلْتُ: مَتى؟
فَقالَتْ: حينَ تُؤْمِنُ لِلسَّرابْ.
- هَلْ أَرْتَدي رُوحًا بِلا جَسَدٍ وَأَكْفُرُ بِالنَّظَرْ؟
- وَتُقيمُ ضاحِيَةً عَلى سَفْحِ الخُرافَةِ يَمْرَحُ الأَطْفالُ في جَنَباتِها سُمْرَ الوُجوهِ
يُطارِدونَ فَراشَةً كَمْ أَتْعَبَتْ آباءَهُمْ،
وَالنّاسُ يَبْنونَ البُيوتَ وَيَزْرَعونَ الأَرْضَ فاكِهَةً وَيَجْنونَ الثَّمَرْ.
أَنَسِيتَ أَنَّ خُرافَةً مَرَّتْ عَلى هذي السُّفوحِ فَغادَرَتْ ميلادَها؟
وَبِأَنَّ «ريتا» حَوَّلَتْ مِنْديلَها بَحْرًا فَجاءَتْهُ السَّواحِلُ مِنْ بَعيدٍ قَبْلَ أنْ نَزَلَتْ عَلى السَّماءِ إلى بِلادِكَ كَيْ تَصيرَ بِلادَها؟
أَنَسِيتَ أَنَّكَ لَمْ تَعُدْ شَيْئًا سِوى ما تَحْتَ مِنْديلِ الخُرافَةِ
مِنْ بِلادٍ لَمْ يُرَ التّاريخُ إلاّ قَبْلَها أَوْ بَعْدَها؟
أَنَسِيتَ بِأَنَّ الشّاعِرَ الأَعْمى يَقولُ بِأَنَّ «ريتا»
هَجَرَتْ خُرافَتَها لِيَعْشَقَها وَنَعْشَقَها مَعَهْ؟
وَبِأَنَّ «ريتا»
دَخَلَتْ خُرافَتَها إلى حَيْفا مِنَ البابِ الَّذي كُنّا دَخَلْناهُ إِلَيْها؟
لا فَرْقَ بَيْنَ الأَرْضِ تَزْرَعُها تُرابَ أَبيكَ بَعْدَ رَحيلِهِ أَوْ تَدَّعيها!
وَالدّارُ مِثْلُ الشّاعِرِ الأَعْمى، لَها بابٌ وَلكِنْ لَيْسَ يَعْرِفُ أَهْلَها مِنْ زائِريها
وَيَقولُ: لِلنِّسْيانِ بابٌ خَلْفَهُ كَوْنٌ بِدونِ هُوِيَّةٍ إلاّ العِناقُ
عَلى ضِفافٍ لا تُرى إلاّ لِتَخْفَى
لَمّا رَآها النِّفَّرِيُّ ارْتاحَ مِنْ سَفَرٍ وَأَغْفى.
وَبِأَنَّ «ريتا» لَيْسَتِ امْرَأَةً كَفاطِمَةٍ
وَلكِنْ رَبَّةٌ لِحَضارَةٍ سَتُعيدُنا قَسْرًا لِحَيْفا!!
لا شَيْءَ مِثْلَ الحُلْمِ يَحْمِلُهُ البَعيدُ إلى البَعيدْ
وَالحُلْمُ أَصْدَقُ مِنْ رِسالَةِ شاعِرٍ أَعْمى إلى امْرَأَةٍ، وَمِنْ ساعي البَريدْ.
وَالدّارُ تَعْرِفُ أَهْلَها إِنْ يَعْرِفوها.
أُكْتُبْ خُرافَتَنا عَلى حَجَرِ انْتِظارٍ، وَانْتَظِرْ!
قالَتْ، وَداهَمَني الطَّريقُ إِلَيْكِ، أَنْتِ هِيَ الطَّريقْ.
قالَتْ، وَأَطْبَقَتِ الجِهاتُ عَلَيَّ مَوْجًا، فَارْتَدَيْتُ إلَيْكِ روحي،
وَعَرَفْتُ أَشْياءً عَنِ المَلَكوتِ؛
كَيْفَ تَخَيَّلَ الكُهّانُ جَنَّتَهُمْ، وَكَيْفَ تَلَمَّسوا دَرْبَ الوُصولِ إلى فِناءِ الآلِهَة
وَعَرَفْتُ أَنَّ الرّوحَ بابٌ لِلْجَسَدْ
لَوْلا ارْتِدادُ الرّوحِ مِنْ سَفْحِ البِدايَةِ نَحْوَ مَأْتَمِنا الجَديدِ، فَلا أَحَدْ!
لَوْلا «عَناتُ» تَطُلُّ مِنْ خَلْفِ الصَّلاةِ لَأَصْبَحَتْ «ريتا» صَلاةً لِلْأَبَدْ!
لَوْلا ابْتِهاجُ الطّينِ في الأَجْسادِ عِنْدَ عِناقِها، وَزِيارَةِ الفَرَحِ القَديمِ،
وَسِرُّ هذا الحُزْنِ يَسْقُطُ كَالرَّمادِ عَلى ابْتِهالاتِ النَّوافِذِ
لَمْ نَكُنْ رُوحًا وَلا جَسَدًا
فَإنَّ الرّوحَ أُغْنِيَةُ الجَسَدْ.
وَأَعَدْتِ لي جَسَدي
وَكُنْتُ طَوَيْتُهُ كَالمِعْطَفِ الشَّتَوِيِّ عِنْدَ دُخولِ قافِلَتي إلى الصَّحْراءِ
قالَ الرّاوِيَة:
لا وَقْتَ في الفَصْلِ الأَخيرِ مِنَ الحِكايَةِ لِلنِّساءِ
لأَنَّهُنَّ يَمُتْنَ عِنْدَ خُروجِهِنَّ مِنَ المَخادِعِ نَحْوَ بَهْوِ الإنْتِظارْ
لا وَقْتَ، قالَ الرّاوِيَة،
إلاّ لِوَقْتِ الوَقْتِ في الفَصْلِ الأَخيرِ مِنَ الحِكايَةِ
فَارْتَدوا أَجْسادَكُمْ كَيْ تَنْعَموا بِالإحْتِضارْ
وَبِنَشْوَةِ القاعِ العَميقَةِ
وَهيَ تَدْنو في خُفوتِ مَلامِحِ المُدُنِ الَّتي تَنْأى، وَبُطْءِ الإنْحِدارْ
ألدَّرْبُ أَجْمَلُ في نِهايَتِهِ؛
سَماءٌ لا طُيورَ بِها، وَبَحْرٌ مَيِّتٌ في العاصِفَة
وَالصَّمْتُ موسيقى لَها صَوْتٌ شَجِيٌّ لا يَمُرُّ مِنَ الهَواءْ
ماذا أُريدُ مِنَ النُّهوضِ وَقامَتي صِفْرٌ وَعَيْنايَ انْطِفاءْ
وَحَبيبَتي مِثْلُ ابْتِسامَتِها رِداءٌ لِلسُّهولْ.
كَمْ مَرَّةً عادَ الصَّباحُ وَلَمْ تَعُدْ، عادَ المَساءُ وَلَمْ تَعُدْ
ماذا سَأَفْعَلُ بِالصَّباحِ وَبِالمَساءِ وَبِالحُقولْ
وَلِمَ الرَّحيلُ إلى الوَطَنْ
كُلُّ البِلادِ لِراحِلٍ وَطَنٌ وَمَنْفى
وَالأَرْضُ إنْ فَقَدَتْ أُمومَتَها زَمانٌ خالِصٌ لِلْحُزْنْ
طَقْسٌ مِنْ طُقوسِ عِبادَةِ المَوْتى، وَشَوْقٌ غامِضٌ لِلإخْتِباءْ
مِمّا تُمارِسُهُ الفُصولُ مَعَ السُّفوحِ وَكَيْفَ يَقْتَرِفُ المَطَرْ
قَمْحًا لِبَيْدَرِهِمْ، وَوَصْلاً بَيْنَ نَرْجِسَةٍ وَشَعْرٍ أَشْقَرِ
وَالحُزْنُ يَقْتُلُ بِالنَّظَرْ.
يا سَيِّدي هذا الشَّجَرْ
طِفْلٌ يُشاهِدُ أُمَّهُ تَزْني، وَيَكْبُرُ
أَعْطِني بابَ الخُرافَةِ
لا أُريدُ سِوى الخُروجِ مِنَ التَّضاريسِ الَّتي تَزْني إلى هذا الهُراءْ
وَأَصيرُ لَوْنًا عارِيًا مِنْ لَوْنِهِ كَالصَّمْتِ
يَقْتَحِمُ المَكانَ كَأنَّهُ صَخْرٌ وَيَسْكُنُ في الخَفاءْ
يَجْتازُ إيقاعَ الوُجودِ إلى نُواحِ الذّاكِرَة:
كانَتْ لَنا ناياتُنا وَسُفوحُنا وَرُعاتُنا
كانَتْ لَنا أَجْراسُنا عِنْدَ المَغيبِ تُطِلُّ مِنْ بُعْدٍ عَلى ساحاتِنا
كانَتْ لَنا قيثارَةُ الصَّبْرِ الجَميلِ، وَغَمْغَماتُ الماءِ وَالرِّيحُ البَعيدَةُ وَالنُّباحْ
وََحَديثُ أَوْراقِ الشَّجَرْ...
لا بُدَّ مِنْ بَوْحٍ عَلى بابِ الوَداعِ، وَإِنْ يَكُنْ حَجَرٌ يُوَدِّعُهُ حَجَرْ
وَالحُزْنُ يَقْتُلُ بِالنَّظَرْ.
لَوْلا تَفاصيلُ الحُضورِ عَلى تَفاصيلِ الحِجارَةِ لَمْ يُعَذِّبْنا الرَّحيلُ وَلَمْ تُؤَلِّفْنا الفَجيعَة
لَوْلا الرَّبابُ لَما اخْتَفى لَحْنٌ وَلا انْقَطَعَ الوَتَرْ
وَأَعَدْتِ لي جَسَدي وَكُنْتُ عَلى تُخومٍ لا تَمُرُّ بِها النِّساءْ
كانَتْ فَراشاتي تَعودُ إلَيَّ واحِدَةً فَواحِدَةً وَتَسْقُطُ فِيَّ مَيِّتةً
لَقَدْ جاءَ الغِيابُ إلى الحُضورْ
وَتَهامَسا في قَهْوَتي، وَسَمِعْتُ إسْمَ أَبي وَأُمّي.
يا سَيِّدي هُوَ مَنْ يَكونُ، وَهَلْ يَكونُ وَراءَ هذا البابِ بابْ
أَنا لا أُريدُ حِكايَةً أُخْرى
أُريدُ حِكايَةً بَعْدي يُرَدِّدُها كِتابْ
لِتَكونَ أَرْمَلَةً لِشِعْري
وَأُريدُ إسْمَ أخي لِلافِتَةٍ بِحَيْفا
وَأُريدُ حَيْفا في الغِيابْ.
يا سَيِّدي هذا الهُراءُ صَدى ارْتِطامي بِالزَّمانِ وَبِالمَكانِ وَبِالسَّرابْ
جَسَدي يُعاوِدُني إذا شاهَدْتُ طِفْلاً عائِدًا لِلْبَيْتِ يَحْمِلُ أُمَّهُ غُصْنًا
وَعُصْفورُ ابْتِسامَتِها يُغَرِّدُ في مَلامِحِهِ النَّحيلَة
وَأَحِنُّ أَحْيانًا لِمَدْرَسَةٍ قُتِلْتُ عَلى مَقاعِدِها وَأَتْقَنْتُ السُّقوطَ كَأَنَّهُ لُغَةُ الطُّفولَة
وَعَرَفْتُ حينَ أَحالَها «التّشيكِيُّ» مَنْجَرَةً وَسُوقًا لِلتَّوابيتِ الرَّخيصَةِ
سِرَّ ما بَيْنَ المَدارِسِ وَالمَقابِرْ.
يا سَيِّدي هذا الهُراءُ صَدى مُروري في الحِكايَةِ صُدْفَةً، وَالكائِناتْ
لا تَنْتَقي تاريخَها، إلاّ «الفَلاشا» العائِدينَ مِنَ الرَّمادِ إلى زُقاقِ الآلِهَة
لَمْ يَدْخُلوا بابَ الحِكايَةِ مِنْ بِدايَتِها لأَنَّ الصَّيْفَ في الأَدْغالِ يَأتي في الشِّتاءْ
وَلأَنَّهُمْ قَطَعوا الطَّريقَ إلى جَميعِ الأَنْبِياءْ
مَشْيًا عَلى أَقْدامِنا
مِنْ عَتْمَةِ التّاريخِ في الغاباتِ حَتّى مِهْرَجانِ الشَّمْسِ في مَرْجِ ابْنِ عامِرْ
نَحْنُ الخُرافَةُ في خُرافَتِهِمْ - يَقولُ الشّاعِرُ الأَعْمى - فَـ«ريتا» لَمْ تُغادِرْ
أَبَدًا وَلَمْ تَرْجِعْ
كَذلِكَ نَحْنُ لَمْ نَحْضُرْ عَلى غَيْرِ الخُرافَةِ كَيْ نُغادِرْ
وَالأَرْضُ مَلْأى بِالحَضاراتِ الجَميلَةِ وَالنِّساءْ
وَوَراءَ هذا السُّورِ جَنَّتُنا وَجَنَّتُهُمْ - يَقولُ الشّاعِرُ الأَعْمى - وَميلادٌ جَديدْ
لِحَضارَةِ العُشّاقِ حينَ يُمَزِّقونَ عَلى ضِفافِ السِّينِ أَقْنِعَةَ الحَضاراتِ القَديمَة
وَيُمَزِّقونَ رَسائِلَ الآباءِ لِلأَبْناءِ، يَقْتَلِعونَ أَسْماءَ الحِجارَةِ مِنْ أَقاويلِ الشُّعوبِ
يُحَوِّلونَ رَصاصَهُمْ عِنَبًا لِمائِدَةِ العَشاءِ وَخوذَةَ الجُنْدِيِّ عُشّاً لِلْبَلابِلْ.
مَنْ كانَ يَعْرِفُ كَيْفَ يَعْشَقُ لا يُقاتِلْ
في القَلْبِ مُتَّسَعٌ لَنَعْشَقَ أَوْ لَنَكْرَهَ ما نُريدُ
وَأَنا - يَقولُ الشّاعِرُ الأَعْمى - أُخَبِّئُ فَجْوَةً في القَلْبِ أَكْرَهُ ما أَشاءُ
لأُحِبَّ مِنْ «ريتا» عَراقَتَها النَّبيلَةَ وَانْعِطافَ مَلامِحي...
عَبْرَ الرُّخامِ الأُنْثَوِيِّ كَأَنَّها ماءٌ لِنَصْنَعَ «يوسُفَ» العَرَبِيَّ مِنْ شَبَهِ الحِكايَةِ بِالحِكايَة؛
(شَبَقُ النِّساءِ بِمِصْرَ يَقْتَحِمُ النُّبُوَّةَ في العَبيدْ)
حينَ الْتَقَيْنا كانَ حَدُّ الماءِ يَجْرَحُني كَحَدِّ السَّيْفِ
تُؤْلِمُني الوُجوهُ لأَنَّها مَنْفى
وَأَبْحَثُ عَنْ يَدٍ لِيَدي فَيُعْطيني البَعيدْ
يَدَهُ لأَلْثُمَها عَلى بابِ البُكاءِ
مَتى سَتُطْلِقُني الرِّوايَةُ...
مِنْ رِحْلَةِ السِّحْرِ الَّتي لا تَنْتَهي إلاّ إذا انْتَهَتِ البِدايَة؟
لَمْ تُعْطِني يَدَها وَأَعْطَتْني ابْتِسامَتَها لِنَبْتَدِئَ اللِّقاءْ
مِنْ لَحْظَةٍ أُخْرى، وَيَنْصَرِفَ السُّؤالْ
نَزَعَتْ مُسَدَّسَ روحِها
أَلْقَتْ بِهِ في «السِّينِ» وَاعْتَذَرَتْ إلَيَّ بِنَظْرَةٍ عَمّا اقْتَرَفْناهُ مَعًا...
عَنْ نِصْفِنا الهَمَجِيِّ.
أَلْقَتْ دَمْعَةً في «السِّينِ» عَنْ هَرَبي إلى باريسَ، قُلْتُ لَها:
- لَقَدْ كُنْتُمْ قُساةً حينَ كُنّا أَغْبِياءْ
مالَتْ عَلَيَّ وَأَوْمَأَتْ بِالحُزْنِ نَحْوَ مُخَيَّمِ اليَرْموكِ
أَلْقَتْ وَرْدَةً في القَلْبِ مِنْ يَدِها فَقُلْتُ «كَأَنَّنا في النّاصِرَة»
قالَتْ: سَتَأْتينا البِشارَةُ حينَ نَنْسى ما نُريدُ وَيَصْنَعُ النِّسْيانُ بَدْءَ الذّاكِرَة...
مِمّا نُحِبُّ أَنا وَأَنْتَ فَقُلْ لَهُمْ
أَنْ يُنْزِلوا الصُّوَرَ القَديمَةَ مِنْ أَماكِنِها عَلى جُدْرانِ مَأْتَمِهِمْ
سَنُنْجِبُ نِصْفَ ما يَلِدونَ كَيْ يَسْتَرْجِعوا أَطْفالَهُم.
وَالأَرْضُ خُبْزٌ لِلْجَميعِ فَهَلْ نُحِبُّ لِكَيْ نَموتَ؟ وَقُلْ لَهُمْ:
سَنُحِبُّ غَزَّةَ مِثْلَ حَيْفا، وَلْيُحِبُّوا أَرْضَنا مِنْ حائِطِ المَبْكى إلى الجُولانِ
وَلْيَبْنوا لَهُمْ طُرْوادَةً أُخْرى عَلى أَعْلى جِبالِ السّامِرَة
- كُنْتُمْ قُساةً، لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الدِّماءِ وَبَيْنَكُمْ إلاّ مَلابِسَنا الخَفيفَة
- كُنّا بَقايا المَذْبَحَة
دَمُنا هُناكْ...
كَمْ كانَ يُؤْلِمُنا فَلَمْ نَلْمَحْ سِواهُ عَلى صَقيعِ الإنْتِباهْ
- وَلَنا دَمٌ نَمْشي عَلَيْهِ إذا خَرَجْنا لِلشَّوارِعِ...
- لَمْ تَكونوا أَوْفِياءْ...
لِدِمائِكُمْ
أَسَفي عَلى طِفْلٍ يُريدُ بِأَنْ يَموتَ لِكَيْ نَموتْ
أَسَفي عَلى الشُّعَراءِ يُلْقونَ الحِجارَةَ مِنْ قَصائِدِهِمْ عَلى قُبُلاتِنا
وَيُلَوِّثونَ كَأَنَّهُمْ جُنْدٌ مَناديلَ القَصيدَةِ بِالدِّماءْ
أَسَفي عَلى أُمٍّ تُقاتِلُ حُزْنَها بِالكِبْرِياءْ.
وَبَكَتْ عَلى صَدْري، سَمِعْتُ «السِّينَ» يَهْمِسُ عِنْدَ خاصِرَتي كَثَوْبِ العاشِقَة:
«أَلأَرْضُ تَكْرَهُ عِشْقَها وَتُريدُ عُشّاقًا عَلَيْها».
- لا أَرْضَ بَيْنَ شِفاهِنا، انْتَظِري عَلى بابِ الرَّحيلِ لِنَلْتَقي
- هَلْ قُلْتَ إنَّ الأَرْضَ تورَثُ كَاللُّغَة؟!
- قولي لَهُمْ أَلّا يَخافوا
أَلأَرْضُ تُورَثُ كَاللُّغَة
وَالأَرْضُ تُورَثُ بِاللُّغَة
وَلَنا بِلادٌ سَوْفَ نُعْطيكُمْ لَها وَنَظَلُّ فيها
وَ«السِّينُ» يَهْمِسُ:
«غادَروا، غَيْرَ الكَلامْ
أَلْقَتْ عَلَيْهِ وَداعَها حَجَرًا وَغادَرَتِ المَكانْ
«سَأَعودُ» قالَ وَلَمْ يَعُدْ
«سَأَعودُ» قالَ، وَعادَ مَقْتولاً عَلى قَدَمَيْهِ، لَمْ يَجِدِ الحَقيقَة...
«في الحَرْبِ»، قالَتْ «لَمْ يَعُدْ مَعْنىً لِمَوعِدِنا»، وَعادْ».
- وَأَنا أُريدُ بِأَنْ أَعودَ إِلَيْكِ مِنْ مَنْفى الرَّحيلِ
إلى بِلادٍ لَمْ يَعُدْ في الشِّعْرِ مُتَّسَعٌ لِمَلْحَمَةِ الرُّجوعِ إلى شَواطِئِها البَعيدَة
لَمْ يَبْقَ مِنِّي غَيْرُ ما يَكْفي لأَشْرَبَ قَهْوَةَ التَّحْليقِ في أَسْرارِ هذا الكَوْنِ مِنْ شَفَتَيْكِ
أَكْتَشِفُ الطَّريقَ إلَيَّ فِيَّ، أَنا القَصيدَة
وَ«السِّينُ» يَهْمِسُ قُرْبَ خاصِرَتي فَأَبْكي
لَوْ كانَ عَلَّمَني «حَبيبي» سِرَّهُ المائِيَّ قَبْلَ رَحيلِهِ في زَوْرَقِ الإِشْراقِ
كُنْتُ عَرَفْتُ أَنَّ الأَرْضَ مِثْلُ البَحْرِ
لَيْسَ لَهُ دُروبٌ غَيْرُ ما قَطَعَتْ زَوارِقُنا
وَأَنَّ الأنْبِياءَ لَهُمْ بَساتينُ الكِهانَةِ أَيْنَما كانوا وَلَيْسَ لَهُمْ عَقيدَة
وَالعِشْقُ أَحْيانًا خِيانَةُ مَنْ تُحِبُّ
لِكَيْ تَذوقَ عَلى يَدَيْهِ مَرارَةَ العُتْبى وَيَغْسِلَكَ النَّدَمْ
مِمّا اقْتَرَفْتَ عَلى ضِفافِ التَّجْرِبَة.
مَنْ أَنْتَ كَيْ تَأْتي إِلَيْهِ عَلى وَضاءَةِ عاشِقٍ لَمْ تَمْتَحِنْهُ ذُرى الحَضيضِ
وَلَمْ يَذُقْ لَهَبَ السُّؤالِ وَلا عَذابَ الأَجْوِبَة.
مَنْ أَنْتَ كَيْ تَأْتي إِلَيْهِ بِلا اعْتِذارِكَ
هَلْ تَطيرُ كَنَحْلَةٍ فَوْقَ السُّجودِ عَلى بِساطِ التّائِبينْ.
مَنْ أَنْتَ حَتّى لا تُؤَلِّفَكَ العَناصِرُ
لا يَزورَكَ طائِفٌ مِمّا تُحِبُّ النَّفْسُ
قُرْبَ بُلوغِها بابَ الخُروجِ إلى رَصيفِ الرّاحِلينْ.
يا سَيِّدي، أَتموتُ أَجْنِحَتي عَلى ماءِ البِدايَةِ كَيْ يَظَلَّ الحُزْنُ سَيِّدَ رُوحِنا
وَنَصيرُ في مَوْتِ الوُقوفِ حِجارَةً لِلأَوْدِيَة
يا سَيِّدي، هَلْ كانَ آدَمُ قَدْ أَطاعَ اللّهَ ثُمَّ عَصاهُ حينَ أطاعَهُ بِالمَعْصِيَة
يا سَيِّدي، سَيَخونُني شَعْبي
وَتَنْصَرِفُ المَرايا عَنْ مُروري في المُخَيَّمِ
حينَ أَلْثُمُ كَفَّ «ريتا» تَحْتَ فانوسِ المُخَيَّمْ
لَنْ يُدْرِكوا مَعْنى انْصِرافي عَنْ رُخامِ الوَقْتِ نَحْوَ رُخامِ «ريتا» الأُنْثَوِيِّ، لأَنَّ أَعْيُنَهُمْ نَوارِسُ لِلرُّجوعِ تَطيرُ في قَفَصِ الحَنينِ بِدونِ أَجْنِحَةٍ، لِتُلْقيَ دَمْعَها مَطَرًا عَلى ماءِ البِدايَةِ في بِلادِ الأُمْنِيَة.
«هِيَ أُغْنِيَة!»
لكِنَّهُمْ لَنْ يُدْرِكوا أَنَّ الغِناءَ هُوَ ابْتِداءُ المَرْثِيَة
هِيَ أُغْنِيَة، هِيَ أُغْنِيَة
سَنَظَلُّ نَنْشُرُها عَلى قَوْسِ المَسافَةِ بَيْنَنا عَلَمًا لِتَعْرِفَنا البِلادُ بِهِ
وَلكِنَّ النُّزوحَ لَهُ بِلادٌ كَيْفَ يُنْكِرُها نَهارٌ لا يُفارِقُ جوعَنا أَبَدًا
وَلَيْلٌ يَشْتَهي سَهَرَ العِناقِ عَلى العِناقِ
وَنَشْوَةُ السُّمّارِ تَمْشي في نَبيذِ الأُمْسِياتِ إلى نَبيذِ الأَقْبِيَة
هِيَ أُغْنِيَة!
فَلْيَكْتُبوا أَسْماءَهُمْ فيها، وَيَمْضوا نَحْوَ مُفْتَرَقِ الطَّريقِ إلى زَوارِقِهِمْ
لِيَصْطادوا مَحارَ العُمْرِ مِنْ صَدَفِ البِحارِ يَعيشُ في صُدَفِ الرِّياحْ.
لا شَيْءَ غَيْرَ لَآلِئِ الفَرَحِ الصَّغيرَةِ وَهِيَ تَلْمَعُ في أَصابِعِنا
وَيُطْفِؤُها المَساءُ أَوِ الصَّباحْ...
قَبْلَ الوُصولِ، فَلا وُصولَ إلى الوُصولْ.
نَحْنُ البِدايَةُ وَالبِدايَةُ في الطَّريقِ إلى بِدايَتِنا الأَخيرَة
وَالعُمْرُ قِصَّتُنا الوَحيدَةُ وَالجَميلَةُ وَالقَصيرَة.
قولي لَهُمْ إِنّي وَجَدْتُ البابَ لِلْمَلَكوتِ، كُلُّ الأَرْضِ سَيِّدَتي
وَأَعْظَمُ شاعِرٍ في الأَرْضِ نَهْرُ «السِّينِ» وَالرّوحُ امْرَأَة.
قولي لَهُمْ إِنّي عَثَرْتُ عَلى أَبي في الصِّينِ يَعْمَلُ في حَديقَتِهِ الصَّغيرَة
وَرَأَيْتُ أُمّي في جِبالِ الأَلْبِ تَضْفِرُ مِنْ زُهورِ الكَسْتَناءِ قِلادَةً لأَخي وَإكْليلاً لأُخْتي
وَسَمِعْتُ نَهْرَ «الكَنْجِ» وَهُوَ يَخْتَرِقُ الذُّنوبَ إلى الذُّنوبْ:
يا سَيِّدي أَيَّ الكُؤوسِ شَرِبْتُ إلاّ مِنْ يَدَيْكْ
أَيَّ الضِّفافِ عَبَرْتُ إلاّ ضَفَّتَيْنِ لِراحَتَيْكْ
يا سَيِّدي أَنا لَمْ أَكُنْ شَيْئًا سِوى دَرْبي إِلَيْكْ.
يا سَيِّدي كانَ الصَّبِيُّ يُريدُ غُصْنًا واحِدًا لِتَحُطَّ نَحْلَتُهُ عَلَيْهْ
أَنْ لا يَموتَ أَبوهُ أَوْ أَحَدٌ مِنَ النّاسِ الَّذينَ يُحِبُّهُمْ أَوْ أَنْ يَموتْ
لكِنَّهُمْ ماتوا، وَنَحْلَتُهُ تُفَتِّشُ عَنْ جَناحَيْها لِتَنْهَضَ مَرَّةً أُخْرى
كَأَنَّ الأَشْقِياءْ
لا يَعْرِفونَ - لِكَيْ يَدومَ شَقاؤُهُمْ - مَعْنى الهَزيمَة.
ماذا يُريدُ البَحْرُ مِنْ عَبَثِ الوُصولِ إلى فِناءِ اليابِسَة؟
لَوْ كُنْتُ مِثّلَ الشّاعِرِ الأَعْمى لَبِسْتُ الدّارَ في سَفَري
سَهِرْتُ عَلى ضِفافِ «السِّينِ» عِنْدَ الظُّهْرِ في عَكّا القَديمَة
وَزَرَعْتُ رُمّانًا وَزَيْتونًا وَأَسْرَجْتُ الخُيولَ عَلى المَوائِدِ وَالأَسِرَّةِ وَالسَّتائِرْ.
لَوْ أَنَّني أَعْمى أُسافِرُ أَيْنَ شِئْتُ وَلا أُسافِرْ.
أَتُرى وَقَدْ رَحَلَ المَكانُ عَنِ المَكانِ أَعودُ ثانِيَةً لِحَيْفا!
وَأعودُ ثانِيَةً لِطِفْلٍ لَمْ يَكُنْ أَبَدًا
سِوى ما يَدَّعيهِ دَمٌ يُؤَرْجِحُهُ اعْتِذارُ الإنْتِباهِ عَلى صُدودِ الذّاكِرَة؟
لا لَنْ أَعودْ
لِتُعِدَّني أُمِّي لِيَوْمِ زِفافِها لأَبي وَيَقْتُلَني اليَهودْ
لا لَنْ أَعودْ
حَتّى وَلَوْ عادَ الصَّبِيُّ إلى الزُّقاقِ، وَراجَعَتْ حَيْفا طُفولَتَها كَأَنَّ الأَرْضَ تُولَدُ مِنْ جَديدْ.
لا لَنْ أَعودَ لِكَيْ أَراهُمْ مَرَّةً أُخْرى يَشُدّونَ البِحارَ إلى زَوارِقِهِمْ
وَيَرْتَطِمونَ بِالأَسْماءِ وَهيَ تَمُرُّ كَالطَّلَقاتِ بَيْنَ سُقوطِ شارِعِنا وَأَحْذِيَةِ الجُنودْ.
سَأَعودُ نَحْوَ أَبي وَأُمِّي
وَسَأَدْخُلُ الأَرْضَ الَّتي فارَقْتُها مِنْ بابِها الخَلْفِيِّ
أَصْعَدُ في جُذورِ الأُقْحُوانِ إلى المَساءِ بِدونِ نَوْمي
لا بُدَّ مِنْ شَبَحٍ لِمَقْتَلِنا لِنُرْجِعَ لِلصَّدى شَبَهَ الدِّماءِ بِبَعْضِها
وَالأرْضُ تَهْمِسُ: مِنْ هُنا سَقَطوا إِلَيّ
شاهَدْتُ «صَبْرا» وَهِيَ تَزْحَفُ تَحْتَهُمْ ظِلّاً وَتَخْرُجُ كَالفَراشَةِ مِنْ يَدَيّ
شاهَدْتُ «قانا» وَهِيَ تَنْهَضُ في قَنابِلِهِمْ وَتَسْتَلْقي عَلَيّ
وَرَأَيْتُ «شاتيلا» تَذوبُ كَأَنَّها شَمْعٌ
وَعُصْفورًا يُغادِرُ طِفْلَةً مِنْ نَحْرِها.
وَأَتى رِجالٌ كَالحِبالِ
تَوَقَّفوا بَيْنَ المَساءِ وَبَيْنَنا، التَقَطوا البُكاءَ وَغادَروا مِثْلَ الحِبالْ
لَمْ يَتْرُكوا دَمْعًا لِنَبْكِيَ لِلْخَناجِرِ فَاخْتَبَأْنا في الحِجارَة.
قالَ المُراسِلُ «تَنْتَهي كُلُّ المَجازِرِ بِالدِّماءِ، وَفي دُموع الطِّفْلِ تَخْتَبِئُ المَجازِرْ
لِتَعودَ ثانِيَةً، عَلَيْنا أَنْ نُحاذِرْ.
لا تَكْتُبوا غَيْرَ الدِّماءِ فَإِنَّها لُغَةٌ وَتَمْضي
وَغَدًا يُقالْ:
كانوا هُنا يَتَوَهَّمونَ رَصيفَ عَوْدَتِهِمْ عَلى الأَقْدامِ
يَنْتَظِرونَ حَيْفا، يُسْقِطونَ عِصِيَّهُمْ وَيُغادِرونْ
لا يَسْتَقِرُّ عَلى النَّوى أَحَدٌ إذا أَلْقى عَصا التَّرْحالْ
ماتُوا.
وَماتُوا مَرَّةً أُخْرى لأَنَّ الصَّمْتَ لَمْ يَتْرُكْ لَهُمْ أَثَرًا
وَلُؤلُؤةُ البُكاءِ تَظَلُّ تُطْفِئُها هُنَيْهاتُ الرِّجالِ عَلى النِّساءِ، وَما يُرَدِّدُ شاعِرٌ بَقّالْ
وَالدَّمْعُ يَلْتَقِطُ المَجازِرَ في مَراياهُ وَتَحْمِلُها الرَّسائِلُ لِلرَّسائِلِ فَلْنُحاذِرْ
مِنْ صَرْخَةِ الماءِ السَّحيقَةِ حينَ تُطْلِقُها الدُّموعُ مِنَ المَحاجِرْ.
وَغَدًا يُقالْ:
ماتُوا بِلا سَبَبٍ سِوَى كَيْدِ الرُّواةِ، وَما رَمى الدَّجّالُ في بِئْرِ النِّساءِ مِنَ الرَّجالْ.
لَمْ يولَدُوا لِيُؤَلِّفوا الأَشْجارَ مِمّا يَزْرَعونَ عَلى سُفوحِ جِبالِهِمْ، وَيُؤَلِّفونْ
أَوْلادَهُمْ مِنْ لَحْظَةِ العِشْقِ السَّريعَةِ وَانْتِظارِ القابِلَة.
وُلِدوا لِكَيْ تُعْطي المَجازِرُ وَقْتَهُمْ لِلْعائِدينَ بِدونِ وَقْتٍ
مِنْ رُفاتِ الكِذْبَةِ الأولى إلى عَصْرِ الغُزاةِ المَيِّتينْ.
كَمْ أَلْفَ عامٍ قَدْ مَكَثْنا في النِّساءِ لِكَيْ نَكونَ - سَيَسْأَلونْ -
دَرْبًا لِهذا الزَّحْفِ،
كَمْ حَمَلَتْ بِنا امْرَأَةُ الخُرافَةِ كَيْ نَكونْ
أَرْضًا لِمَذْبَحَةٍ وَمَذْبَحَةً لأَرْضْ.
وَسَيَسْأَلونْ:
أَنَظَلُّ نَشْرَبُ خَمْرَةَ الكُهّانِ مِنْ عِنَبِ الكَلامِ وَيَشْرَبونْ...
خَمْرَ الجَليلِ وَنَحْنُ نَعْصرُها على حَجَرِ السُّجودِ، وَيَسْكَرونْ.
أَنَظَلُّ نُعْطيهِمْ خُرافَتَنا لِتَسْكُنَها خُرافَتُهُمْ وَنَسْكُنُ نَحْنُ فيها
طَيْرًا عَلى غُصْنِ الدُّعاءِ لِسادَةِ المَوْتى، صَهيلاً لِلْخُيولِ المَيِّتَة،
بابًا عَلى بابِ الضَّريحِ
لَتَخْرُجَ الأَسْماءُ مِنْهُ إلى مَواقِعِها عَلى عُشْبٍ عَرَفْناهُ،
وَتَسْتَلْقي بَناتُ الأَنْبِياءْ
في حَلْبَةِ الأَلْوانِ،
يَلْتَهِمُ الرُّخامُ الأُنْثَوِيُّ نَضارَةَ الأَزْهارِ،
تَلْتَقِطُ المَرايا زينَةً سَوْداءَ عَنْ شَجَرِ (الفَلاشا)، فَلْنُحاذِرْ!
مِمّا تَقولُ ضِفافُ هذا السَّبْيِ لِلْماءِ الحَزينِ
وَما يُقَلِّبُ طائِرُ الأَشْجانِ - أَسْرَعُ طائِرٍ في الأَرْضِ - مِنْ أُفُقٍ
وَيَقْرَأُ مِنْ سُطورٍ في كِتابِ الذّاكِرَة.
لا شَيْءَ في كَنْعانَ أَبْعَدُ مِنْ حِجارَتِها
وَلكِنَّ التُّرابَ خِزانَةُ المَوْتى، وَأَفْصَحُ ما تُخَبِّئُهُ الحَجَرْ.
وَالبُعْدُ أَقْرَبُ ما يَكونُ إذا رَأَتْهُ العَيْنُ خَلْفَ دُموعِها
وَالحُزْنُ أَسْئِلَةُ البَعيدِ تَظَلُّ واقِفَةً عَلى بابِ البِدايَةِ كَالشَّجَرْ.
وَسَيَسْأَلون:
لا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ يُلَوِّثُ أَرْضَهُمْ بِدِمائِنا
لا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ لِنولَدَ قَبْلَ مَوْلِدِهِمْ سَبايا
لا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ لِيَخْتَرِقوا إلَيْنا الغَيْبَ كَيْ يَصِلوا
فَمَنْ أَعْطاهُمُ المِفْتاحَ وَالبابَ المُؤَدّي نَحْوَ أَرْضٍ قَدْ مَلَكْناها عَرايا...
إلاّ مِنَ الأَيّامِ، ثُمَّ سَيَسْأَلونَ وَيَسْأَلونْ.
وَلَرُبَّما نَصَبوا عَلى أَرْضِ السُّؤالِ خِيامَهُمْ لِيُغادِروا أَرْضَ الخُرافَةِ، فَلْنُحاذِرْ!
لا بُدَّ مِنْ لَيْلٍ وَغانِيَةٍ وَشاعِرْ
وَحِكايَةٍ أُخْرى عَلى أَرْضِ السُّؤالِ
لِيَنْبُتَ العُشْبُ الجَديدُ عَلى التَّضاريسِ القَديمَةِ مَرَّةً أُخْرى وَيَنْصَرِفَ السُّؤالْ.
ثَوْبٌ لِريتا مِنْ حَريرِ دِمَشْقَ، مَزْمورٌ عَلى المَوّالِ،
أَحْوالُ النَّبيذِ عَلى الرُّخامِ الأُنْثَوِيِّ،
حَمامَةٌ زَرْقاءُ في بَهْوِ القَصيدَةِ كُلَّما نَعَفَتْ سَماءً مِنْ جَناحَيْها
تَناثَرَتِ الرُّموزُ لِكَيْ يَراها الشّاعِرُ الأَعْمى بِإصْبَعِهِ، وَتَحْمِلَهُ الإشارَة...
نَحْوَ المَسيحِ، وَتَسْقُطَ الكَلِماتُ مِنْ فَمِهِ قَرابينًا عَلى جَسَدِ البِشارَة:
(ما كانَ كانَ وَلَنْ يَكونَ سِوى الَّذي سَيَكونُ وَالأَيّامُ تَكْتُبُنا عَلى ثَوْبٍ سَتَخْلَعُهُ وَتَمْضي.
وَلَنا حَوائِجُنا عَلى الآتي وَآلَةُ عِشْقِنا، وَهُنَيْهَةُ الفَرَحِ المُخَبَّأِ في جَوانِحِنا لِيَأْتي،
وَلَنا انْبِثاقُ الرُّوحِ تَخْرُجُ مِنْ يَنابيعِ السُّؤالِ لِيُصْبِحَ المَجْهولُ مِنّا،
وَنَصيرَ مِنْهُ فَنَكْتُبُ الأَشْعارَ فيهِ بِدونِ تاريخٍ وَنَبْحَثُ فيهِ عَنّا.
وَلَنا سُؤالُ الشِّعْرِ عَنْ سَبَبِ اخْتِراعِ السَّيْفِ، وَالأَيّامُ تَقْتُلُنا بِلا سَيْفٍ وَلا سَبَبٍ فَإنّا...
قَوْسٌ تُرابِيٌّ عَلى وَلَهِ الحِجارَةِ بِالنُّجومِ يَشُدُّنا حَجَرٌ وَيُفْلِتُنا حَجَرْ
سَفَرٌ وَلَيْسَ لَنا سِواهُ وَلا نَعودُ إلى السَّفَرْ
كَمْ رِحْلَةٍ ضاعَتْ عَلى سَفَرِ الوُقوفِ، وَنَجْمَةٌ حَطَّتْ عَلى لَيْلِ القَصيدَةِ ثُمَّ أَطْفَأَها الضَّجَرْ...
مِمّا تُرَدِّدُهُ طُيورُ العُشْبِ فَوْقَ هُبوطِها، وَمِنَ انْخِذالِ الأَجْنِحَة،
في حُرْقَةِ التَّحْليقِ نَحْوَ... إلى احْتِراقِ الأَجْنِحَة.
وَالنّاسُ طَيْرٌ قَدْ تَطيرُ
فَلِمَ الوُقوفُ وَنَحْنُ نَهْرٌ مِثْلُ هذا النَّهْرِ
لكِنْ لا ضِفافَ لَهُ، وَماءٌ لا يُشاهِدُ ما يَزورُ.
أَنَظَلُّ نَحْرُسُ خَوْفَنا بُعْدًا عَلى غُصْنِ اللِّقاءِ، وَلَيْسَ بَيْنَ شِفاهِنا إلاّ العُبورُ.
تَلِدُ المَسافَةُ شارِعًا بَيْنَ العِناقِ وَبَيْنَنا
تَجْتازُهُ الطَّلَقاتُ وَالمَوْتى وَأَطْفالٌ بِدونِ حَقائِبٍ،
وَنَمُدُّ أَيْديَنا عَلى نَدَمِ العِناقِ فَلا تَرانا.
خَلِّي السَّماءَ تَعودُ أَدْراجَ السَّماءِ
دَعي السُّؤالَ يَطيرُ مِثْلَ فَراشَةٍ فَوْقَ السَّريرِ
لَنا زَمانُ حَمامَةٍ لِتَطيرَ مِنْ قَرميدِ صُدْفَتِنا إلى جَرَسِ الكَنيسَةِ
لَنْ نُبَدِّدَهُ عَلى وَلَهٍ يُعاوِدُهُ سِوانا.
سَأَقولُ إنَّ الحُبَّ زَوْرَقُنا الوَحيدُ لِنَعْبُرَ الطّوفانَ
فَلْيَبْنوا سَفينَتَهُمْ عَلى «التَّوْبادِ» مِمّا خَلَّفَ التّابوتُ مِنْ خَشَبٍ وَينْتَظِروا الحَمامَة
وَلْيَصْلِبوني!)
وَأَنا هُنا حَجَرٌ يُدَوِّنُ فِيَّ مِشْيَتَهُ الغُرابْ
وَأَرى مَصارِعَهُمْ بِلا دَمِهِمْ
فَهَلْ يَأتونَ مِنْ إلْياذَةِ المَوْتى وَيَرْويهِمْ عَلى مَلَأٍ كِتابْ.
يَأْتونَ غُيّابًا إلى الدُّنْيا،
كَأَنْ لَمْ يَحْضُروا أَبَدًا سِوى لِيُحَدِّدوا وَقْتَ الغِيابْ
تَتَرَبَّصُ الأَوْقاتُ في دَمِهِمْ
فَإنَّ دَمَ الذَّبيحَةِ وَقْتُها وَالشَّيْءُ سِكّينٌ بِلا غِمْدٍ يُحَدِّقُ في الرِّقابْ
فَهُمُ الَّذينَ تَقاسَموا خُبْزَ الخَديعَةِ حَوْلَ مائِدَةِ الدَّخيلِ
وَخَبَّأوا في حائِطِ المَبْكى مَصارِعَهُمْ صَلاةً لِلسُّيوفِ وَلِلْحُفَرْ
وَهُمُ الَّذينَ أَتَوْا عَلى ضِعْفِ الحِكايَةِ ذاتِها
كَيْ يَمْنَحوا أَصْحابَها ضِعْفَ الحَياةِ وَيَحْمِلوا ضِعْفَ السَّفَرْ
لَمْ يَشْهَدوا بَدْرًا
وَلكِنَّ السُّيوفَ لَها مَناسِكُ في دِماءِ الأُضْحِياتِ كَأَنَّها ثَمَرٌ
إذا اقْتَرَبَ الجَنى باحَتْ بِزينَتِها وَناوَلَها الشَّجَرْ...
لِقِطافِها،
وَالسِّحْرُ يَقْتَنِصُ الدُّروبَ مِنَ الدُّروبِ
إذا أَطالَ العاشِقُ النَّجْوى تَقَمَّصَهُ الرَّحيلُ إلى القَمَرْ.
لَمْ يَحْمِلوا إلاّ دِماهُمُ أَيْنَما ذَهَبوا
لأَنَّ السَّيْفَ يَعْرِفُهُمْ بِطيبَتِهِمْ
وَآثارِ السُّجودِ عَلى الجِباهِ وَحَيْرَةِ الأَيْلِ المُحاصَرِ حينَ يَهْرُبُ في النَّظَرْ.
وَأَنا هُنا حَجَرٌ كَمِ الْتَقَطَ المُراسِلُ صورَتي قَبْلَ ابْتِداءِ المَذْبَحَة
لِيُعيدَني رَجُلاً عَلى وَقْتِ الصَّدى بَعْدَ انْصِرافِ المَذْبَحَة
وَيَقولُ لي: مَنْ أَنْتَ؟
أَسْأَلُ:
- مَنْ أَنا؟
- مِنْ أَيْنَ جِئْتَ إلى هُنا؟
- مِنْ قَرْيَةٍ ماتَتْ وَعُمْري أَلْفُ عامْ
ما زِلْتُ أحْمِلُ إِسْمَها، رَغْمًا،لِتَعْرِفَني السُّيوفُ إذا أَتى زَمَنُ السَّلامْ
لا بُدَّ مِنْ مَوْتي وَإلاّ سَوْفَ يَلْتَبِسُ الهَديلُ عَلى الحَمامْ.
- مِنْ أَيِّ ناحِيَةٍ أَتَوْا؟
- مِنْ بَدْرٍ الكُبْرى.
- وَهَلْ كانوا يَهودًا أَمْ «فَلانچا»؟
- كانوا بَنادِقَ أَوْ سُيوفا
كانوا عَلى دَمِنا ضُيوفا
لَمْ يَقْتُلوا أَحَدًا
لَقَدْ مَرُّوا مُرورَ السَّيْفِ مِنْ عُنُقِ القَتيلِ
وَكانَ أَسْرَعُ مِنْ دَمِ القَتْلى فَعادَ إلى مَناطِقِهِمْ نَظيفا
- هَلْ كُنْتَ وَحْدَكَ أَمْ بَقِيتَ الآنَ وَحْدَكْ؟
- سَأَكونُ وَحْدي
ما زالَ أَهْلي يَأْكُلونَ الخُبْزَ مِنْ قَمْحِ الخَديعَةِ
يَرْتَدونَ ثِيابَهُمْ مَقْلوبَةً كَيْ يُنْكِروا آباءَهُمْ وَقْتَ الصَّلاةِِ
يُواصِلونَ تِلاوَةَ اللَّعَناتِ في التَّوْراةِ
لِلصَّدْرِ التُّرابِيِّ الَّذي تَرَكَتْهُ أَجْسادُ الرُّعاةِ عَلى السُّفوحِ
لِيُرْجِعوا العُشْبَ الطَّرِيَّ إلى مَوائِدِنا حَليبا.
سَأَكونُ وَحْدي
مَعَ نَجْمَةٍ سَمْراءَ تَلْمَعُ في سَماءٍ سَوْفَ أَجْعَلُها تُرابًا
ثُمَّ أَحْمِلُها عَلى كَتِفي غُروبا
وَأَظَلُّ أَبْكي تَحْتَها نَدَمًا
لَعَلَّ الأَرْضَ تَرْضى أَنْ أَعودَ لَها شَريدًا لا غَريبا.
سَأَكونُ وَحْدي
مَعَ حامِلاتِ الطِّيبِ لِلسَّرِّيسِ في كَنْعانَ
يَحْرُسْنَ الأُمومَةَ مِنْ كِلابِ الشِّعْرِ تَلْهَثُ في عَبيرِ البُرْتُقالِ
وَعِطْرِ غانِيَةٍ يُحاكي النَّرْجِسَ البَرِّيَّ في كَذِبِ النَّبيذِ عَلى السُّكارى.
سَأَظَلُّ وَحْدي
مَعَ حامِلاتِ الطِّيبِ في كَنْعانَ
لَمْ يَتْرُكْنَ تُفّاحَ الخُدودِ وَديعَةً في الحَقْلِ لِلسَّرْوِ الهَجينِ
وَلا أَباريقَ النُّهودِ لِصَدْرِ غانِيَةِ الرُّخامِ
تَمُرُّ أَلْوانُ الشَّوارِعِ مِنْهُ مُسْرِعَةً
وَيَدْخُلُ فيهِ وَجْهُ الشّاعِرِ الأَعْمى فَتَفْنى ذاتُهُ في ذاتِهِ فَوْقَ الرَّصيفِ
يَحُلُّ في رُوحِ المَكانِ
يَنامُ مِنْ باريسَ في حَيْفا وَيَحْلُمُ في بُخارى.
وَأَظَلُّ وَحْدي
مَعَ سَيِّداتِ الإنْتِظارِ عَلى ذُرى كَنْعانَ
يُزْجينَ الرَّسائِلَ، حُرْقَةً في الزَّعْتَرِ البَرِّيِّ،
شَوْقًا في خُدودِ عَرائِسِ الصَّبّارِ يُوجِعُنا بِلا لَمْسٍ،
نَشيدًا غامِضًا كَالرُّوحِ يَعْبُرُ مِنْ كُوى الأَزْهارِ
يَهْمِسُ في أَغاني العُرْسِ أَشْجانًا كَأَجْنِحَةِ الفَراشِ
وَيَعْتَري جَسَدَ التِّلاواتِ الهَجينَةِ رَعْشَةً ثَكْلى وَيَمْلَأُوهُ احْتِضارا.
سَأَظَلُّ وَحْدي
كَنْعانُ أَجْمَلُ وَهِيَ مَيِّتَةٌ
مِنَ امْرَأَةٍ تُنازِعُها عُجولُ البَحْرِ عِفَّتَها وَتَكْسو وَجْهَها الصَّحْراءُ عارا.
سَأَكونُ وَحْدي!
طُرْوادَةُ انْطَفَأَتْ كَما انْطَفَأَ السِّراجُ
فَهَلْ رَآها الشّاعِرُ الأَعْمى لِيَرْويَها كَلامًا أَوْ يُدَوِّنَها حُروفا؟
وَنُريدُ أَلّا تَقْتُلونا مَرَّةً أُخْرى
خُذوا أَصْواتَكُمْ عَنّا فَإِنّا لَمْ نَعُدْ حَتّى كَلامًا لِلْمَراثي
أَشْباحُنا لَيْسَتْ لَنا وَالرُّوحُ مَنْفىً في المَنافي
وَلَسَوْفَ تَبْني عُشَّها العَنْقاءُ في أَرْواحِنا لِيَموتَ فينا مَوْتُنا.
- لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ هُنا!
- لا. لَمْ نَكُنْ! كانوا هُنا...
فينا، وَكُنّا وَشْمَهُمْ فيها لِتَعْرِفَهُمْ بِنا
سَقَطَ القَريبُ عَلى البَعيدِ وَداهَمَتْ كَنْعانَ أَحْوالُ السَّحابِ فَحَلَّقَتْ مِنْ فَوْقِنا
صِرْنا عَصافيرًا وَلكِنَّ السَّماءَ كانَتْ لَهُمْ أَيْضًا
فَطِرْنا في فَضاءِ الأَنْبِياءِ عَلى تَضاريسِ الهَواءِ الشّاعِرِيَّةِ وَاخْتِلاطِ الأَزْمِنَة
جالوتُ يُبْعَثُ كُلَّ ثانِيَةٍ لِيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرى
وَيوسُفُ لَمْ يَزَلْ قَمَرًا عَلى لَيْلِ النِّساءِ بِمِصْرَ
تَبْتَلُّ السَّراويلُ الأَنيقَةُ في تَلَفُّتِهِ وَتَصْهَلُ في النُّهودِ الأَحْصِنَة
وَهَياكِلٌ تُبْنى عَلى حَجَرٍ سِوى حَجَرِ التِّلاوَةِ
ثُمَّ يَرْتَفِعُ الحَضيضُ عَلى السُّجودِ كَأَنَّهُ مَوْجٌ
وَتَنْتَصِبُ الهَياكِلُ في الْتِباسِ السّاجِدينَ عَلى الْتِباسِ الأَمْكِنَة
لا شَيْءَ في هذا الضَّبابِ القُرْمُزِيِّ
سِوى دِمانا وَهِيَ تَحْمِلُها الرِّوايَةُ نَحْوَ مَوْقِعِها الأَخيرِ عَلى انْتِهاءِ المَذْبَحَة
لَنْ يَسْتَطيعَ الشَّاعِرُ الأَعْمى تَوَهُّمَنا
سَيَبْتَلِعُ الفَضاءُ طُيورَهُ قَبْلَ الوُصولِ
لَنا مَدىً بَعْدَ التَّوَهُّمِ لا تَمُرُّ الرُّوحُ فيهِ وَلا يُشارِفُهُ اصْطِفاقُ الأَجْنِحَة.
لَوْ كُنْتُ «فِرْيامَ» الحَزينَ بَكَيْتُ مِنْ فَرَحٍ
لأَنَّ قَوارِبَ الإغْريقِ قَدْ تَرَكَتْ لَهُ صَحْوَ الرَّمادِ عَلى حُضورِ الأَضْرِحَة.
حَتّى بَقايانا لَهُمْ
هذي الخَرائِبُ سَوْفَ تَخْلَعُ إِسْمَها عَنّا
وَتَخْرُجُ مِنْ سَواعِدِنا الحُقولُ إلى سَواعِدِهِمْ
وَتَبْتَدِئُ البِدايَةُ مِنْ جَديدٍ في الجَداوِلِ وَالزُّهورِ وَفي الحُقولِ وَفي الثَّمَرْ.
وَلَسَوْفَ تَخْتَلِطُ البِدايَةُ بِالخِتامْ
وَيَصيرُ عُمْرُ الأَرْضِ بَعْدَ رَحيلِنا خَمْسينَ عامْ
«ريتا» سَتَرْقُصُ في حُقولِ الأُقْحُوانِ كَأَنَّها سَلْمى
وَتَشْرَبُ مِنْ نَبيذِ القَمْحِ حَتّى تَرْتَوي الأَلْوانُ في دَمِها
وَتَخْرُجُ مِنْ مَلامِحِها الثُّلوجُ إلى الأَبَدْ
وَيُحِبُّها الشُّعَراءُ حينَ يَرَوْنَ حِنْطَةَ أُمِّهِمْ فيها وَقَهْوَتَها
وَيَعْتَذِرونَ مِنْ باريسَ عَنْ شُقَقِ النُّزوحِ الفاخِرَة...
لِلرِّيفِ
يَعْتَذِرونَ عَنْ آبائِهِمْ لِلْحَرْبِ
عَمّا أَسْلَفَتْ كَلِماتُهُمْ قَبْلَ احْتِفاءِ الشِّعْرِ بِالوَطَنِ المُدَوَّرِ وَاحْتِفاءِ الذّاكِرَة...
بِرُجوعِ سَلْمى كَالرِّسالَةِ حينَما خَلَعَتْ لَهُمْ «ريتا» مَلابِسَها
وَقَدْ تَأْتي الرِّسالَةُ في جَسَدْ
فَخُذوا رِسالَتَكُمْ - يَقولُ الشَّاعِرُ الأَعْمى -
أَحِبُّوا أَرْضَكُمْ في غَيْرِكُمْ
وَتَعَلَّموا لُغَةَ البَراري حَيْثُ لا تَتَناغَمُ الأَصْواتُ وَالأَلْوانُ إلاّ في تَقاطُعِها
لِتَصْنَعَ جَوْقَةً لِلرُّوحِ يَسْمَعُها الجَميعُ وَلا يُشاهِدُها أَحَدْ.
ريتا أَنا، ريتا سِوايَ
لَنا عَذابٌ واحِدٌ في الآنَ
نَكْرَهُ ذاتَنا في المَشْيِ
يُنْكِرُنا اللِّقاءُ عَلى العَشاءِ كَأَنَّنا نَزْني
فَأَيْنَ نَفِرُّ مِنْ كَيْدِ البِلادِ لأَهْلِها؟
أَوّاهُ لَوْ أَنَّ السَّريرَ هُوَ البَلَدْ!
قَدْ تَلْثَغُ الأَلْوانُ في «ريتا» وَلَكْنَةُ قَمْحِها وَشْمٌ لِسُنْبُلَةٍ رَأَيْناها مَعًا
وَلَرُبَّما كانَ اعْتِمارُ العِطْرِ قُبَّعَةً يُغيظُ الزَّعْتَرَ البَرِّيَّ أَحْيانًا
فَيَصْمُتُ في تَأَوُّهِها صَهيلُ جَوادِهِ العَرَبِيِّ
تُصْبِحُ نَشْوَتي أَصْغَرْ
وَنَحْلَةُ نَهْدِها الشَّقْراءُ تَلْدَغُ لَوْنِيَ الأَسْمَرْ
كِلانا يَدَّعي بَلَدًا
فَأَيْنَ هِيَ البِلادُ إذا انْسَكَبْنا في العِناقِ
وَلَمْ نَعُدْ شَيْئًا سِوى وَصْفٍ لِوَصْفِ النّارِ وَهِيَ تُشِعُّ في بَهْوٍ مِنَ المَرْمَرْ
وَأَيْنَ هِيَ البِلادُ إذا انْتَقَيْنا شُرْفَةً أُخْرى وَبَحْرًا مِنْ تَطَلُّعِنا
فَتَنْسَكِبُ السُّفوحُ عَلى السُّفوحِ كَأَنَّها ماءٌ لِنُبْحِرَ فيهِ نَحْوَ سَواحِلِ النِّسْيانِ
تَنْصِبُ خَيْمَةُ الإنْسانِ في كُلِّيَّةِ العِشْقِ الفَسيحَةِ
حَيْثُ لا وَطَنٌ يُطارِدُهُ وَلا عَسْكَرْ.
أَقولُ لَها سَتَكْفينا سَماءُ سَريرِنا لِنَطيرَ أَحْيانًا
وَمَشْيُكِ نَحْوَ وَجْهِكِ في الجِدارِ
لِكَيْ نَزورَ مَرافِئَ العِشْقِ القَديمِ عَلى سَواحِلِ «كَرْميئيلْ»
وَنَزورَ نافِذَةً رَمَتْ مِنْها «تَمارا» الأُقْحُوانَ عَلى مُرورِ «شَآلْتِئيلْ»
(وَشَآلْتِئيلْ...
ما زالَ يَجْلِسُ في حَديقَةِ بَيْتِهِ خَمْسينَ قَرْنًا كُلَّ يَوْمٍ
كَيْ يُفَتِّشَ في ثُقوبِ النّايِ عَنْ مَزْمورِ داوودَ الأَخيرِ
فَتَصْرُخُ النّايُ اللَّعينَةُ في أَسىً: يا ليلْ يا عينْ).
وَالعِشْقُ يا «ريتا» زَمانُ زَمانِنا لِنَعيشَ فيهِ كَما نُريدُ
وَلا نَعيشُ كَما أَرادوا
وَنُؤَلِّفُ الأَوْقاتَ مِنْ فَرَحِ الفَراشِ
يَرِفُّ فَوْقَ بُكورَةِ الأَزْهارِ تولَدُ في تَلَفُّتِنا،
وَبَيْنَ الآخَرينَ وَبَيْنَنا بَحْرٌ
شَواطِئُنا خَمائِلُ مِنْ سَماواتٍ عَلى رَمْلٍ وَشاطِئُهُمْ رَمادُ
يَمْشونَ فَوْقَ حِبالِ نَكْبَتِهِمْ كَأَنَّ الأَرْضَ تَقْتُلُهُمْ إذا ابْتَسَموا،
وَلَمْ يَتَذَوَّقوا رُمّانَةَ المَنْفى لِكَيْ تَبْقى مَفاتيحُ الرُّجوعِ لَهُمْ وَتَنْتَظرَ البِلادُ.
وَأَنا انْتَظَرْتُ وَلَمْ أَكُنْ أَدْري بِأَنَّ الإنْتِظارَ هُوَ السَّفَرْ
وَبِأَنَّ أَشْعاري سَتَحْمِلُني إلى مَنْفى القَصيدَةِ
حَيْثُ يَضْطَجِعُ الكَلامُ عَلى سُطوحِ الغَيْمِ يَنْتَظِرُ المَطَرْ...
عَبَثًا
وَيَحْمِلُني المَساءُ إلى الصَّباحِ حَماقَةً لِغَدٍ سَتَرْويها الصَّحيفَةُ لِلضَّجَرْ.
تَعِبَتْ دَواويني مِنَ الشُّهَداءِ
مِنْ مُدُنٍ أَراها في المَنامِ
مِنَ النُّزوحِ إلى بَساتينِ الكَلامِ عَلى حَجَرْ
تَعِبَ ابْتِعادي في الرُّجوعِ إلى قُرىً نَسِيَتْ حِجارَتُها البُيوتَ
وَلَمْ يَعُدْ مِنْ وَصْفِها أَثَرٌ يَدُلُّ عَلى أَثَرْ.
لَمْ يَبْقَ مِنّا غَيْرُهُمْ
لَمْ يَبْقَ مِنْ حَيْفا سِوى «ريتا» وَمِنْ «سَلْمى» سِوى بَعْضِ الكَلامْ...
عَنْ نَوْمِها في حِضْنِ دُمْيَتِها أَخيرًا بَعْدَ أَنْ نامَ الهَديلُ عَلى الحَمامْ
وَأَنا أُريدُ النَّوْمَ، دُمْيَتِيَ الشَّقِيَّةُ لا تَكُفُّ عَنِ البُكاءِ وَلا تَنامْ.
خَمْسونَ عامًا في الصَّدى...
أُمّي تُعَلِّمُني ارْتِداءَ مَلابِسي وَأَبي يُمَنِّيني خُيولَ رُجولَتي خَمْسينَ عامْ
وَالأَرْضُ تُورِثُني الغُزاةَ كَأَنَّهُمْ وَقْتٌ
فَهَلْ نَدَعُ الفَصولَ تَمُرُّ مِنْ أَقْدامِهِمْ لِنَموتَ فيها
وَيُغادِرونَ لِكَيْ نُقاتِلَ غَيْرَهُمْ،
لا بُدَّ مِنْ غَزْوٍ فَإِنَّ الأَرْضَ تُنْبِتُ عُشْبَها غَصْبًا
وَهذي الأَرْضُ بابٌ لِلسَّماءِ كَما رَوى الرّاوي
وَسَوْفَ تَظَلُّ تَمْلِكُها الغُزاةُ وَتَدَّعيها
وَلَنا بِها ما نَدَّعي
وَلَهُمْ بِها ما يَدَّعونَ
فَكَيْفَ نَقْتَسِمُ الدِّماءَ وَحَوْلَنا ثَمَرٌ لِنَقْسِمَهُ وَأَزْهارٌ لِيَعْشَقَها الجَميعُ
وَلَنا حَماماتُ الزِّيارَةِ سَوْفَ نُطْلِقُها إلى حَيْفا مَتى شِئْنا
تُحَلِّقُ أَيْنَ شاءَتْ ثُمَّ تَهْبِطُ أَيْنَ طابَ لَها الوُقوعُ
وَسَماءُ إِبْراهيمَ خَيْمَةُ رُوحِنا الأولى
نُعيدُ لَها بَساتينَ الضِّياءِ مَعًا
لِتَرْجِعَ وَحْشَةُ الغاباتِ في الإنْسانِ نَحْوَ كُهوفِها السَّوْداءِ
نَقْطِفُ مِنْ سَعادَتِنا حَضارَتَنا
وَتَلْتَئِمُ الجِراحُ كَأَنَّها أَجْفانُ عُشَّاقٍ أَلَمَّ بِها الهُجوعُ
وَأَضُمُّ «ريتا» في السَّريرِ كَأَنَّها حَيْفا وَيُدْرِكُني وَيُدْرِكُها الرُّجوعُ.
أَنا لَنْ أُعَلِّقَ بَعْدَ هذا اليَوْمِ أُغْنِيَةً عَلى امْرَأَةٍ سِواكْ
سَأَظُنُّ أَنَّكِ طِفْلَةٌ سَقَطَتْ مِنَ السَّبْيِ الأَخيرِ عَلى خَرابِ الذّاكِرَة
وَنَمَتْ ضَفيرَتُها كَما تَنْمو الأَفاعي في الصَّحارَى
بَيْنَ رَمْلٍ دونَ ذاكِرَةٍ سِوى عَبَثِ الرِّياحِ وَبَيْنَ سُخْطِ الهاجِرَة
سَأَظُنُّ أنَّ البَدْوَ لَمْ يَجِدوكِ قَبْلي حينَ كانوا يَلْعَبونَ «الغولْفَ» في الدَّهْناءِ تُدْنيهُمْ كُرَة
مِنْ آخِرِ الدُّنْيا وَأَوَّلِها وَتُبْعِدُهُمْ كُرَة
وَيَراكِ «كُرْكِيٌّ» مِنَ السَّبْيِ الأَخيرِ
وَكانَ أَبوهُ عِبْرِيّاً وَأَصْبَحَ مِنْ بَني «نَبْهانَ»:
هذي طِفْلَةٌ هَمَجِيَّةٌ لكنَّها تَحْتَ الغُبارْ
جَسَدٌ مِنَ النَّزَواتِ
صَيْفٌ ضَيِّقُ الأَرْجاءِ وَحْشِيُّ الثِّمارْ
هاتُوا أُنوثَتَها لِغِلْمانِ الأَميرِ
وَعَلِّقوا ما ظَلَّ مِنْها فَوْقَ حائِطِ مَوْتِها عَلَمًا لِجُنْدِ البادِيَة
كَيْ يَحْرُسُوها مِنْ حِكايَتِها القَديمَةِ
حينَما كانَتْ عَروسًا لِلْمُروجِ
تُراقِصُ الأَلْوانَ، تَضْحَكُ لِلْجَداوِلِ، وَهِيَ تَعْدو في الفُصولِ إلى حِكايَةِ أُمِّها
تُصْغي إلى أَنّاتِ «جِلْجاميشَ»
تَكْشِفُ عَنْ نَوايا الأُقْحُوانِ
وَحِينَ يَنْزَلِقُ المَساءُ عَلى السُّفوحِ تَسوقُ قُطْعانَ الظِّلالِ إلى حَديقَةِ نَوْمِها
لِتُخَبِّئَ الرُّمّانَ مِنْ مَلَكِ الحِكايَةِ
حينَما يَنْسَلُّ مِنْ كَهْفِ الرِّوايَةِ نَحْوَ بابِ الأُغْنِيَة
كَيْ يَحْرُسوها مِنْ حِكايَتِها الحَزينَةِ
حينَ ماتَتْ أُمُّها في نَهْرِ غَفْلَتِها العَجوزِ
وَجاءَها مَلَكُ الحِكايَةِ راكِبًا فَرَسَ السَّماءِ
امْتَصَّ مِنْ دَمِها الرَّحيقَ وَقالَ «لِلْكُرْكِيِّ» خُذْ مِنْها أُنوثَتَها
وَعَلِّقْ ما تَبَقَّى فَوْقَ حائِطِ مَوْتِها عَلَمًا لِجُنْدِ البادِيَة.
سَتَكونُ أَنْتَ أَنا، وَنَسْكُنُها مَعًا
لكِنَّ لي سَفَرًا عَلى دَرْبِ الحَريرِ
وَسَوْفَ أَسْكُنُ روحَها شَبَحًا وَتَحْرُسُهُ وَأُعْطيكَ الجَسَدْ
- فَإذا رَجَعْتَ.
- أَصيرُ عاشِقَها الأَخيرَ وَأَنْتَ تُصْبِحُ لا أَحَدْ.
وَأَنا وَأَنْتِ إلى مَتى؟
هَلْ أَنْتِ أَبْعَدُ ما أَرى أَمْ أَنْتِ أَقْرَبُ ما أَرى!
خَيْلٌ يُلاعِبُها فَوارِسُها عَلى أُفُقٍ يُراوِحُ بَيْنَ أَنْفاسي
وَأَوْهامِ المَكانِ عَلى أَقاصي الرُّوحِ تُمْعِنُ في السُّرى
أَتَزورُ ذاكِرَتي خَرائِبَ ذاتِها أَمْ ما تَزالُ تَزورُ غَيْبَتَها القُرى.
فَلِمَنْ يُغادِرُني الكَلامُ وَفِيَّ آخِرُ ما يُريدُ الشِّعْرُ مِنْكِ؛
يَدٌ تَعودُ مِنَ الوَداعِ بِدونِ لَمْسَتِها وَعَيْنٌ لا تَرى...
شَيْئًا سِوى مَوْتِ المَكانِ عَلى المَكانِ وَلا تُرى
وَالمَوْتُ أَشْجارٌ لَها ظِلٌّ وَضاحِيَةٌ عَلى أَبَدِ المَكانِ
وَلا تَموتُ الأَمْكِنَة
سَأَزورُ مَوْتَكِ في شَوارِعِهِمْ - شَوارِعِنا -
وَلكِنْ كَيْفَ أَمْكُثُ في انْصِرافِ الأَزْمِنَة
«أثْيوبْيا» تَلِدُ البُيوتَ عَلى سُفوحٍ لَمْ تُشاهِدْها القُرودُ
وَيَزْرَعونَ «القاتَ» بَيْنَ مَضارِبِ النَّعْناعِ في مَرْجِ ابْنِ عامِرَ،
فَلْيُقيموا ساعَةً أُخْرى وَلكِنْ كَيْفَ أَصْنَعُ بِانْصِرافِ الأَزْمِنَة
أَأَظَلُّ نافِذَةً عَلى بَحْرِ ابْتِعادِكِ كَيْ أَرى السُّفُنَ الَّتي تَأْتي بِهِمْ
وَكَأَنَّهُمْ كانوا عَلى سَفَرٍ وَعادوا
لِمَ يَقْذِفونَ دُموعَهُمْ كَالنَّرْدِ فَوْقَ ثَراكِ
يَلْتَقِطونَ صَدْرَكِ بِالشِّفاهِ كَأَنَّهُمْ وَجَدوا طُفولَتَهُمْ عَلَيْهِ
وَلَيْسَ في أَجْسادِهِمْ إلاّ غُبارُ الماءِ، والرَّمْلُ اجْتِهادُ؟
كَذِبٌ
وَلَوْ حَضَروا حُضورَ السَّيْفِ في جَسَدِ القَتيلِ
وَغادَروا بَلَدًا إلى بَلَدٍ وَصارَ لَهُمْ بِلادُ
كَذِبٌ
فَهَلْ كَنْعانُ وَهْمٌ لِلتُّرابِ
يُؤَلِّفُ الشُّعَراءُ طَلْعَتَها مِنَ الكَلِماتِ
لا ناسٌ عَلى شَجَرٍ وَأَطْفالُ
وَلا قَمْحٌ يُؤَجِّجُهُ النَّسيمُ كَأَنّهُ نارٌ وَيُخْمِدُهُ الحَصادُ
كَنْعانُ أَوَّلُ صَخْرَةٍ في الأَرْضِ تَسْكُنُها الحُقولُ
تَزورُها الطُّرُقُ البَعيدَةُ، تَشْتَهيها الآلِهَة
كَنْعانُ سَوْسَنَةُ الحُروفِ عَلى بَساتينِ الكَلامِ
يَدُ الخَليقَةِ وَهِيَ تَنْقُشُ في أَفاريزِ الحَضارَةِ رِحْلَةَ الأَعْلى
وَتوقِدُ في خِيامِ الرُّوحِ شَمْعَ الأَسْئِلَة
كَنْعانُ سَيِّدَةُ البِدايَةِ
صُدْفَةُ النّاياتِ
لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ البِكْرِ
تَزْعَمُها الخُرافَةُ فَجْوَةً في حائِطِ المَبْكى
وَتَرْويها الشُّعوبُ سَفينَةً في البَحْرِ
عيدًا لِلْمَرافِئِ
شاطِئًا في الرُّوحِ تَرْكُضُ في مَداهُ الأَخْيِلَة.
كَنْعانُ أَوَّلُ أُنْمُلَة...
في كَفِّ صانِعِها، وَأَوَّلُ سُنْبُلَة...
في حَقْلِ هذا الكَوْنِ، أَوَّلُ خُطْوَةٍ لِلْقافِلَة.
وَالأَرْضُ تورَثُ كَاللُّغَة
كَرْمًا وساقِيَةً وَطِفْلاً
بَيْدَرًا لِلْقَمْحِ
بَيْتًا لِلْعَروسِ وَجَنَّةً لِلْعائِلَة.
فَلْيَسْتَرِدَّ الشّاعِرُ الأَعْمى قَصائِدَهُ لِيَقْتُلَها
وَيَرْتَجِلَ الشُّعوبَ عَلى الشُّعوبِ
فَإنَّ «ريتا» أَوْرَثَتْ آباءَها وَطَنًا وَسَوْفَ تَعودُ أَدْراجَ القَبيلَة
لِتَصيرَ «ريتا» أُمَّ جَدَّتِها،
يَعودُ النَّهْرُ أَدْراجَ اليَنابيعِ الَّتي وَلَدَتْهُ
تَنْتَخِبُ الشُّعوبُ لُغاتِها إرْثًا لِرِحْلَتِها الطَّويلَة.
وَتَقولُ «ريتا»:
- لُغَتي أَنا، وَأَنا هِيَ...
هَلْ كُنْتَ تَقْرَأُني لِتَقْتُلَني؟
- ما كُنْتُ إلاّ طائِرَ المَنْفى أُحَلِّقُ بَيْنَ أَجْنِحَتي وَوَقْتي.
ما كُنْتُ أَعْرِفُ أَنَّ لي وَطَنًا سِوايَ
وَكُنْتِ أَبْعَدَ مِنْ ظُنونِ الشِّعْرِ فَاسْتَوْلَتْ عَلى شِعْري ظُنونُ أَخي وَأُخْتي.
وَدَخَلْتُ سَهْوًا شَهْوَةَ التَّحْليقِ في شَبَقِ الصَّهيلِ فَكانَ صَوْتي...
خَيْلاً بِدونِ فَوارِسٍ،
لُغَةً بِلا مَعْنى، وآنِيَةً لِمَوْتي.
وَانْتابَني هَوَسُ الوُقوفِ عَلى الطُّلولِ فَقُلْتُ إَنَّ الأَرْضَ تورَثُ كَاللُّغَة.
أَلأَرْضُ تورَثُ بِاللُّغَة!
ألأَرْضُ تورَثُ بِالنَّبيذِ لأَنَّهُ لُغَةُ الكُرومِ،
وَبِالعُطورِ لأَنَّها لُغَةُ المَرافِئِ في المَنافي المُزْمِنَة.
وَبِالتّوَحُّدِ في العِناقِ لأنّهُ لُغَةُ المَرافِئِ في المَنافي المُزْمِنَة.
كَمْ شَرَّدَتْني وَحْشَةُ المَنْفى عَنِ المُدُنِ الجَميلَةِ وَالنِّساءِ
أَضاعَني طولُ التَّلَكُّؤِ في الخُرافَةِ،
لَمْ أُشاهِدْ بُرْهَةَ العَيْشِ الوَثيرَةِ وَهِيَ تومِضُ في زُقاقِ العُمْرِ إلاّ حينَ جِئْتِ.
كَيْفَ النُّزوحُ وَنَحْنُ في سَفَرِ الرُّجوعِ إلى العِناقِ أَنا وَأَنْتِ.
حَيْفا لِعاشِقِها وَساكِنِها
وَلِلْغُيّابِ مَنْزِلَةُ الغِيابِ عَلى أُمومَتِها،
تَزورُ كَما تُزارُ.
وَالعِشْقُ أَجْمَلُهُ انْتِظارُ،
سَفَرٌ عَلى النَّجْوى، وَلُؤْلُؤَةُ الزِّيارَةِ حينَ يَنْشَقُّ المَحارُ...
عَنْ نارِ «إبْراهيمَ»، أَوَّلُها عِناقُ الماءِ مُشْتَعِلاً وَآخِرُها سَلامُ.
وَأَنا وَأَنْتِ إلى مَتى؟
هَلْ أَوْدَعوا فينا الصُّدودَ عَنِ الحَنينِ إلى جِبالِ النّاصِرَة.
هَلْ أَوْدَعوا فينا ابْتِعادَ الأَدْيُرَة...
عَنْ رَبِّها، لِتَعيشَ فيهِ بِدونِ آلامِ الصَّليبِ وَدونَ وَهْمِ الآخِرَة.
لَمْ يَبْقَ فِيَّ سِواكِ شَيْءٌ
أَرْتَديكِ عَلى دَمي كَدَمي، وَيُبْحِرُ زَوْرَقُ الخَفَقاتِ بَيْنَ الضَّفَّتَيْنِ
كَأَنَّهُ وَشْمٌ لِمِرْوَحَةِ المَكانِ عَلى جَناحِ فَراشَةٍ لِلذَّاكِرَة.
هَلْ أَنْتِ أَقْرَبُ ما أَرى أَمْ أَنْتِ أَبْعَدُ ما أَرى
خَيْلٌ يُلاعِبُها فَوارِسُها عَلى أُفُقٍ كَخَيْطِ العَنْكَبوتِ
إذا دَنا شاهَدْتُ أَلْوانَ السُّفوحِ تَسيلُ مِنْ حَوْلي
وَأَسْرابَ الطُّيورِ تَزورُ أَسْماءَ القُرى.
هَلْ أَنْتِ أَبْعَدُ ما أَرى أَمْ أَنْتِ أقْرَبُ ما أَرى.
لا بَأْسَ، كُلُّ مَسافَةٍ في الأَرْضِ تَقْطَعُها الخُطى.
وَعَلى أَقاصي الرَّمْلِ «يوليسيزُ» يَنْتَظِرُ المَرافِئَ وَهِيَ تولَدُ في احْتِمالِ البَحْرِ،
لَيْسَ البُعْدُ آخِرُ ما هُناكْ.
وَالحُلْمُ رَحْمُ الكائِناتِ،
هُناكَ يولَدُ كُلُّ شَيْءٍ قَبْلَ مَوْلِدِهِ وَبَعْدَهُ.
وَهُناكَ تَبْتَدِئُ المَراكِبُ، نِصْفُها سَفَرٌ
وَتُكْمِلُها النَّوارِسُ حينَ تَصْحَبُها،
لِتُصْبِحَ رِحْلَةً لِلسِّنْدِبادِ يَعودُ مِنْ سَفَرٍ إلى بَغْدادَ وَحْدَهْ.
وَهُناكَ تَنْتَظِرُ المَدينَةُ في حَريرِ الرُّوحِ
تَخْرُجُ مِنْ جَماجِمِها،
لِتولَدَ مِنْ «سَمَرْقَنْدَ» الحِجارَةِ وَالعَبيدِ المُنْحَنينَ عَلى سَلاسِلِهِمْ، «سَمَرْقَنْدُ» الجَميلَة.
وَهُناكَ أَحْلُمُ بِالنِّساءِ القادِماتِ إلى الحُقولِ مِنَ التَّشَرُّدِ، مِثْلَ أُمِّي.
يُعْطينَ نَعْناعَ الحِكايَةِ لِلْبَناتِ، يَقُلْنَ:
لا تَقْرَأْنَ واجِهَةَ العُطورِ عَلى حَوانيتِ التَّبَرُّجِ في الطَّريقِ إلى فِناءِ الجامِعَة.
وَاحْمِلْنَ حُرْقَتَهُ إلى الأَبْناءِ،
لَيْسَ لَنا سِواهُ مَدىً لِيَسْكُنَهُ البُكاءُ عَلى حُقولِ القَمْحِ،
كُلُّ الأَرْضِ مَصْرَعُنا بِدونِ الحُزْنِ
تُرْسِلُهُ نِساءُ العُشْبِ آهاتٍ عَلى النَّعْناعِ يَحْمِلُها مَعَهْ.
فَإذا اسْتَرَدَّ الشّاعِرُ الأَعْمى قَصائِدَهُ لِيَنْساها، نَسَيْناها مَعَهْ.
وَإذا اسْتَرَدَّ الشّاعِرُ الأَعْمى قَصائِدَهُ لِيَقْتُلَها،
تَرَكْناهُ لِتَقْتُلَهُ سُيوفُ الماءِ تَخْرُجُ مِنْ مَرايا «السِّينِ»
لَمْ نَحْفَلْ بِمَنْ هَبَطوا عَلى دَرَجِ الرُّخامِ الأُنْثَوِيِّ إلى السَّماءِ السّابِعَة.
فَلَنا قَصائِدُنا الَّتي ظَلَّتْ، وَمَوْتُ النَّرْجِسِ البَرِّيِّ يَسْكُنُنا
إذا ذَهبَ النُّّزوحُ بِنا إلى بَلَدٍ تَمَلَّكَنا الهَديلُ،
وَأَقْبَلَتْ فينا القَصيدَةُ دونَ ميعادٍ مَعَ الكَلِماتِ،
نَحْنُ شِراعُ رِحْلَتِنا إلى...
وَهِيَ اغْتِرابُ الأَشْرِعَة.
وَيُريدُكِ الشُّعَراءُ أَقْرَبُ مِنْ قَصائِدِهِمْ وَلَوْ شَبَحًا لِمَيِّتَةٍ
لِيَنْصَرِفوا إلى وَقْتِ القَصيدَةِ حينَ تَهْرُبُ مِنْ مَآتِمِنا،
إلى وَصْفِ القَصيدَةِ بِالقَصيدَة.
وَيُغادِرونَ زَوارِقَ المَنْفى إلى شُقَقِ التَّصَوُّفِ في ضَواحي اللّازَوَرْدِ،
لِيَشْرَحوا مَعْنى الحُلولِ بِأَنِّهُ حَمْلٌ جَماعِيٌّ بِإنْسانِ التَّحَوُّلِ في حَضارَتِنا الجَديدَة.
وَبِأَنَّ سُنْبُلَةً عَلى صَدْرِ الرُّخامِ الأُنْثَوِيِّ
هِيَ الإشارَةُ وَالبِشارَةُ،
إنَّ حَقْلاً مِنْ حُقولِ الأَرْضِ سَوْفَ يَصيرُ دارًا لِلْفُصولِ الأَرْبَعَة.
سَيُعانِقُ الزَّيْتونُ فيهِ الزَّيْزَفونَ عَلى سَلامِ الثَّلْجِ في صَيْفٍ يُعانِقُهُ الرَّبيعُ،
وَسَوْفَ تَمْشي الزَّوْبَعَة
فَوْقَ الخَريفِ كَأَنَّها هَمْسٌ لأَجْنِحَةِ الفَراشْ.
أَلأرْضُ تولَدُ مِنْ جَديدٍ في فِراشِ الشّاعِرِ الأَعْمى، وَلَيْسَ لَهُ فِراشْ
إلاّ مَلابِسُهُ
سَيَخْلَعُها عَلى وَقْتِ الجِماعِ وَتَسْقُطُ الأَرْضُ الحَبيبَة
مِنْ نَوْمِها في حِضْنِ مَوْلِدِها، عَلى أَبَدِ النِّهايَة.
وَالأَرْضُ تورَثُ كَالحِكايَة،
سَنَقولُ لِلأَطْفالِ إنَّ بِلادَهُمْ لُغَةٌ، وَإنَّ الأَرْضَ تورَثُ بِاللُّغَة.
وَبِأَنَّنا سَنَقومُ مِنْ مَوْتِ النُّزوحِ قَصيدَةً
لِنَعيشَ في كُلِّ اللُّغاتِ مِنَ النِّهايَةِ لِلْبِدايَة.
لِلشّاعِرِ الأَعْمى قَصيدَتُهُ وَهُدْهُدُهُ وَنُزْهَتُهُ الأَخيرَةُ فَوْقَنا.
وَيَزورُ شُرْفَتَهُ الأَنيقَةَ
حينَما تَرْتاحُ «ريتا» مِنْ أُنوثَتِها،
تُناوِلُهُ مِياهَ «السِّينِ» زَنْبَقَةً،
يُعاتِبُ حُزْنَهُ العَرَبِيَّ:
لَمْ نُولَدْ لِنَغْرَقَ في جَداوِلِنا الصَّغيرَة،
أَوْ لِنَحْبِسَ صُدْفَةِ العُمْرِ العَظيمَةِ تَحْتَ سَوْسَنَةٍ تُنازِعُها الحَشائِشُ وَجْهَها.
لَمْ نَأْتِ مِنْ أَجْلِ المَكانِ،
فَنَغْرِسَ الأَشْجارَ في سَفْحٍ لِنَحْرُسَها،
وَنُصْبِحَ قُرْبَها شَجَرًا وَنَقْتُلَ ذاتَنا في ذاتِها.
هَلْ نَحْنُ مَنْزِلَةٌ مِنَ الطِّينِ المُخَلَّقِ،
قَدْ أَتَيْنا كَيْ نُغادِرَ ذاتَنا في ذاتِنا نَحْوَ الَّذي لا شَيْءَ يُدْرِكُ ما هُوَ.
هَلْ نَحْنُ أَجْنِحَةٌ يَطيرُ بِها الغُرابُ عَلى حَوادِثِنا لِكَيْ تَأْتي إِلَيْنا؟
فَإذا تَخَطَّيْنا حَوادِثَنا اقْتَرَبْنا مِنْ دَلالَتِنا الجَديدَةِ
لَمْ نَعُدْ أَحَدًا لِغَيْرِ وُجودِنا طَيْرًا،
عَلى شَيْءٍ نُحاوِلُهُ وَيُفْلِتُ مِنْ يَدَيْنا.
هَلْ نَحْنُ نَحْنُ؟
لِمَنْ أَقامَ المَيِّتونَ صُروحَهُمْ عَبَثًا وَنامُوا تَحْتَها،
إلاّ لِيَنْتَصِروا عَلى عَبَثِ المَكانِ بِهِمْ،
فَهَلْ عَبَثَ المَكانُ بِنا لِيَنْتَصِروا عَلَيْنا.
عادوا إلَيْنا مَيِّتينَ كَأَنَّنا عُدْنا إلَيْهِمْ
لا تَدُلُّ قُبورُهُمْ إلاّ عَلَيْنا.
لَمْ أُعْطِ أَيّامي لِتَأْكُلَها ذِئابُ الإنْتِظارِ عَلى مُكوثي في انْصِرافِ الأَمْكِنَة.
لَمْ تُعْطِني الرُّوحُ الخَفِيَّةُ حُزْنَها المَلَكِيَّ قُدّاسًا لِمَوْتٍ عابِرِ،
وَجْهًا لأُمْسِيَةٍ يُراقِصُها النَّخيلُ
عَلى ضِفافٍ ماؤُها عَطِشٌ تُحيطُ بِهِ الصَّحارى المُزْمِنَة.
لي أَلْفُ حُزْنٍ في النِّساءِ
وَأَلْفُ حُزْنٍ في انْسِحابِ الوَقْتِ عَنْ قَدَمَيَّ...
عَنْ فَرَحٍ تُغَذِّيهِ الزُّجاجَةُ
حينَ يُعْلِنُ مَوْتُها الذِّهَبِيُّ إِنَّ الكَأْسَ وَقْتُ الشّارِبينَ
وَلا يَظَلُّ عَلى المَوائِدِ حينَ يَنْصَرِفونَ
حَتّى ما يُخَلِّفُهُ الدُّخانُ عَلى جِدارِ المِدْخَنَة.
مالي وَمِئْذَنَةُ الرُّجوعِ وَكُلُّ يَوْمٍ حينَ يَمْضي مِئْذَنَة.
كَمْ مَرَّ مِنْ يَوْمٍ بِلا «ريتا» وَكانَتْ عِنْدَ خاصِرَتي
فَلَمْ أَرَها،
لأَنِّي كُنْتُ عَيْنًا لِلنَّوارِسِ وَهِيَ تَسْقُطُ في البَعيدِ عَلى أَكاذيبِ الرُّجوعِ المُحْزِنَة،
فَوْقَ المَواعيدِ الَّتي ما زالَ يَضْرِبُها الشُّيوخُ عَلى سَريرِ المَوْتِ
مَعَ أَشْجارِهِمْ في لَحْظَةِ العِشْقِ الأَخيرَة،
لِتَكونَ زينَةَ خَيْلِهِمْ في عَوْدَةِ الشَّبَحِ الأَكيدَةِ
حَيْثُ لا تَصِلُ الدُّروبُ وَلا تَموتُ الأَحْصِنَة.
لَمْ يَفْتَحوا بابًا عَلى التَّأْويلِ تَدْخُلُهُ التِّلاواتُ الجَديدَةُ،
كَيْ نُسامِحَهُمْ وَنَنْساهُمْ،
فَكَمْ شَيْخًا سَنَقْتُلُ داخِلَ الأَسْوارِ كَيْ نَجِدَ الخَلاصَ مِنَ الحِجارَة.
كَمْ مَرَّةً سَتَموتُ فينا قَرْيَةٌ لِتَموتَ
كَمْ قَبْرًا سَنَحْفُرُ لِلْقَتيلِ
نُشَيِّعُ المَوْتى بِدونِ رُفاتِهِمْ...
نَمْضي إلى مُدُنٍ نُسَمِّيها المُخَيَّمَ كَيْ نَظُنَّ عُبورَنا سَهْلاً
وَنَتْرُكُ لِلْمُخَيَّمِ أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ بَعْدَ الرُّجوعِ،
فَنَحْنُ سَمَّيْنا مَدائِنَنا وَراءَ النَّهْرِ قَبْلَ حُضورِنا،
كُلٌّ يُسَمّي أَرْضَهُ وَطَنًا، لِيَحْسَبَ أَنَّ غُرْبَتَهُ زِيارَة.
فَمَتى تُضَيِّعُنا الزِّيارَة
لِتَصيرَ غُرْبَتُنا لَنا وَطَنًا
وَنَبْتَدِئَ التِّلاوَةَ حَيْثُ يَبْتَدِئُ الخُروجُ العالَمِيُّ مِنَ القَبيلَةِ لِلْحَضارَة.
فَإذا خَرَجْنا مِنْ حَوادِثِنا اقْتَرَبْنا مِنْ دَلالَتِنا الجَديدَةِ،
لَمْ نَعُدْ وَشْمًا لآلِهَةِ الصُّخورِ عَلى جِدارِ المَعْبَدِ الدَّمَوِيِّ،
أَضْرِحَةً لأَيّامٍ مَشَيْناها وَعَلَّقَها السَّفَرْ
شَجَرًا بِمِرْآةِ الرَّحيلِ
نَظَلُّ نَجْلِسُ تَحْتَهُ عَطَشًا لِنَنْتَظِرَ المَطَرْ.
رَصَدٌ عَلى بابِ الحِكايَةِ، كَيْفَ نُبْطِلُهُ،
فَلَوْ نَعِسَتْ تَعاويذُ الشُّيوخِ المُتْعَبينَ
تَسَلَّلَتْ عَبْرَ السِّياجِ رَسائِلُ النَّهْرِ العَظيمِ
يَزورُ عِشْقَ الأَرْضِ سَوْسَنَةً فَسَوْسَنَة
وَيَنْشُرُ شَهْوَةَ الإبْحارِ عِطْرًا لِلْبَعيدِ
وَيَصْرُخُ النُّوتِيُّ:
لَيْسَ لِعاشِقٍ أَرْضٌ سِوى هذي السَّفينَة.
أَلأَرْضُ تُبْحِرُ في السَّماءِ
وَأَجْمَلُ الأَوْطانِ لَيْلٌ في حَديقَةِ عاشِقَيْنْ.
وَطَنٌ يَشيعُ عَلى انْسِيابِ الرُّوحِ مِنْ جَسَدِ النَّبيذِ
إلى انْسِيابِ الكَوْنِ في جَسَدِ الوِصالِ
فَكُلُّ مَعْشوقٍ أَميرٌ
كُلُّ عاشِقَةٍ مَدينَة.
إنّي تَسَلَّقْتُ الوُصولَ كَأنّهُ جَبَلٌ إلى «ريتا»
وَكانَتْ تَحْتَ نافِذَتي فَلَمْ أَرَها...
كانَتْ تُعَلِّقُ وَجْدَها في أَرْجُلِ النَّسَماتِ كَيْ تَجِدَ الطَّريقَ إلَيَّ،
كَمْ ضَفَرَتْ حِبالَ اللَّوْنِ قُرْبَ تَلَفُّتي وَرَمَتْ بِها نَحْوَ البَعيدِ لِكَيْ أَراها.
وَلَكَمْ تَبَدَّلَتِ الدُّروبُ عَلى خُطايَ كَأَنّها وَقْتُ الصَّلاةِ،
وَلَمْ أَكُنْ أَمْشي عَلى شَيْءٍ سِوى عَبَثِ الوُصولِ
فَلا طَريقَ إلى سِواها.
لَمْ تَأْتِ مِنْ كُلِّ البِلادِ إلَيَّ
تَضْفُرُ روحَها مِثْلَ الجَديلَةِ مِنْ مَزاميرِ الحَنينِ عَلى سُفوحِ الإنْتِظارِ
لِكَيْ أُبَعْثِرَها عَلى غَضَبِ الرُّعاةِ مِنَ انْحِناءِ العُشْبِ
حينَ تَدوسُ وَقْفَتَهُ خُطاها.
أَنا لَمْ أَعُدْ طِفْلاً تُخَبِّئُني الحَشائِشُ خَلْفَ قامَتِها القَصيرَةِ
أَوْ تُنَقِّلُني دُروبُ الآخَرينَ عَلى هَواها.
سَأُحِبُّ «ريتا» أَيْنَما حَلَّ العِناقُ بِنا...
لا فَرْقَ أَعْطَتْني ضَفيرَتُها شَذاها أَوْ شَجاها.
سَأَضُمُّ عَوْدَتَها الحَزينَةَ مِنْ بَخورِ الأَنْبِياءِ إَلَيَّ،
يَسْتَلْقي البَعيدُ عَلى القَريبِ كَأنّهُ عُشْبٌ عَلى بُسْتانِ فَرْحَتِنا
وَنَبْني هَيْكَلاً لِلْحُبِّ مِنْ أَرْزٍ سَنَغْرِسُهُ مَعًا
في قِمَّةٍ لِلْعِشْقِ نَعْرِفُها مِنَ التَّحْليقِ لكِنْ لا نَراها.
وَلَنا وِصالُ البُعْدِ
تَأْتينا بِلادٌ كَمْ سَنَعْشَقُها،
وَلكِنْ لَمْ تُدَنِّسْها الحُروبُ، وَلا تُسَمِّي نَفْسَها شَيْئًا
وَتَجْهَلُ مَنْ بَناها.
تَبْني الهَياكِلُ نَفْسَها في القُدْسِ
تَسْكُنُها شُعوبُ الأَرْضِ عَنْ بُعْدٍ
وَيَنْصَرِفُ الجُنودُ إلى مَصارِعِهِمْ كَما اعْتادوا
كَأَنَّهُمُ السَّحابَةُ حينَ يُفْلِتُها مَداها.
كَمْ مَرَّ مِنْ يَوْمٍ بِلا «ريتا»
فَهَلْ رَثَتِ الحِجارَةُ لي لأَحْمِلَها مَعي.
كَمْ سِرْتُ وَحْدي حامِلاً بَلَدًا إلى بَلَدٍ
وَتوجِعُني خُطايَ كَأَنَّني أَمْشي عَلى جَسَدي فَلا أَجِدُ الطَّريقَ إلَيَّ،
هَلْ رَثَتِ المَنازِلُ لي فَأَحْمِلُها مَعي.
وَمَضى الأَحِبَّةُ، يَتْرُكونَ جِراحَهُمْ عِنْدي
أُضَمِّدُها بِآلامي، وَجَرْحي ظَلَّ يَنْزِفُني إلى الكَأْسِ الأَخيرَةِ
يَشْرَبونَ وَيَرْقُصونَ فَكَيْفَ آخُذُهُمْ مَعي.
يَتَحَلَّقُ الشُّعَراءُ في مَقْهى التَّبَجُّحِ
يَرْفَعونَ الحُزْنَ قُرْبانًا لِآلِهَةِ الكَلامِ
فَتَحْزَنُ الغاباتُ في خَشَبِ المَوائِدِ دونَ أَنْ تَدْري
وَتَمْتَعِضُ الكُرومُ،
لأَنَّها كَتَبَتْ رَسائِلَها إلى العُشّاقِ
لَمْ تَكْتُبْ رَسائِلَها إلى وَرَقِ الجَرائِدِ
أَوْ سُكارى يُنْفِقونَ الشِّعْرَ في الحاناتِ تَقْدِمَةً لِصُنْدوقِ النُّذورِ
فَكَيْفَ أَحْمِلُهُمْ مَعي.
أَلشِّعْرُ عَنْدَلَةٌ عَلى «شيرازَ»
كُلُّ مَدينَةٍ «شيرازُ» إنْ كانَ الحَبيبُ مَعي.
شَجَرٌ مِنَ النِّسْيانِ غابَتُنا الأَنيقَةُ
حُزْنُنا شِعْرٌ لِكُلِّ النّاسِ يَسْكُنُ في المَسَرَّةِ
لَيْسَ في آهاتِنا أَحَدٌ سِوانا.
وَأَنا مَعي.
وَأَنا وَأَنْتِ إلى مَتى؟
يا أُمَّ حُزْني، بَعْدَ حينٍ تُغْلِقُ السِّتّونَ نافِذَةً عَلى أَحَدِ الشَّوارِعِ
يَجْلِسُ الرَّجُلُ القَديمُ عَلى خُفوتِ اللَّوْنِ في ثَوْبِ الأَريكَةِ،
كُلَّما لاحَتْ لَهُ «حَيْفا» رَماها عَنْ تَلَفُّتِهِ وَأَلْقى نَفْسَهُ في البَحْرْ:
أَكْثَرُ مِنْ تَلَفُّتِنا الخَرابُ وَمِنْ رَسائِلِنا الكَلامُ.
ماذا حََمَلْنا غَيْرَ هِجْرَتِنا إلى هذا الغِيابِ، لِيولَدَ المَوْتى مِنَ المَوْتى
وَتَرْجِعَ أَرْضُنا وَطَنًا لِآدَمَ مَرَّةً أُخْرى
تُخَبِّئُ في بَكارَتِها ابْتِداءَ الأُقْحُوانِ لَهُمْ...
فَهَلْ كُنّا عَلَيْها غَيْبَةَ العُشّاقِ عَنْها، وَالسَّلامُ!
لَكَأَنَّ هذا العُمْرَ حُزْنٌ خالِصٌ لا ناسَ فيهِ
فَكَيْفَ يَحْمِلُ هُدْهُدٌ نَبَأَ الَّذينَ تَوَهَّمونا في تَوَهُّمِنا،
وَنَحْسَبُ أَنَّهُمْ عاشوا وَماتوا،
لَمْ يَتْرُكوا ثَأْرًا وَلا مَرَّتْ مَآتِمُهُمْ عَلى أَحَدٍ،
وَيَعْتَرِفُ الشُّهودُ بِأَنَّهُمْ لَمَحوا دَمًا فَوْقَ الصُّخورِ
كَأَنَّهُ حَجَلٌ يُحَرِّكُ لَوْنَهُ حينًا، وَيَدْخُلُ تَحْتَ وَثْبَتِهِ وَتُنْكِرُهُ الجِهاتُ.
«هِيَ لَمْ تَكُنْ أَبَدًا»،
يَقولُ الشّاعِرُ الأَعْمى:
صَنَعْناها لِنَصْنَعَ رُوحَنا مِنْ رِحْلَةِ الآهِ الطَّويلَةِ في أَلاعيبِ التَّشَرُّدِ،
حينَما تَسْتَبْدِلُ الأَوْقاتُ قُبَّعَةَ المَكانِ
تَشُدُّنا أَيّامُنا الأولى إلى سَفْحٍ يُريدُ رُفاتَنا
لِيَصيرَ أَرْضًا لِلْبُكاءِ عَلى زَمانٍ لَمْ يَعُدْ شَيْئًا
فَإنَّ الأَمْسَ لَيْسَ لَهُ رُفاتُ.
وَالأَمْسُ قِصَّتُنا الجَميلَةُ سَوْفَ نَخْلَعُهُ عَلى وَقْتِ الرَّحيلِ إلى غَدٍ،
«وَغَدٌ»، يَقولُ الشّاعِرُ الأَعْمى «هُوَ الأَمْسُ الجَميلُ لِقِصَّةِ اليَوْمِ الحَزينَة»
نَعْشَقُ الذِّكْرى وَنَنْسى مَنْ عَشِقْناهُمْ،
فَكَمْ رَجَعَتْ مَواويلٌ وَلَمْ تَرْجِعْ سُفوحٌ أَوْ رُعاةُ.
وَالأَرْضُ مَخْدَعُ روحِنا،
جَسَدٌ بِلا جَسَدٍ،
يَقولُ الشّاعِرُ الأَعْمى، لِكَيْ يَجِدَ الحَقيقَةَ في غَدٍ
جَسَدًا لِسَيِّدَةِ الرُّخامِ الأُنْثَوِيِّ...
لَنا انْتِشارُ الرُّوحِ
إنَّ الرّوحَ لَيْسَ لَها جِهاتُ.
سَنُضيءُ في الرَّغَباتِ كَالبَلُّورِ
نَقْتَحِمُ المَسافاتِ الَّتي كانَتْ وَراءَ سِياجِنا الهَزَلِيِّ في المَنْفى،
فَكُلُّ مَدينَةٍ قَبْرٌ لِعُشّاقِ المَكانِ
لَنا مَخادِعُنا وَلَيْسَ لَنا،
لأَنَّ الأَرْضَ بابٌ لِلْخُروجِ لِعاشِقٍ يَتَعَقَّبُ امْرَأَةَ النِّهايَةِ
حَيْثُ تَنْفَضُّ المَلامِحُ حينَ يُدْرِكُها وَتَلْتَئِمُ الصِّفاتُ.
يا أُمَّ حُزْني هَلْ أَصابَ الشّاعِرُ الأَعْمى وَأَخْطَأْنا؟
وَهَلْ كانَتْ خَطيئَتُنا امْتِثالُ القَلْبِ لِلْمَوّالْ،
ماذا لَوْ شَرِبْنا كَأْسَنا الأُخْرى كَما فَعَلوا،
وَتابَعْنا الرَّحيلَ كَأَنَّهُ دَرْبٌ إلى بَلَدٍ نُحاوِلُهُ وَلَوْ كَذِبًا...
أَلَمْ يَأْتُوا عَلى كَذِبِ الكَلامِ لِيَصْنَعوا كَذِبَ البِلادِ،
ويَعْشَقُوا الزَّيْتونَ في الدُّرّاقِ،
تَرْتَكِبُ الفُصولُ لِهِجْرَةِ القُوزاقِ أَبْوابًا إلى التَّوْراةِ نَفْتَحُها بِأَيْدينا
وَيَمْشي فَرْجُ بِلْقيسٍ عَلى البَلّورِ ثانِيَةً لِكَيْ تَلِدَ الفَلاشا...
في «أوروسالِمَ» مَرَّةً أُخْرى
وَيَعْشَقَ هُدْهُدُ الشُّعَراءِ «أَنْجيلا» تُسَمِّي نَفْسَها «ريتا» لِيُدْرِكَ ذاتَهُ فيها
وَتَكْتَمِلَ اسْتِدارَةُ رُوحِهِ شِعْرًا تُحيطُ بِهِ اللُّغاتُ.
ماذا لَوَ انَّكِ كُنْتِ قُرْبَ يَدي وَأَكْمَلْنا حِكايَتَنا القَديمَةَ أَيْنَما حَلَّتْ بِنا البُلْدانُ،
مَنْ وَجَدَ الحَقيقَةَ مَرَّةً حَتّى نَموتَ لِكَيْ نَعيشَ؟
لَعَلَّنا كُنّا سَبايا ما أَرادَ السَّفْحُ مِنْ أَجْسادِنا، لا ما أَرَدْنا.
وَلَعَلَّ هذا الحُزْنَ بَعْضُ صِفاتِنا في المَهْدِ
لَمْ نُدْرِكْ لَهُ سَبَبًا سِوى أَنّا وُلِدْنا...
في لَحْظَةِ العُمْرِ الحَزينَةِ في بِلادٍ ماؤُها عِشْقٌ، لِنَحْزَنَ إنْ شَرِبْنا أَوْ عَشِقْنا.
وَلَعَلَّ ذاكَ الشّاعِرَ الأَعْمى لَهُ أَيّامُهُ الأولى عَلى حَجَرٍ، وَيَعْشَقُ فَوْقَهُ امْرَأَةً وَتَعْشَقُهُ،
وَلكِنَّ الحَياةَ - كَما يَقولُ - هِيَ الحَياةُ.
لا دارَ إلاّ سَوْفَ تَهْجُرُنا وَنَهْجُرُها وَلَوْ كُنّا عَلى جُدْرانِها حَجَرًا
إذا ابْتَدَأَ العِناقُ كَأَنَّما ابْتَدَأَ الشَّتاتُ.
وَالدَّرْبُ سَيِّدُنا
لَهُ نَمْشي إلى ما شاءَ،
لَيْسَ لَنا سِوى أَنّا نُحاوِلُ لَذَّةَ المَشْيِ اللَّعينَةِ
قَبْلَ أَنْ يَمْشي عَلَيْنا الآخَرونَ، كَما يَقولُ:
«لَوْ أَنَّهُ لا يَنْتَهي هذا الرَّحيلُ إلى غَدٍ، لَوْ أَنَّ رِحْلَتَنا تَطولُ»
يا أُمَّ حُزْني لَوْ رَجَعْنا مَرَّةً أُخْرى إلى يَدِنا الصَّغيرَةِ
وَهِيَ تَبْحَثُ في جُيوبِ اللَّمْسِ عَنْ مَعْنىً لِدَهْشَتِنا
وَداهَمَنا الغُزاةُ عَلى صَباحِ القُبْلَةِ الأولى كَما فَعَلوا،
أَكُنْتِ تُحاوِلينَ حِكايَةً أُخْرى، وَأَيّامًا بِلا مَنْفى
بِها رَمْلٌ، وَلكِنْ لَمْ نَسِرْ أَبَدًا عَلَيْهِ
وَفي جَوانِبِهِ حُقولُ.
وَالأَرْضُ وَجْهٌ طَيِّبٌ أَبَدًا
وَنَقْدِرُ أَنْ نُحِبَّ عَلى جِبالِ الأَلْبِ كُلَّ عُروشِها الخَضْراءِ تَعْلُوها شُيوخُ الثَّلْجِ
لكنْ هَلْ يُقيمُ القَلْبُ أَعْشاشًا عَلى شَجَرٍ يُغادِرُ عَبْرَ نافِذَةِ القِطارِ
وَهَلْ يُقالُ لِبُعْدِهِ عَنّا رَحيلُ.
لا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ لِنَحْزَنَ دونَما سَبَبٍ
عَدا أَنَّ النُّزوحَ يُعيدُ تَرْتيبَ المَكانِ عَلى نَوافِذِنا
وَتَأْتينا الفُصولُ بِزينَةٍ أُخْرى،
لَعَلَّ الحُزْنَ حِيلَتُنا لِنُكْمِلَ عِشْقَنا قَبْلَ الرُّجوعِ إلى غَدٍ،
وَالأَمْسُ لَيْسَ سِوى صَدَىً لِعَويلِنا
فَنَظُنُّ أَنَّ الأَرْضَ تَفْهَمُ ما نَقولُ.
يا أُمَّ حُزْني لا أَرى شَيْئًا سِوى أَنّا نُحاوِلُ غَيْرَنا عَبَثًا،
سَيَمْضي الشّاعِرُ الأَعْمى إلى «ريتا» لِتَقْتُلَهُ المَسافَةُ مِثْلَنا
لا فَرْقَ، كُلُّ نِهايَةٍ وَلَها سَبيلُ.
سَأُحِبُّ بُعْدَكِ في النِّساءِ كَأَنَّكِ امْرَأَةُ النِّهايَةِ،
إنْ تَكُنْ «ريتا» رُخامَ الشّاعِرِ الأَعْمى فَأَنْتِ لِيَ الجَليلُ.
لا فَرْقَ، يَقْتُلُهُ الرُّخامُ الأُنْثَوِيُّ عَلى انْزِلاقِ اللَّمْسِ
يَقْتُلُني امْتِدادُ يَدَيَّ في شَغَفِ العِناقِ إلَيْكِ، وَالدَّرْبُ البَخيلُ.
يا هُدْهُدَ النِّسْيانِ لَيْسَ الشِّعْرُ ضاحِيَةً لِنَسْكُنَها عَلى حَتْمِ الرُّخامِ الأُنْثَوِيِّ كَما تَقولُ.
لا شَيْءَ إلاّ الأَرْضُ وَالنّاسُ الَّذينَ يُؤَلِّفونَ الدّارَ مِمّا حَوْلَهُمْ
وَالرُّوحُ ذاكِرَةٌ لِعِشْقِ الدّارِ في الأَشْياءِ
آنِيَةٌ تُخَلِّفُ وَجْهَها فيهِمْ عَلى وَقْتِ العَشاءِ،
وَجَدْوَلٌ يَمْتَدُّ بَيْنَ حُقولِهِمْ ماءً، وَفي أَحْلامِهِمْ وَتَرًا لِقَوْسِ الذّاكِرَة.
خَمْرٌ شَرِبْناها...
فَكَيْفَ نَعودُ مِنْ خَمْرٍ شَرِبْناها إلى خَمْرٍ سَنَشْرَبُها،
وَنَحْسَبُ أَنَّنا جِئْنا إلى «باريسَ» عُشّاقًا مِنَ المَجْهولِ
لَيْسَ وَراءَنا بابٌ لِنَفْتَحَهُ عَلى شَيْءٍ سِوى السِّحْرِ القَديمِ
يُعيدُ حَيْفا طِفْلَةً مَجْهولَةً وَيُعيدُ خَلْقَ النّاصِرَة.
أَأَنا المَسيحْ
لأُحِبَّ أَعْدائي، وَيَشْرَبَني الغُزاةُ كَأَنَّني خَمْرٌ وَأَنْسى
وَتُزيحَني مِثْلَ السِّتارَةِ كَفُّ «ريتا» عَنْ شَبابيكِ الفُصولِ عَلى بِلادي
ثُمَّ تَهْمِسُ بي فَأَنْسى
وَأُحِبَّ «ريتا» في الزِّيارَةِ وَهِيَ قادِمَةٌ إلى مَنْفايَ مِنْ بَلَدي فَأَنْسى...
وَقْتي عَلى وَقْتِ الزِّيارَةِ حامِلاً مَنْفى لِمَنْفى.
إنْ كانَ هذا اللَّوْزُ لَوْزي في ابْتِسامَتِها، فَأَيْنَ قَبْرُ أَبي وَحَيْفا،
وَالسَّفْحُ، عَلَّقَ فيهِ آبائي هَداياهُمْ إلَيَّ وَمَوْتَهُمْ
وَتَخَيَّلوا وَشْمًا عَلى أَسْمائِهِمْ بَعْدَ الرَّحيلِ... أَنا وَسَوْفا.
تَرَكوا وَصاياهُمْ عَلى كُلِّ الفُصولِ
تَجُرُّها العَرَباتُ في المَنْفى،
وَيَمْشي الأُقْحُوانُ لأَنَّهُ شَبَحٌ عَلى قَدَمَيْهِ
لَوْ نَسِيَتْ تَطَلُّعَها السُّفوحُ...
يَوْمًا نَسَيْناها، وَهَلْ نَسِيَ الجَريحُ...
دَمَهُ عَلى صَخْرِ البِدايَةِ عِنْدَ بابِ الدّارِ وَانْتَصَرَ النُّزوحُ.
حَتّى وَلَوْ قَتَلَ المُخَيَّمُ أَهْلَهُ
بَقِيَتْ لَنا أَسْماءُ قَتْلانا وَهاماتٌ تَصيحُ:
- أَلأَرْضُ أَضْرِحَةٌ وَأَسْماءٌ، لِمَنْ هذا الضَّريحُ؟
- وُلِدوا هُنا بَعْدَ التُّرابِ وَقَبْلَ أَوَّلِ مَيِّتٍ فَلِمَنْ يَكونُ؟
بَيْنَ السُّؤالِ وَبَيْنَنا غَلَسُ التِّلاوَةِ وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ كُهوف الشِّعْرِ
أَطْيافٌ تَلوحُ عَلى اتِّكاءِ السَّفْحِ تُدْنيها وَتُبْعِدُها الظُّنونُ.
هَلْ خَبَّأوا الأَيّامَ خَلْفَ ظُهورِهِمْ لَمّا مَضَوْا فَبَقِيتُ وَحْدي،
أَنا لا أَرى أَحَدًا سِوايَ عَلى بِلادي، إخْوَتي اغْتَسَلوا مِنَ الـمَنْفى
وَهذا لشَّيْخُ في التِّسْعينَ جاءَ يَقودُهُ العُكّازُ بَعْدي.
- مَنْ أَنْتَ؟
- أَنا انْتِظارُكَ مُنْذُ بَدْرٍ،
بَيْنَ مَوْتِ اللاّتِ وَالعُزَّى وَنَوْمِكَ في سَريرِ أَبي وَجَدِّي.
وَأَنا ارْتِدادُكَ في الزَّمانِ وَفي الـمَكانِ،
أَكونُ مَهْدَكَ حينَ تُولَدُ مِنْ دَمي وَتَكونُ لَحْدي.
- مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟
- مِنَ البِدايَةِ
لَمْ أَجِدْ أَحَدًا هُنا إلاّ الكُهوفَ،
فَمَنْ سَيُخْبِرُني بِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَحَدًا، وَأَنَّكَ كُنْتَ قَبْلي.
ما كُنْتُ لَوْلا هُدْهُدِ التَّذْكارِ أَعْرِفُ
كَيْفَ عُدْتَ إلَيَّ مِنْ كَهْفِ السَّماءِ كَزُرْقَةِ البَحْرِ الفَسيحَةِ،
كُنْتُ وَحْدي في السَّفينَةِ كَالجَنينِ، وَأَنْتَ - ماذا أَنْتَ؟ - حَوْلي
أَأَعادَني خَفْقُ الشِّراعِ إلى السَّفينَةِ
أَمْ تَذَكَّرْتُ الـمَوانِئَ حينَ عانَقْتُ الوُصولَ
إلى شَواطِئَ لَمْ تَزَلْ تَهْفو إلَيَّ كَأَنَّها غُصْنٌ يَميلُ بِهِ النَّسيمُ عَلى بِحاري.
وَتَذَكَّرَتْ رُوحي «عَناتَ» كَأنَّها شَفَقٌ يَسيلُ عَلى انْحِدارِ الأُفْقِ،
تَنْشُرُ وَحْيَها شَجَنًا لأُغْنِيَةِ البَراري.
هَلْ جِئْتَ قَبْلي؟
لا لَمْ تَكُنْ أَبَدًا سِوى لَوْنِ الفَراغِ عَلى الخُرافَةِ حينَ تُولَدُ كَالصَّدى
مِنْ وَحْشَةِ الصَّمْتِ الرَّهيبَةِ وَهُوَ يَصْرُخُ في الصَّحاري.
لا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ هُنا قَبْلي سِوى رَقْصِ الفَراشِ عَلى اضْطِجاعِ اللَّوْنِ،
وَالغاباتِ تَنْمو بِانْتِظاري.
وَلَسَوْفَ أَجْلِسُ تَحْتَ خُضْرَتِها البَعيدَةِ، مِثْلَما انْتَظَرَتْ سَأَنْتَظِرُ.
وَأَموتُ قَبْلَ حُضورِها - كَأَبي - وَأَعْتَذِرُ.
وَأَنا وأَنْتِ إلى مَتى؟
هذا ضَبابُ الشّاعِرِ الأَعْمى سَيَغْتَصِبُ النَّوافِذَ عَنْ تَطَلُّعِها
وَيُومِئُ لِلْمُخيَّمِ بِالدُّخولِ إلى مِجَرَّتِهِ الفَسيحَةِ
حَيْثُ تَنْتَشِرُ البِلادُ كَأَنَّها شَغَفٌ سَماوِيٌّ عَلى مَوْتِ البِدايَةِ وَالنِّهايَةِ في الفَراغِ اللّازَوَرْدِي.
وَلَسَوْفَ نَخْرُجُ مِنْ حِجارَتِنا وَنَدْخُلُ في سَجائِرِهِ
لِيَحْمِلَنا الدُّخانُ إلى بِدايَتِنا الجَديدَةِ في بِدايَتِهِ الجَديدَة.
وَالطّائِرُ الأَعْمى يُسابِقُ ريشَهُ نَحْوَ الحَقيقَةِ في فَضاءٍ لَمْ تَطَأْهُ الأرْضُ بَعْدُ
وَلَمْ يَصِلْها الوَجْدُ حَتّى في حَنينِ السَّهْرَوَرْدي.
- لا بِلادَ سِوى أَنا.
وَأَنا سِوايَ، الكَوْنُ مِرْآتي، وَكُلُّ النّاسِ أَبْوابٌ لأَدْخُلَها إلَيَّ
وَلا أَنا بَيْني وَبَيْنَ قَصيدَتي إلاّ أَنا.
وَقَصيدَتي مِنِّي إلَيَّ
وَنَشْوَتي أَنْ تَفْقِدَ الأَشْياءُ صُورَتَها إذا دَخَلَتْ إلى شِعْري
لِيَكْتَمِلَ انْتِصابي في يَدي وَأَصيحُ:
يا أَنَذا، أَخيرًا ها أَنا.
وَأَرى «حَبيبي» في رُواقِ الأَنْبِياءِ،
كَأَنَّهُ وَصْلٌ يُعاقِرُ ذاتَهُ بَعْدَ احْتِراقِ رِدائِهِ في نورِ ذاتِهْ.
لَمْ يَبْقَ مِنْ حَيْفا عَلَيْهِ سِوى قَميصِ النَّوْمِ يَدْخُلُ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ صِفاتِهْ.
يا سَيِّدي كَيْفَ الوُصولُ إلَيَّ،
أَمْشي خارِجًا مِنِّي عَلى كَذِبِ الجِهاتِ
فَإنْ وَقَفْتُ أَشاعَني كَذِبُ الحَنينِ عَلى جِهاتِهْ.
يا سَيِّدي أَنْتَ الَّذي خَدَعَ الجِهاتِ
فَفَرَّ مِنْ حَيْفا إلى حَيْفا،
وَشَرَّقَ في الشَّمالِ وَفي الجَنوبِ مُغَرِّبًا تَأْتي الدُّروبُ إلى الْتِفاتِهْ.
يا سَيِّدي أَنْتَ الَّذي خَلَعَتْ عَلَيْهِ حُضورَها الشُّعَراءُ وَانْطَفَأَتْ لِتُصْبِحَ مِنْ رُفاتِهْ.
لا بُدَّ مِنْ سِرٍّ
لِتَسْكُبَ فيكَ خَمْرَتَها عَناقيدُ الصَّلاةِ بِدونِ أنْ تَدْري، فَهاتِهْ.
سَأُحِبُّ حَيْفا مِثْلَما أَحْبَبْتَها وَأَخونُها كَيْ يَصْلُبوني.
وَأُحِبُّ رِيتا مِثْلَما أَحْبَبْتَها وَأَخونُهُمْ كَيْ يَعْبُدوني.
لَنْ يَفْهَموا سِرَّ القَرابينِ الخَفِيَّةِ،
وَحَّدَ «الـحَلّاجُ» بِالإشْراكِ خالِقَهُ لِيَعْرَفَهُ
وَقالَ «مُعَلِّمي»:
بِالعِشْقِ أَعْرِفُها وَلكِنْ بِالخِيانَةِ تَعْرِفُوني.
وَالبَحْرُ يَغْرَقُ في السَّفينَةِ بَعْدَما تَرْسو
فَهَلْ غَضِبَ الـمَسيحُ مِنَ الصَّليبِ،
أَنا الصَّليبُ فَقَدِّسوني.
قَدْ مَسَّني شَغَفُ التَّوَحُّدِ حِينَ أَدْرَكْتُ الحَقيقَةَ أَنَّها كَذِبٌ،
وَأَنَّ النّاسَ طَيْرٌ لا تَطيرُ سِوى إلَيَّ، فَوَحِّدوني.
وَأَنا وَأَنْتِ إلى مَتى؟
وَإلى مَتى يَلْهو الكَلامُ بِنا بِلا مَعْنىً،
لِنَسْقُطَ في هُراءِ الصّاعِدينَ مِنَ الكَلامِ إلى الكَلامْ.
وَأُريدُ ألاّ تُنْصِتي إلاّ لِصَوْتِ البَحْرِ
أَقْدَمِ عاشِقٍ غَنَّى لِـمَعْشوقٍ،
لآهاتِ الرَّحيلِ لأَنَّها وَتَرٌ لِريشَتِنا، وَتَرْجيعِ اليَمامْ.
وَدَعي الكَلامَ فَإنَّهُ طَيْرٌ يُدَرِّبُها الغُواةُ لِكَيْ يَطيروا...
فيها إلى شُقَقِ التَّصَوُّفِ في فَنادِقِهِمْ وَيَرْتَكِبوا السَّلامْ.
وَيُهاجِرونَ عَلى سُطوحِ الغَيْمِ
حَيْثُ قَصيدَةُ البَلُّورِ تَسْبَحُ في فَضاءٍ لا تُعَكِّرُهُ الطُّيوفُ وَلا تَمُرُّ بِهِ طُيورُ الذّاكِرَة.
تَلِدُ القَصائِدُ ذاتَها
لا شَيْءَ يَطْرُقُ بابَ نَشْوَتِهِمْ لِيَقْتَرِفَ الـحَنينَ الـمُرَّ،
لا ناسٌ وَلا شَجَرٌ وَلا مَطَرٌ هُناكَ وَلا غَمامْ.
وَالأَرْضُ مَنْزِلَةٌ لِـمَنْ شاءَ الرُّجوعَ إلى ضِفافِ «السِّينِ» مِنْ تَعَبِ القَصيدَةِ كَيْ يَنامْ،
في عُشِّ عَوْدَتِهِ إلى «ريتا»،
لِيُكْمِلَ وَحْدَةَ الصُّوفِيِّ ما بَيْنَ التَّجَسُّدِ وَالتَّلاشي.
وَيَقولُ:
كَمْ مِنْ خَمْرَةٍ مَرَّتْ بِهذي الكَأْسِ مُنْذُ الرَّشْفَةِ الأُولَى،
وَكَمْ سَتُعاقِرونَ الـخَمْرَ بَعْدي...
في غَيْرِ هذي الكَأْسِ، ثُمَّ تُواصِلونَ طَريقَكُمْ عَبَثًا إلَيَّ،
لأَنَّ هُدْهُدَكُمْ يُراوِدُهُ الرُّجوعُ
وَلا وُصولَ لِعاشِقٍ إلاّ إذا نَسِيَ الطَّريقَ لِكَيْ يَرى مَعْنى الطَّريقْ.
وَأَنا الطَّريقُ إلى الطَّريقِ إلَيْكَ،
تَنْساني لِتَعْرِفَني،
فَلا تَنْظُرْ إلى شَيْءٍ سِواكَ لِكَيْ تَراني.
أَنْتَ الـحَقيقِيُّ الوَحيدُ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَنْتَ،
لا أَرْضٌ وَلا ناسٌ سِواكَ وَلا أَغاني.
فَدَعِ الـمَواسِمَ لِلْحُقولِ
وَخَلِّ غَيْرَكَ يَحْرُسُ الزَّيْتونَ وَالقِصَصَ القَديمَةَ
مِنْ أَكاذيبِ الرُّواةِ عَلى الجُيوشِ، تُعيدُ تَسْمِيَةَ الـمَكانِ.
سَيُبادِلونَ ثِيابَهُمْ بِدِمائِهِمْ،
يَتَحَدَّثونَ عَنِ النِّساءِ، وَيَزْرَعونَ حُقولَهُمْ عِنَبًا لِيَنْضُجَ بَعْدَهُمْ
وَيُغادِرونَ إلى اخْتِباءِ الوَقْتِ في عُلَبِ التُّرابِ وَفي جُذوعِ السِّنْدِيانِ.
فَاصْعَدْ عَلى شَغَفِ النُّبُوَّةِ فِيكَ نَحْوَكَ
كَيْ تَرى الأَشْياءَ مِنْ أَعْلى الكَلامِ كَأَنَّها ظِلُّ انْتِشارِكَ في الـمَعاني.
وَأَنا أَنا الأُخْرى،
يُحَوِّلُني اخْتِلاطُ اللَّوْنِ في كَوْنٍ بِدونِ مَلامِحٍ،
وَجْهًا لِـمَلْحَمَةٍ عَنِ العِشْقِ الَّذي لا عِشْقَ فيهِ،
لأَنَّهُ نَهْرٌ تُغادِرُهُ الضِّفافُ وَلا يَظَلُّ سِوى انْسِيابِ الـماءِ...
ضَيَّعَ عاشِقٌ مَعْشوقَهُ فيهِ
وَمَعْشوقٌ يُضَيِّعُ عاشِقًا فيهِ
اسْكُبونا كَالنَّبيذِ لأَنَّنا فيهِ
اشْرَبوهُ لِتَفْرَحوا فينا، وَلكِنْ لَنْ تَرَوْنا.
يَزْرَعُ عاشِقٌ في الصِّينِ سَوْسَنَةً عَلى ثَغْرِ الحَبيبِ لَنا،
وَنَزْرَعُ نَحْنُ زَنْبَقَةً عَلى صَدْرِ الحَبيبِ لَهُ
فَكُلُّ زَنْبَقَةٍ لَدَيْهِ وَكُلُّ سَوْسَنَةٍ لَدَيْنا.
هذا الوُجودُ صَدًى لِناياتِ العِناقِ،
عَلى ضِفافٍ لا مَكانَ لَها سِوَى أَبَدٍ مِنَ اللَّوْنِ الطَّليقِ
كَأَنَّهُ وَحْيٌ،
إذا غَرِقَتْ سَفينَتُنا تَناوَلْنا الـحَدائِقَ أَيْنَما كانَتْ، وَرَقَّصْنا الأَيائِلَ في يَدَيْنا.
وَلَقَدْ تُباغِتُنا دَمامَتُنا القَديمَةُ وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ كُهوفِ الغابَةِ الأُولى
فَيَقْتُلُنا الـمَكانُ لأَنَّهُ وَصْفٌ
وَمَنْ لَبِسَ الصِّفاتِ وَلَمْ يَعُدْ شَيْئًا سِواهُ، تَقَمَّصَ الذّاتَ الَّتي هِيَ لا هِيَ.
يَلِدُ الـخَفاءُ حُضورَنا فِينا
نَغيبُ وَلا نَغيبُ، لأَنَّنا بَحْرٌ لِهذا البَحْرِ
كُلُّ سَفينَةٍ مِنّا سَتُبْحِرُ
كُلُّ نَهْرٍ سَوْفَ يَحْمِلُنا إلَيْنا.
ماذا سَنَفْعَلُ بِاسْمِنا في لُجَّةِ الضُّوءِ العَميقَةِ وَهيَ تَبْتَلِعُ الصُّوَرْ.
لَمْ يَبْقَ مِنّا غَيْرُهُمْ
لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ غَيْرُنا
تَعِبَ ابْتِعادي في الرُّجوعِ إلى قُرىً نَسِيَتْ حِجارَتَها البُيوتُ
وَلَمْ يَعُدْ مِنْ وَصْفِها أَثَرٌ يَدُلُّ عَلى أَثَرْ.
تَعِبَتْ دَواويني مِنَ الشُّهَداءِ
مِنْ مُدُنٍ أَراها في الـمَنامِ
مِنَ النُّزوحِ إلى بَساتينِ الكَلامِ عَلى حَجَرْ.
هَلْ تُولَدُ الأَشْياءُ مِنْ أَسْمائِها
وَالـمَوْتُ هَلْ تَرتادُهُ لُغَةٌ وَهَلْ يَمْشي بِشارِعِهِ الـنَّظَرْ.
وَالأرْضُ تورِثُني الغُزاةَ
كَأَنَّني ثَمَرٌ لأَفْواهِ الجِياعِ،
مِنَ ابْتِداءِ الماءِ نَسْجَ العُشْبِ
حَتّى الغابَةِ الخَضْراءِ في الوادي وَميثاقِ الثَّمَرْ.
ما مَرَّ مِنْ سَفَرٍ هُنا، إلاّ وَداهَمَهُ سَفَرْ.
وَأَقولُ إنَّ الأرْضَ نُزْهَتُنا القَصيرَةُ،
وَالـمُكوثُ هُنَيْهَةٌ لِلرُّوحِ كَيْ تَعْتادَ مَوْتَ الأَمْكِنَة.
وَأَقولُ إنَّ الأَرْضَ أَبْعَدُ دائِمًا مِنْ عِشْقِها،
وَأَنا عَشِقْتُ لأَقْتَرِبْ...
مِنْ بُعْدِها
وَأَنا ابْتَعَدْتُ لأَقْتَرِبْ...
مِنْ عِشْقِها
وَيُريبُكُمْ قُربي وَبُعْدي.
لا تَرْفُضوا عَطَشي،
لَقَدْ مَرَّتْ صَحارَى في دَمي،
وَشَرِبْتُ نَبْعًا كامِلاً مِنْ دَمْعِ أُمِّيَ
وَهيَ تَخْتَرِقُ البِلادَ كَصَرْخَةٍ لِيَكونَ خَدِّي
أَرْضًا لِقُبْلَتِها الأَخيرَةِ،
لَمْ تَجِدْ شَيْئًا لِتَسْتَلْقي عَقيرَتُها عَلَيْهِ،
وَضَمَّها الصَّمْتُ الَّذي صَلّى عَلَيْهِ أَبي وَجَدِّي.
وَيُريبُكُمْ قُرْبي وَبُعْدي!
كَيْفَ الوُصولُ إلَيَّ أَمْشي خارِجًا مِنِّي
إلى بَلَدٍ أُؤَلِّــفُهُ مِنَ التَّذْكارِ، وَهوَ يُؤَلِّفُ الأَزْهارَ قُرْبي.
وَأَصيحُ في كُفْرِ الخُرافَةِ بِالخُرافَةِ:
لا أُريدُ هُنا سِوايَ وَلَوْ بَقيتُ عَلى النُّزوحِِ أَنا وَحَرْبي.
ماذا أَقولُ لَها
وَقَدْ مَدَّتْ حِكايَتَها إلَيَّ:
تَعالَ نَحْزَنُ في حِكايَتِنا مَعًا
نُعْطي القَريبَ إلى البَعيدِ، أَوِ البَعيدَ إلى القَريبِ،
لَعَلَّ صُدْفَتَنا هِيَ الدَّرْبُ الَّذي انْتَحَروا لِكَيْ يَجِدوهُ في دَمِهِمْ،
فَلَمْ يَجِدوا سِوى دَمِهِمْ، وَخانَتْهُ القَصيدَة.
لا يَعْرِفُ الشُّعَراءُ مِنْ شَجَنٍ سِوى شَجَنِ الفِراقِ
تَعالَ نَبْحَثُ في عِناقِ الحُزْنِ عَنْ شَجَنٍ سِواهُ،
أَراكَ تَبْكي تَحْتَ نافِذَتي
فَأَمْنَحُكَ اعْتِذاراتي وَتَمْنَحُني قَصيدَتَكَ الجَديدَة.
هَلْ يَسْتَطيعُ الشّاعِرُ الأَعْمى التَّسَلُّلَ مِنْ فِناءِ الأَمْسِ
كَيْ يَنْسى قَصائِدَهُ الكَلامُ.
كَمْ مَرَّةً سَيَقومُ بِالتَّبْليغِ عَنْ أشْعارِهِ الأُولَى،
لِيَشْطُبَها الرُّواةُ،
لأَنَّ «ريتا» لا تُحِبُّ الشِّعْرَ إلاّ في رَسائِلِها إلَيْهِ وَفي رَسائِلِهِ إلَيْها.
وَتُريدُهُ قَمَرًا عَلى بُرَكِ السِّباحَةِ في فَنادِقِها
يُراسِلُ ذاتَهُ عَنْ ذاتِها لِيَصيرَ شَرْحًا وافِيًا لِعَجيبَةِ التَّسْليمِ بِالـمَنْفى
وَيَمْسَحَ عَنْ يَدَيْها...
دَمَنا بِمِنْديلِ النَّدامَةِ كَيْ يَراهُ النّاصِرِيُّ عَلى طَريقِ الصَّفْحِ
يَمْشي كَالصَّلاةِ إلى فِناءِ «السَّهْرَوَرْدي»:
دَمُنا عَلَيْنا لا عَلَيْها!
كُنّا نُحِبُّ كَلامَنا عَنْها وَنَكْرَهُها بِلا سَبَبٍ
سِوَى أَنّا عَشِقْنا في خُرافَتِنا خُرافَتَها،
وَحينَ أصابَنا حُزْنُ التَّشَرُّدِ،
مَدَّتِ النَّكَباتُ إصْبَعَها إلَيْها.
كانَتْ هُنا مَعَنا عَلى سَطْحِ التِّلاوَةِ مِنْ صَلاةِ الفَجْرِ حَتّى اللَّيْلِ،
نُنْكِرُها وَنَحْمِلُها إلى الـمَنْفى دُعاءً لِلرُّجوعِ إلى منازِلِنا لِنَقْتُلَها،
فَكَمْ شَعْبًا سَنَقْتُلُ،
كَمْ نَبِيّاً،
كَمْ كِتابًا سَوْفَ نُحْرِقُهُ لِيَسْتُرَها الدُّخانُ وَلا نَرى إلاّ خُرافَةَ وَجْهِنا؟
دَمُنا عَلَيْنا لا عَلَيْها.
يا هُدْهُدَ النِّسْيانِ،
قُلْ كَيْفَ اسْتَطَعْنا أَنْ نُغادِرَ ما نَشاءُ وَلا نَعودُ لِـما نَشاءُ.
كَيْفَ اسْتَطَعْنا أنْ نُغادِرَ أُمَّنا شَعْبًا
وَنَخْتَرِقَ القَبائِلَ كَيْ نَعودَ لِرَحْمِ «هاجَرَ» نُطْفَةً وَتُعيدَ مَوْلِدَنا النِّساءُ.
يا هُدْهُدَ النِّسْيانِ
أَدْرَكَكَ الـمَساءُ ضُحىً،
وَناوَلَكَ الشُّحوبُ لِوَجْهِ «فاطِمَةٍ»، كَأَنَّكَ رُقْيَةٌ أُخْرى،
لِيَكْتَمِلَ انْفِضاضُ الأَرْضِ عَنْ جَسَدٍ تُلاحِقُهُ السَّماءُ.
ماذا تُريدُ هُنا، انْصَرِفْ عَنّا إلى سَهَرِ الـسَّماءِ.
سَيَرْتَديكَ العِشْقُ مَزْمورًا تُغَنّي فيهِ «بَلْقيسٌ» وَيَرْقُصُ في مَداهُ الأنْبِياءُ.
ماذا تُريدُ هُنا.
سَيُفْلِتُكَ الضَّبابُ القُرْمُزِيُّ عَلى نَجاسَةِ هذِهِ الأَشْجارِ،
لِلصُّوفِيِّ شَيْطانٌ وَمَنْزِلَةٌ لَها بابٌ تُعالِجُهُ الغِوايَةُ،
كُلَّما اقْتَرَبَتْ سَماؤُكَ مِنْ خَرائِبِنا تَحَسَّسَها العَفاءُ.
لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ لِلْقَصيدَةِ غَيْرُ قُدْرَتِها عَلى التَّحْليقِ في بَهْوِ الحِكايَةِ،
حَلِّقوا مِثْلَ الذُّبابِ عَلى دِماءٍ لا قَتيلَ لَها
وَمَقْتولٍ يُقيمُ السَّيْفُ فيهِ وَلا تُلَوِّثُهُ الدِّماءُ.
سَقَطَتْ هُنا قَدَمٌ لـِـ«ريتا»...
مَرَّ ظِلُّ اللّهِ في جَسَدِ الـمَكانِ فَلَمْ يَعُدْ جَسَدًا،
لأَنَّ اللّهَ جَوْهَرُهُ الخَفاءُ.
يا هُدْهُدَ الأَسْفارِ، لَمْ تَحْمِلْ مِنَ النَّبَأِ العَظيمِ سِوَى صُعودِكَ لِلسَّفينَةِ حينَ عادَ الـماءُ مِـمّا خَبَّأَ الطُّوفانُ في الأَنْهارِ وَالسُّحُبِ العَتيقَةِ كَيْ نُغادِرَ قَبْلَ مَوْلِدِنا، وَتُفْنينا القَصيدَةُ حينَ تَكْتُبُها وَيُنْكِرُنا الفَناءُ.
لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ لِلْقَصيدَةِ
فَانْصَرِفْ عَنْ مَوْتِنا لِنَعيشَ فيهِ بِدونِ أَسْبابِ الوَفاةِ
لَقَدْ غَفَرْنا لِلْجُنودِ وَلِلسُّيوفِ، فَكَيْفَ يَعْرِفُنا الكَلامُ وَكَيْفَ يَفْهَمُنا الرِّثاءُ.
دَرَجٌ إلى «ريتا» نَشيدُكَ،
يَكْشِفُ البَلُّورُ عَمّا خَبَّأَتْ بَلْقيسُ تَحْتَ ثِيابِها
وَعَلى «سُلَيْمانَ» السَّلامُ،
أَلَمْ يَزَلْ مَلِكًا عَلى البَلُّورِ يَكْشِفُ ما يَبوحُ بِهِ الرِّجالُ لِـما تُخَبِّئُهُ النِّساءُ.
دَرَجٌ إلى «ريتا» الصَّفاءُ لَها الصَّفاءُ!
يا «نِفَّرِيُّ» وَأَنْتَ في اللّاشَيْءِ
هَلْ تَشْتاقُ روحُكَ وَجْهَ أُمِّكَ مَرَّةً أُخْرى
وَهَلْ أَدْرَكْتَ أَنَّكَ قَدْ تَرَكْتَ اللّهَ خَلْفَكَ
حِينَما فارَقْتَ نَظْرَتَها عَلى بابِ الوَداعِ كَأَنَّها طَيْرٌ،
تَصُدُّ الرِّيحُ إنْ نَشَرَتْ جَناحَيْها وَيَنْصَرِفُ الفَضاءُ.
يا «نِفَّرِيُّ» هُوَ الحَقيقَةُ، وَالطَّريقُ طَريقُهُ فِينا
بِدونِ الأرْضِ لَيْسَ لَهُ سَماءُ.
لَوْ كانَ يَعْشَقُ روحَنا صِرْفًا،
لَـما خَلَقَ الكَلامَ لِيَحْجُبَ الـمَعْنى وَيُخْفِيَهُ الوُصولُ،
فَتُبْدِعُ الأَشْواقُ في عَبَثِ الرَّحيلِ إلَيْهِ ما شاءَتْ
وَلكِنْ لا وُصولَ سِوى إلَيْنا.
لَوْ كانَ يَعْشَقُ روحَنا صِرْفًا، لَما خَلَقَ السُّيوفَ
لِكَيْ يُعَلِّمَنا بِأَنَّ الأَرْضَ وَقْتُ العِشْقِ، وَالعُشّاقُ مِنّا أَوْ عَلَيْنا.
وَالرُّوحُ زَنْبَقَةٌ لَها جَسَدٌ
وَتَرْويها الجَداوِلُ في حُقولِ الشَّوْقِ،
تَهْرُبُ مِنْ تَلَفُّتِنا لِتَسْكُنَ في سَرائِرِنا
فَإنَّ الرُّوحَ أَقْرَبُ في تَخَيُّلِنا وَأَبْعَدُ في يَدَيْنا.
يا «نِفَّرِيُّ» وَنَحْنُ مِثْلُكَ نَعْشَقُ الـمَعْنَى،
وَلكِنّا نَرى الأَزْهارَ أَجْمَلَ في حَديقَتِنا،
فِناءٌ واحِدٌ لِلرُّوحِ
أَسْماءٌ وَأَيّامٌ لَنا أَيّامُنا فيها
وَبابٌ لِلْحَديقَةِ مَرَّ مِنْهُ العُمْرُ وَالنّاسُ الَّذينَ إذا ذَكَرْناهُمْ بَكَيْنا.
يا «نِفَّرِيُّ» وَأَنْتَ في بَلُّورِكَ الذّاتِيِّ
تُنْصِتُ في الفَراغِ السَّرْمَدِيِّ إلى صَهيلِ الوَهْمِ
يَبْحَثُ عَنْ إلهٍ لا غُبارَ عَلَيْهِ،
لا تَبْحَثْ،
فَإنَّكَ لَسْتَ في شَيْءٍ سِواكَ،
هُوَ الـمَكانُ عَلى الـمَكانِ، إذا أَتَيْناهُ أَتَيْنا.
وَهُوَ الضِّياءُ عَلى الضِّياءِ، إذا رَأَيْناهُ رَأَيْنا.
وَهُوَ الهَديلُ عَلى الهَديلِ، إذا سَمِعْناهُ سَمِعْنا.
يا «نِفَّرِيُّ» بَكَيْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَبْلَكَ:
هَدَّني وَجَعُ السُّيوفِ، وَقِلَّةُ الأَصْحابِ،
وَالأَهْلُ الَّذينَ مَشى السُّكونُ عَلى مَنازِلِهِمْ،
وَعِشْقُ الرّاحِلينَ مِنَ الرَّحيلِ إلى الرَّحيلِ،
فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا وَلَمْ أَرَهُ وَلَمْ يَرَني،
وَلكِنِّي رَأَيْتُ السَّيْفَ يَضْحَكُ بَيْنَنا،
وَسَمِعْتُ فاطِمَتي تَصيحُ: أَموتُ مِنْ عَطَشي، ادْرِكوني!
وَبَكَيْتُ ثانِيَةً وَراءَ السَّيْفِ:
يا مَلِكَ الـمُلوكِ،
تَناهَتِ الفَلَواتُ في هَرَبي،
صَهيلُ خُيولِهِمْ ما زالَ يَسْبِقُني إلَيْكَ،
بِمَنْ أَعوذُ وَأَنْتَ أَنْتَ،
فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا وَظَلَّ السَّيْفُ يَحْجُبُهُ فَلَمْ أَرَهُ،
وَفاطِمَتي عَلى كُلِّ الجِهاتِ: أَموتُ مِنْ خَجَلي اتْرُكوني!
وَبَكَيْتُ،
ثالِثَةً بَكَيْتُ:
يُـمَجِّدونَ السَّيْفَ بِاسْمِكَ
يَزْرَعونَ ضِفافَ نُورِكَ بِانْطِفاءِ الرُّوحِ فينا،
غِلَّةٌ سَوْداءُ تَكْتَسِحُ اخْضِرارَ العُشْبِ بَيْنَ يَدَيْكَ،
يَقْتَحِمونَ أَوْقاتَ الصَّلاةِ،
دَمٌ عَلى الكَلِماتِ نَرْفَعُهُ إلَيْكَ دَمًا عَلى نَوْمِ الطُّفولَةِ،
لَمْ يَقُلْ شَيْئًا.
وَحينَ سَقَطْتُ في مَوْتِ الـمَكانِ،
أَحاطَني البَلُّورُ مِنْ كُلِّ الـجِهاتِ فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا
وَأَقْبَلَتِ الـمَسافاتُ السَّحيقَةُ في ابْتِعادِ الأُفْقِ يَحْمِلُ صَوْتَ فاطِمَتي تَصيحُ:
أَموتُ مِنْ ذُلِّي اقْتُلوني!
لا تَصْرُخي يا أُمَّ حُزْني،
إنَّ حُرّاسَ الـمَكانِ يُطارِدونَ الهَمْسَ في سُبُلِ الفَضاءِ
لأَنَّها حَرَمٌ لِقُدّاسِ العُبورِ
عَلى تَرانيمِ الرُّجوعِ إلى مَواريثِ السَّماءِ، وَقَدْ عَبَرْنا...
شَرْقًا لِيَعْبُرَ غَيْرُنا مِنْ كُلِّ ناحِيَةٍ
إلى ما كانَ مِنْ إسْمٍ وَمِنْ شَيْءٍ أَعَدْناهُ لِعِصْمَةِ رَبِّهِ الرُّوسِيِّ وَالحَبَشِيِّ،
وَهُوَ يَعودُ أَدْراجَ الكَلامِ إلى قَواميسِ التُّرابِ
كَأَنَّهُ لَفْظٌ وَمَعْنى.
يا أُمَّ حُزْني سَوْفَ نَـمْكُثُ في الوَداعِ إلى مَغيبِ الأَرْضِ عَنْ أَسْمائِنا،
نَفَذَ النُّزوحُ، وَلَمْ نَزَلْ فيهِ،
بِذلِكَ قَدْ أُمِرْنا.
يا أُمَّ حُزْني إنَّ هِجْرَتَنا امْتِثالُ الرُّوحِ فينا لِلنَّبِيِّ
فَكَيْفَ نَخْرُجُ مِنْ مَدىً في اللّهِ أوَّلُهُ وَآخِرُهُ لَدَيْنا.
قَدْ خانَكِ الشُّعَراءُ
أَوَّلُ سَيِّدٍ مَدَحوهُ كانَ أميرَ هذا السَّبْيِ
يَرْفو بالتِّلاوَةِ ما تَـمَزَّقَ مِنْ رَسائِلِهِمْ عَنِ الـمَنْفى،
لِنَقْرَأَها
وَنَحْمِلَها لِتَحْمِلَنا الجِيادُ...
سَفَرًا لَهُمْ بَيْنَ الغُموضِ وَحائِطِ الـمَبْكى
وَزَوَّجَ مَنْ يَشاءُ مِنَ الرِّجالِ لِمَنْ يَشاءَ مِنَ النِّساءِ عَلى ظُهورِ الخَيْلِ،
أَصْبَحَتِ الدُّروبُ لَنا وَلَيْسَ لَنا البِلادُ.
وَالأَرْضُ مِيراثُ القَصيدَةِ
راجِعي الـحُزْنَ القَديمَ لِتَعْرِفي أنَّ القَصائِدَ
خَيْلُ مَنْ لَمْ يَرْحَلوا أَبَدًا، وَعادوا.
وَبِأَنَّنا مِتْنا عَلى طَرَفِ القَصيدَةِ،
حِينَما سَقَطَ الهَديلُ كَأَنَّهُ حَجَرٌ عَلى عُنُقِ الحَمامَةِ
وَاخْتَفى الشُّعَراءُ حَتّى عَنْ سَجائِرِهِمْ
لِيُكْمِلَها الجُنودُ العائِدونَ إلى «أَتَتْ ريتا إلى مَنْفايَ» مِنْ «بانَتْ سُعادُ».
يا أُمَّ حُزْني لَنْ نَعودَ أَنا وَأَنْتِ
فَهَلْ سَيَأْتي بَعْدَنا أَحَدٌ لِنورِثَهُ البُكاءَ عَلى طُلولٍ غادَرَتْها الرُّوحُ،
إنَّ الرُّوحَ ذاكِرَةٌ سَتَفْقِدُنا وَنفْقِدُها
وَما لا يُسْتَعادُ فَلا يُعادُ.
وَأَنا وَأَنْتِ سَنُكْمِلُ الـمِشْوارَ، نَجْلِسُ حَوْلَ مَأْتَمِنا الصَّغيرِ
وَأَكْبَرُ الأَحْزانِ حُزْنُ اثْنَيْنِ لا يَدْري بِهِ أَحَدٌ،
إذا شَهَقَ الحَنينُ لَثَمْتُ خَدَّكِ أَيْنَ كُنْتُ كَأَنَّهُ عِنْدي وَناوَلَني السَّوادُ...
أُنْشودَةً خَضْراءَ
تَسْتَلْقي يَدي لَـمْسًا عَلى خُصُلاتِ شَعْرِكِ
آهِ مِنْ هَمَساتِ هذا الصَّيْفِ في الصِّدْغَيْنِ،
هَلْ نَضَجَتْ سَنابِلُ قَمْحِنا في الـمَحْلِ وَاقْتَرَبَ الحَصادُ.
يا أُمَّ حُزْني أَعْطِني ضِعْفَ العِناقِ أُحِسُّ ضِعْفَ الهَجْرِ،
مِزْوَلَةُ الغِيابِ يَطولُ فيها الحُزْنُ صَيْفًا
لا مَشيبَ وَبَيْنَنا هذا الغِيابُ وَلا شَبابُ.
كَمْ أَنْتِ «لَيْلى»! كَمْ أَنا «قَيْسٌ»!
وَآخِرُ نَخْلَةٍ في الأَرْضِ كُلُّ النَّخْلِ
فَاحْتَرِقي مَعي في نُورِ هذا العِشْقِ،
نَحْنُ الكائِنُ الأَعْلى
سَنَفْعَلُ ما نُريدُ بِما أَرادوا.
وَلَسَوْفَ نَعْبَثُ بِالتَّفاسيرِ القَديمَةِ،
لَيْسَ هذا الكَوْنُ إلاّ أَنْ نَكونَ وَأَنْ نَشاءَ،
لَهُمْ عِنادُ زَمانِهِمْ وَلنا العِنادُ.
وَلَنا القَصيدَةُ
مِنْ تُرابِ الأَرْضِ حَتّى حَبَّةِ القَمْحِ الأَخيرَةِ
مَوْعِدًا كَالعُشْبِ، لا عَبَثُ النُّبُوَّةِ بِالكَلامِ وَلا الكِتابُ.
لا وَحْيَ إلاّ ما تُخَلِّفُهُ فُصولُ النّاسِ في كُتُبِ الحُقولِ
وَما تُناوِلُهُ كُؤوسُ العِشْقِ مِنْ خَمْرٍ إلى الكَلِماتِ
كَيْ تَلِدَ الحَضارَةُ طِفْلَةَ الزَّمَنِ الجَديدِ عَلى فِراشِ الكَوْنِ
يَمْشي الكائِنُ الأَعْلى عَلى الكَلِماتِ،
يُحْزِنُهُ كَلامُ الأَنْبِياءِ لأَنَّ كَشْفَ الحُجْبِ يُخْفيهِ
وَيَكْشِفُهُ الحِجابُ.
يَتَفَلْسَفُ الشُّعَراءُ كَيْ يَجِدوا لَهُمْ زَمَنًا عَلى سَقْفِ اللُّغاتِ،
وَيَتْرُكونَ الكائِنَ الأَعْلى وَراءَ ظُهورِهِمْ، يَتَحَسَّسُ الغاباتِ،
يَضْحَكُ لِلأُمومَةِ في صُدورِ الأُمَّهاتِ،
يَشيعُ مِثْلَ عُذوبَةِ الأَنْهارِ في بَرِّيَّةِ الأَكْوانِ،
يَزْرَعُ زَهْرَةً في الحُزْنِ،
عُشْبًا ناعِمًا لِـحَدائِقِ التَّذْكارِ،
يَرْتَجِلُ الحَمامَ عَلى غُصونِ الدَّرْبِ في المَنْفى لِتَرْتاحَ المَراثي في الهَديلِ،
تَنامُ ثاكِلَةٌ إلى مِيعادِ آهَتِها، وَتَخْتَصِرُ السَّبايا...
زَمَنَ النُّزوحِ إلى هُنَيْهاتِ الهُجوعِ عَلى سَريرِ الدَّرْبِ،
كُلُّ سَبِيَّةٍ عُمْرٌ لِسَيِّدَةِ الرُّخامِ الأُنْثَوِيّ
وَأَجْمَلُ اللَّحَظاتِ ما اخْتَلَسَ الغِيابُ عَلى رَصيفِ النَّوْمِ مِنْ زَمَنٍ،
وَضَيَّعَهُ انْتِظارُ الطّائِرِ المَجْهولِ في قَبْوِ المَساءِ
عَلى الـمَواويلِ القَديمَةِ وَالحَكايا.
وَالحُزْنُ يَنْقُصُ كُلَّ ثانِيَةٍ،
سَيَأْتي الطّائِرُ المَجْهولُ،
يَمْحو لَحْظَةَ السَّبْيِ الأَخيرَةَ عَنْ مِلاءَاتِ السَّريرِ،
وَيَتْرُكُ الشَّيْخُ الْتِفاتَتَهُ الأَخيرَةَ
قُرْبَ ساقِيَةٍ بِلا إسْمٍ وَسِرْبٍ مِنْ صَبايا.
أُوصي الفَراشَةَ أَنْ تَصونَ السِّرَّ
وَالأَزْهارَ أَنْ تَهَبَ الْتِفاتاتِ الشُّيوخِ عَبيرَها القَرَوِيَّ
حَتّى لا تُحَوِّلَها الهَداهِدُ عِنْدَما تَأْتي مَناديلاً لِـ«ريتا».
هذي قَصيدَتُنا الأَخيرَةُ،
لا نُريدُ بِأَنْ تُلَوِّثَها لُغاتُ الشّاعِرِ الأَعْمى
يُحَلِّقُ في مَراثينا عَلى عِطْرِ البُخُورِ إلى كِهاناتِ الشُّعوبِ كَأَنَّنا سِحْرٌ
لِيَسْقُطَ عِنْدَ عَوْدَتِهِ عَلى شَرْحِ القَصيدَةِ في المَرايا.
يَخْتالُ في دَمِنا
عَلى دَرْبِ الحَريرِ إلى «سَمَرْقَنْدَ» الَّتي اهْتَرَأَتْ عَجيزَتُها عَلى حَجَرِ المُكوثِ
وَراءَ أَشْباحِ القَوافِلِ،
كَيْ يَعودَ إلى مَآتِمِنا، بِلا خَبَرٍ سِوى أنَّ القَبيلَةَ تُشْبِهُ الأَفْعَى
تُجَدِّدُ ثَوْبَها كَيْ تُفْلِتَ الماضي عَلى حَجَرٍ،
وَأَنَّ السَّبْيَ مَوْطِنُنا الجَديدُ
وَلَسَوْفَ تَمْنَحُنا مَلابِسُنا الجَديدَةُ ذاتَنا الأُخْرى، لِنَدْخُلَها سَبايا.
أَتُجَدِّدُ الأَفْعى مَلابِسَها لِتَنْسَى أَنَّها أَفْعى؟
وَهَلِ القَبيلَةُ جَوْهَرٌ لِحِجارَةِ الوادي وَغاباتِ الصَّنَوْبَرِ
أَمْ هِيَ الإنْسانُ يَقْتَحِمُ الغَريزَةَ بِالقَبيلَة؟
وَالدَّرْبُ يَصْنَعُها وَتصْنَعُهُ القَبيلَةُ في تَنَقُّلِها،
«تَطيرُ وَلا تَطيرُ» لِتُدْرِكَ المَعْنى الأَخيرَ،
وَلا وُجودَ لَهُ سِوَى أَنَّ الجَداوِلَ تَصْنَعُ النَّهْرَ العَظيمَ،
تُجَدِّدُ الأَزْهارَ مِمّا يَسْتَطيعُ الماءُ،
لكِنَّ المَنابِعَ وَالضِّفافَ هِيَ الَّتي تَرِثُ التَّدَفُّقَ وَالمَسافَةَ وَالخَميلَة.
أَتُجَدِّدُ الأَفْعى تَشَرُّدَها لِنُشْبِهَها وَيَهْجُرَنا الطَّريقُ
نَضيعُ في التَّشْبيهِ حِينَ يُلامِسُ الأَعْمى اسْتِداراتِ الرُّخامِ الأُنْثَوِيِّ وَلا يَراها.
يا أُمَّ حُزْني إنَّني خَوْفٌ يُعانِدُ لَحْظَةَ السَّيْفِ الَّتي تَأْتي عَلى مَهَلٍ،
أَخافُ مِنَ السُّقوطِ عَلى خُطى الجَلّادِ قَبْلَ دَمي،
تَفَتَّتَ كُلُّ شَيْءٍ فِيَّ غَيْرُكِ
مَزَّقَتْ جَسَدي السِّياطُ،
وَمَزَّقَتْ رُوحي القَصائِدُ حَوْلَ «ريتا» وَالفَلاشا يَحْرُثونَ الأَرْضَ حَوْلَ أَبي،
أَلَيْسَ لَنا مَكانٌ في الحِكايَةِ غَيْرَ أنْ نَأْتي إلى أَعْدائِنا أَسْرى؟
أَلَيْسَ لَنا إلهٌ كَيْ تَكونَ لَنا خَطايا.
قَدْ عادَ هُدْهُدُنا إلى «تَبْريزَ» مِنْ «حَيْفا» بِلا سَبَبٍ،
سِوَى أنَّ «القَبيلَةَ تُشْبِهُ الأَفْعى»،
وَأنَّ الأَرْضَ خارِطَةٌ لِعَوْراتِ النِّساءِ،
وَنَحْنُ عُشّاقٌ إذا هَبَطَتْ حَمامَتُنا عَلى بَلَدٍ مَلَكْناهُ عَرايا.
وَفيمَ تَوَجَّهَتْ «ريتا» إلى «باريسَ»،
لَمْ تَذْهَبْ إلى «مِيلانَ»،
إلاّ كَيْ تُضاجِعَ هُدْهُدَ الشُّعَراءِ،
ثُمَّ تَعودُ ثانِيَةً لِواقِ الواقِ
يَحْمِلُها فَلاشِيٌّ مِنَ الجِنِّ السِّياحِيِّ المُوَكَّلِ بِالبَغايا.
لَمْ تَأْتِ «ريتا» كَيْ تُقيمَ عَلى مَنازِلِنا مَنازِلَها
وَلَمْ تَجْلِبْ خُرافَتَها إلى «كَنْعانَ» إلاّ كَيْ تُجَدِّدَ عَهْدَها بِالرُّوحِ،
تَسْتَوْفي مَواريثَ النُّـبُوَّةِ مِنْ صَحارَى العُشْبِ،
صارَ العُشْبُ أَطْوَلَ مِنْ مَنازِلِنا وَبابًا لِلدُّخولِ إلى قُرانا.
يا هُدْهُدَ الشُّعَراءِ إنَّ السِّلْمَ مِثْلُ الحَرْبِ يَقْتُلُنا،
وَلكِنْ مَرَّتَيْنِ،
اهْبِطْ إلَيْنا ساعَةً لِتَشُمَّ رائِحَةَ السَّلامِ عَلى دِمانا
مَنْ مَسَّهُ شَغَفُ الوُصولِ إلى التَّوَحُّدِ ظَلَّ في بَرِّيَّةِ الهِجْرانِ
لا يَمْشي إلى شَيْءٍ سِوى رَمْلِ الهُيامِ،
وَلا وُصولَ لِعارِفٍ حَتّى يَرانا.
نَحْنُ الحَقيقَةُ،
لَيْسَ هذا الكَوْنُ آنِيَةً لِمائِدَةِ الطُّغاةِ
وَنَحْنُ لَسْنا ساعَةً لِلْحَرْبِ،
يَنْتَظِرُ السَّلامُ مَواعيدَ الحَضارَةِ حينَ تَبْلُغُ رُشْدَها
وَأَمامَنا دَرْبٌ سَنَقْطَعُهُ إلى مَصائِرِنا،
وَدَرْبٌ سَوْفَ يَقْطَعُهُ الطُّغاةُ إلى مَصائِرِهِمْ
وَلَوْ كانَ السَّلامُ يَجيءُ مِنْ عِشْقٍ أَتانا.
يا هُدْهُدَ التَّحْليقِ لَمْ نُولَدْ عَلى حَجَرٍ لِنَمْكُثَ فيهِ،
أَعْلَنّا جَوارِحَنا،
وَطارَتْ فَوْقَنا عُصْفورَةُ الميلادِ مُنْذُ اللَّحْظَةِ الأُولى
لِتَحْمِلَنا عَلى دَرَجِ القَصيدَةِ وَهوَ يَنْهَضُ مِنْ جُذورِ الماءِ
لَمْ نَرْفُضْ تَواقيعَ النُّجومِ عَلى مَرايانا،
حَمَلْنا روحَنا شَغَفًا إلى ما لا نَراهُ
لِكَيْ يَكونَ لَنا مَكانٌ خَلْفَ أَبْوابٍ سَيَفْتَحُها الوُصولُ،
فَكَيْفَ نُغْلِقُ كُلَّ بابٍ خَلْفَنا
وَنَموت ُ مِنْ فَصْلٍ إلى فَصْلٍ
لِكَيْ تَلِدَ الخُرافَةُ ما تَشاءُ عَلى خُطَىً لَمْ يَمْشِها أَحَدٌ عَدانا.
ماذا سَنَفْعَلُ في غَدٍ لا أَمْسَ فيهِ، سِوَى الوُصولِ إلى سِوانا.
ماذا نُدَوِّنُ في النِّساءِ سِوى جَوارِحِنا
وَفي الأَطْفالِ غَيْرَ مَلامِحٍ لا تَدَّعي وَجْهًا وَلا نَسَبًا
وَنُولَدُ حِينَ نُولَدُ مِنْ خُطانا.
يا هُدْهُدَ النِّسْيانِ تَنْتَصِرُ القَصائِدُ كَالسُّيوفِ،
فَنَعْشَقُ الشِّعْرَ الجَميلَ كَأنَّهُ امْرَأَةٌ
وَتَأْسِرُنا رِمالُ السّاقِ أَحْيانًا
فَنَمْشي بَيْنَ أَشْباحِ الكُرومِ، كَما مَشَيْنا فَوْقَ أَشْباحِ البِلادِ،
إلى نُزوحٍ خَبَّأَتْهُ يَدُ القَصيدَةِ مُنْذُ بَدْرٍ في دِمانا.
يا هُدْهُدَ النِّسْيانِ كَمْ قَرْنًا مِنَ الزَّيْتونِ ضَيَّعَتِ القَصيدَةُ في نِفاقِ الرَّمْزِ،
كَمْ عَصْرًا مِنَ القُبُلاتِ وَاللَّبَنِ المُعَقَّمِ في أَواني العُرْسِ،
كَمْ كَرْمًا مِنَ الأَطْفالِ، كَمْ كَرْمًا مِنَ المَوّالِ
هاجَرَ في قَصيدَتِكَ الجَميلَةِ نَحْوَ صَحْراءِ الخُروجِ مِنَ العِنَبْ.
لا حُزْنَ يَنْفَعُنا إذا رَحَلَ الرَّحيلُ وَلا غَضَبْ.
مَنْ قالَ إنَّ الأَرْضَ غَيْرُ النّاسِ
إنَّ الطِّينَ آنِيَةٌ بِلا روحٍ لأَرْواحِ الحُقولِ وَمَنْ عَلَيْها.
أَلرُّوحُ تَخْرُجُ مِنْ شُقوقِ الصَّخْرِ
تَرْتَكِبُ العَناصِرُ بِدْعَةَ الأَجْسادِ، وَالأَرْواحُ تَرْتَكِبُ القَبائِلَ كَالقَصيدَة.
لَمْ يَعْبُدوا في الصِّينِ إلاّ رُوحَهُمْ،
وَ«الكَنْجُ» ماءٌ مِثْلُ زَمْزَمَ، وَالقَبيلَةُ رُوحُها لا غَيْرَ،
أَجْنِحَةٌ تَطيرُ بِها إلَيْها.
وَالشِّعْرُ طَيْرٌ لا لِنَبْنيَ عُشَّنا في زُرْقَةِ اللّاشَيْءِ
نَهْرُبَ مِنْ قَبائِلِنا لِنَنْساها
وَلكِنْ كَيْ نُعَلِّقَ في نَشيدِ الكَوْنِ أُغْنِيَةً جَديدَة.
لا يُدْرِكُ المَعْنى سِوَى مَنْ حَلَّ بَيْنَ الرَّمْزِ
وَالأَرْضِ الَّتي تَلِدُ الرُّموزَ عَلى فِراشِ العُمْرِ،
تَقْتَتِلُ العَقائِدُ في الطَّريقِ إلى الحَضارَةِ،
ثُمَّ تَتَّحِدُ القَوافِلُ في طَريقٍ واحِدٍ لِلْخُبْزِ،
تَرْتَدُّ الرُّموزُ إلى مَواقِعِها القَديمَةِ
زينَةً لِلشِّعْرِ وَالذِّكْرى وَساعاتِ الوَداعِ،
تَفِرُّ أَرْصادُ الكِهانَةِ مِنْ هَياكِلِها وَتَرْتَحِلُ العَقيدَة.
لا يُدْرِكُ المَعْنى مَنِ اجْتازَ الرُّموزَ لِيَصْنَعَ المَعْنى
يُعَلِّقُ وَجْهَهُ في رَدْهَةِ الإعْجازِ،
يَنْتَحِلُ النُّبوءاتِ الَّتي انْتَحَلَتْ سَلامَ الحَرْبِ:
صارَ السَّيْفُ يَهْدِلُ كَالحَمامَةِ، كَالأُنوثَةِ حِينَ تَهْدِلُ في الرُّخامْ.
وَدِماؤُنا بَيْضاءُ مِثْلُ الثَّلْجِ،
لَمْ تَرَ لَوْنَ قُبْلَتِها عَلى شَفَتَيْهِ، فَاعْتَذَرَتْ
وَغادَرَتِ السَّريرَ تَزورُ زينَتَها، وَلَوَّنَتِ السَّلامْ...
بِالحَرْبِ، حَتّى يُكْمِلَ الرَّمْزُ اسْتِدارَتَهُ،
فَيُحْييها وَيَقْتُلُنا وَيَقْتُلُهُ الغَرامْ.
وَأَنا وَأَنْتِ إلى مَتى
لا حُزْنَ يَنْفَعُنا إذا رَحَلَ الرَّحيلُ وَلا غَضَبْ.
مَنْ قالَ إنَّ الأَرْضَ غَيْرُ النّاسِ، لَمْ يَعْطِفْ قَصيدَتَهُ عَلى طَلَلٍ،
وَغادَرَ ما يَشاءُ لِما يُشاءُ، فَقَدْ هَرَبْ.
لا حُزْنَ يَنْفَعُ بَعْدَ أَنْ رَحلَ الرَّحيلُ وَلا غَضَبْ.
ماذا تَقولُ عَجائِزُ الـمَنْفى وَقَدْ وَلّىَ الحَنينُ بِخَيْرِهِ وَبِشَرِّهِ
أَفْلَـتْنَ أَطْرافَ الرُّجوعِ بَداهَــةً وَحَرِزْنَ ما أَخْفى النَّوَى في سِرِّهِ
فَخَلَعْنَ عَنْ فَرَسِ الزِّيارَةِ سَرْجَها وَأَعَدْنَ طَيْفَ قَتيلِهِنَّ لِقَبْرِهِ
لَسْنا طُيورًا لِلْقَصائِدِ نَحْنُ طَيْرٌ لِلْحِجارَةِ،
عانِقي طَلَلاً عَلى وَهْمِ الوُصولِ لِنَلْتَقي،
في الرُّوحِ عَنْكَبَةٌ تَمُدُّ خُيوطَها جِسْرًا إلَيْكِ، وَبَعْدَ حِينٍ سَوْفَ يُدْرِكُها التَّعَبْ.
أَطْفَأتُ آخِرَ شَمْعَةٍ بَيْني وَبَيْنَ الإنْتِظارِ،
أُريدُ وَجْهَكِ في الصَّلاةِ لِوَحْدِنا.
أَللَّيْلُ أَقْرَبُ مِنْ أَواني الغَيْبِ
نَسْكُبُ روحَنا خَمْرًا لِكَأْسٍ كَمْ شَرِبْنا ماءَها
وَلْيَسْكُبوا أَرْواحَهُمْ عَسَلاً لِمائِدَةِ السَّماءِ،
هُنا يُقيمُ الكائِنُ الأَعْلى عَلى نَجْوى الحُقولِ،
وَغُرْبَةِ الأَنْهارِ في البَحْرِ الفَسيحِ،
وَنَظْرَةِ الأَطْفالِ حينَ يُوَدِّعونَ دِماءَهُمْ وَشَوارِعَ الـمَنْفى وَساعاتِ اللَّعِبْ.
لا حُزْنَ يَنْفَعُكُمْ إذا رَحَلَ الرَّحيلُ وَلا غَضَبْ.
لا تُنْصِتوا لِلشّاعِرِ الأَعْمى فَإنَّ الأَرْضَ تَسْكُنُ إسْمَهُ غَصْبًا،
وَيَبْحَثُ في تَجاعيدِ الخُرافَةِ عَنْ سَبَبْ
لِيَصيرَ «يُوسُفَ»،
كَيْ يُعاتِبَ مِصْرَ،
يَتَّهِمُ الكَواكِبَ حِينَما نَصَبَتْ لَهُ شَرَكًا لِيُلْقِيَهُ العَرَبْ...
في البِئْرِ،
تَسْجُنُهُ زُلَيْخَةُ في مَحارَةِ عِشْقِها غَصْبًا
فَيَحْزَنُ بَيْنَ نَهْدَيْها، وَتَعْشَقُنا الحِكايَةُ مِثْلَما عَشِقَتْهُ
يُصْبِحُ إسْمُنا وَتَرًا لِـمَغْناةِ التَّشَرُّدِ في بِلاطِ الـمَلْحَمَة.
لَمْ نُلْقِهِ في البِئْرِ
صاغَتْهُ الدَّسيسَةُ فَجْوَةً لِعَجائِبِ التَّوْراةِ
شاهَدَ وَجْهَ «ريتا» في مِياهِ «السِّينِ»
وَشْوَشَهُ النَّسيمُ:
هُنا «زُلَيْخَةُ» مَرَّةً أُخْرى.
وَوَشْوَشَهُ النَّبيذُ: كَأَنَّها عادَتْ لأَنَّكَ «يوسُفُ» العَرَبِيُّ
أَجْمَلُ مِنْكَ حُزْنُكَ
مَنْ رَماكَ وَراءَ هذا التِّيهِ وَاتَّهَمَ اليَهودَ،
مَنِ الَّذي نَسَجَ الغَشاوَةَ فَوْقَ عَيْنَيْكَ اللَّتَيْنِ ابْيَضَّتا أَسَفًا عَلى الأَسَفِ القَديمِ،
مَنِ الَّذي يَغْتالُ فيكَ الآنَ أَفْراحَ النِّساءِ،
لِكَيْ تَفِرَّ مِنَ احْتِفاءِ العِشْقِ في «ريتا» إلى سِجْنِ التَّعَفُّفِ
مَنْ يُريدُكَ شَمْعَةً لِتُضيءَ كَهْفَ الإنْتِظارِ الـمُعْتِمَة.
لَمْ نُلْقِهِ في البِئْرِ
صاغَتْنا التِّلاواتُ الهَجينَةُ مِثْلَهُ
فَإلى مَتى سَيُدُسُّ في دَمِنا أحابيلَ القَصائِدِ،
وَالـمَزاميرَ الَّتي تَسْتَلُّها التَّوْراةُ مِنْ ناياتِها الزَّرْقاءِ
ثُمَّ يَضُمُّنا قَتْلى لِصَدرٍ أَثْقَلَتْهُ الأَوْسِمَة.
وَيَقولُ إنَّ البَحْرَ خانَ شَواطِئَ الطُّرْوادِ
إنَّ مَراكِبَ الإغْريقِ قَدْ غَرِقَتْ بِلا سَبَبٍ
سِوَى أَنَّ الفَجيعَةَ حَتْمُ هذا الكَوْنِ
تَرْمينا مَصائِرُنا عَلى أَفْعالِنا عَرَضًا لِيَلْتَبِسَ الـمَصيرُ،
وَأَنَّ «هومِرَ» - مِثْلَهُ - فَهِمَ الَّذي لَنْ نَفْهَمَهْ.
وَيَقولُ إنَّ لَنا الذَّي قَدْ كانَ، نَفْعَلُ ما نَشاءُ بِهِ
وَما سَيَكونُ أَيّامٌ لِتُدْرِكَنا مَصارِعُنا، وَدُنْيا الـمُسْتَحيلِ القادِمَة.
يا أُمَّ حُزْني، هَلْ تَمُرُّ بِنا مَصائِرُنا عَلى دَرْبٍِ سِوَى الدَّرْبِ القَديمِ
مَشَتْ عَلَيْهِ الكائِناتُ إلى مَصائِرِها عَلى أفْعالِها،
وَلَرُبَّما حَسِبوا الطَّريقَ هُوَ الطَّريقُ وَلَمْ يَكُنْ
وَلَرُبَّما فَقَدَ الدَّليلُ دَليلَهُ،
الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ قُرى النَّخيلِ وَساعَةُ الـماءِ الوَحيدَةُ،
رُبَّما...
لكِنَّهُمْ تَرَكوا لَنا عِلْمَ الـمَصيرِ لِنَعْلَمَهْ.
كَمْ حاوَروا الأَشْياءَ قَبْلَ بُزوغِ فَجْرِ الإنْتِباهِ،
وَأَشْعَلوا شَمْسَ الظُّنونِ لِيَعْرِفوا سَبَبَ انْحِناءِ النَّرْجِسَة.
لَسْنا غُبارًا لِلرِّياحِ،
لَنا دُروبٌ فَوْقَ كَوْنٍ كانَ قَبْلَ مَجيئِنا أَعْمى،
وَلكِنَّ الـمَصيرَ مُؤَسَّسَة.
«ريتا» تُناوِلُ شِعْرَهُ لِـحَمائِمِ التَّوْراةِ مَزْمورًا،
لِيَحْمِلَهُ جُنودُ الإحْتِياطِ عَلى بَنادِقِهمْ لِجُنْدِ الـمَدْرَسَة.
يَشْدو لِحَيفا مِثْلَما يَشْدو الغَريبُ
يُحِبُّ يافا في السِّياحَةِ
يَلْتَقي «ريتا» عَلى شُرُفاتِ نَهْرِ «السِّينِ» سائِحَةً،
وَيُعْطيها أَوانَ البَرْدِ مِعْطَفَ أُمِّهِ كَيْ تَلْبَسَهْ.
وَيَسيرُ تَحْتَ ظِلالِهِمْ ظِلاً لِكَبْوَتِنا عَلى دَرْبِ التَّوابِلِ
يَوْمَ داهَمَنا الـمَساءُ ضُحىً،
وَصارَ الظِّلُّ سَيِّدَنا الأَخيرَ وَضاعَ دَرْبُ القافِلَة.
يا أُمَّ حُزْني!
يَحْتَسي جَسَدي الغِيابُ،
أُحِسُّ أَنْفاسَ المَكانِ عَلَيَّ يَلْهَثُ كَالكِلابِ،
أَشُمُّ رائِحَةَ التُّرابِ كَأَنَّها بابٌ سَأَدْخُلُهُ وَلكِنْ مِنْ سَريري.
هذا مَساءُ العائِدينَ إلَيْكِ في هَمْسِ المَسافَةِ،
طائِرٌ عَقَدَ الجَناحَ عَلى غُصونِ الإنْتِظارِ، وَلَمْ يَطِرْ أَبَدًا فَطيري!
لا أَرْضَ لِلْمَنْفى
سَنُدْفَنُ في أَسامينا، وَتَحْمِلُنا رَسائِلُنا الأَخيرَةُ مِنْ أَسِرَّتِنا لأَشْياءِ الوَداعِ،
تَذَكَّري الأَزْهارَ وَهيَ تَطيرُ في أَسْمائِها عِطْرًا وَطيري.
لا تَرْفُضي وَهْمَ الزِّيارَةِ إنَّهُ لُغَةٌ،
وَكُلُّ لُغاتِنا وَهْمٌ
وَتَسْكُنُها الحَقيقَةُ مِنْ رَغيفِ الشِّعْرِ في صَوْتِ النِّبِيِّ
إلى رَغيفِ الخُبْزِ في جُوعِ الفَقيرِ.
لا وَهْمَ إلاّ حِينَ يَهْجُرُنا الـمَكانُ
نَـمُرُّ مِنْ عُرْيِ الـمَكانِ بِدونِ أَسْماءٍ إلى عُرْيِ الشُّعورِ.
فَنُحاوِلُ امْرَأَةَ السَّماءِ، وَقُرْبَنا امْرَأَةُ الحُقولِ
نَطيرُ عَنْ شُرُفاتِ نَهْدَيْها عَلى كَذِبِ الصَّبابَةِ نَحْوَ أَقْدامِ الأَميرِ.
لا وَهْمَ إلاّ هُدْهُدَ الشُّعَراءِ،
يَزْعُمُ أَنَّهُ يَمْضي مِنَ الحُزْنِ الصَّغيرِ عَلى نَوافِذِنا، إلى الحُزْنِ الكَبيرِ.
لَوْ كانَ يَدْري كَمْ نُحِبُّكِ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا
وَلْم يَحْسِبْ بِأَنَّ العِشْقَ عُصْفورٌ مِنَ الإلْهامِ
يَنْتِفُ ريشَهُ وَلَهًا بِبابِ «النِّفَّرِيِّ»،
وَكانَ شاهَدَني أُحِبُّكِ، وَالبُكاءُ وَأَنْتِ عِنْدي.
ما كانَ يَعْتَصِرُ الظِّلالَ كَأَنَّها عِنَبٌ،
لِيَسْقي نازِحًا خَمْرًا بِكَأْسِ السَّهْرَوَرّدي.
مَنْ كانَ يَعْرِفُ كَيْفَ يَعْشَقُ،
كَيْفَ يَعْشَقُ؟
كُلُّ دَرْبٍ غَيْرِ دَرْبِ الحُبِّ نَمْشيهِ
وَيَمْشينا طَريقُ العِشْقِ مِنْ قَدَرِ النِّساءِ عَلى الرِّجالِ،
إلى مَنازِلِنا عَلى سَفْحٍ عَرَفْناهُ
وَصَيْفٍ سَوْفَ يَأْتينا بِفاكِهَةٍ عَرَفْناها وَوَرْدِ.
وَالعِشْقُ يورَثُ كَاللُّغَة،
تَلِدُ القَصيدَةُ عاشِقًا مِنْ عاشِقٍ
وَالأَرْضُ سَيِّدَةُ الـمَكانِ لَها القَصيدَةُ
مِنْ لِقاءِ العاشِقَيْنِ عَلى سَريرِ النَّظْرَةِ الأُولى إلى وَصْفِ الخُدودِ،
إذا تَلَفَّتَتِ القَصائِدُ في جَوانِحِنا تَلَفَّتِتِ الأَماكِنُ مُنْذُ فاطِمَةٍ وَدَعْدِ.
وَالنّاسُ تُورَثُ كَاللُّغَة.
يا أُمَّ حُزْني،
تابِعي عَزْفَ البَعيدِ عَلى الْْتِفاتيَ
كَيْ أرى طَلَلاً تَكادُ الأَرْضُ تُفْلِتُهُ وَيَنْصَرِفُ الدَّليلُ.
ماذا أُوَدِّعُ عِنْدَ بابِ الإنْصِرافِ إذا اخْتَفَتْ «كَنْعانُ» عَنْ بَصَري وَداهَمَني الرَّحيلُ.
لِلْمَوْتِ فَرْحَتُهُ الشَّجِيَّةُ حِينَ تَنْفَتِحُ النَّوافِذُ كُلُّها حَوْلَ السَّريرِ،
وَكُلُّ نافِذَةٍ لَها قَمَرٌ عَلَيَّ،
أُحِبُّ هذا الحُبَّ،
كَمْ كُنّا مَعًا قَبْلَ الوَداعِ،لَوَ انَّ وَقْفَتَهُ تَطولُ.
يُرْخي الـمَكانُ سُدولَهُ عِشْقًا عَلَيْكِ
تُغَيِّرُ الأَلْوانُ طَلْعَتَها،
قَدِ انْصَرَفَ الغُزاةُ الآنَ مِنْكِ، وَلَمْ يَعُدْ إلاّ الـمُثَلَّثُ وَالجَليلُ.
يا أُمَّ حُزْني تابِعي عَزْفَ الـمَساءِ عَلى هُنَيْهاتِ الوَداعِ،
لَوَ اسْتَطيعُ وَصَفْتُ أَحْزاني لَعَلَّ النّاسَ تَفْهَمُ ما أَقولُ.
مِنْ أَيْنَ يَأْتيني البُكاءُ وَلي أَقاليمُ الفَجيعَةِ كُلُّها
مُنْذُ ابْتِداءِ السَّبْيِ في كُتُبِ الغُزاةِ
إلى أَزيزِ الطّائِراتِ عَلى سُطوحٍ لَمْ يُسافِرْ فَوْقَها إلاّ الهَديلُ أَوِ الصَّهيلُ؟
مِنْ أَيْنَ يَأْتيني البُكاءُ؟
تَشابَهَتْ فِيَّ العُصورُ، أَنا الغَريبُ أَوِ الجَريحُ أَوِ االقَتيلُ.
لَمْ يَبْقَ مِنْ «كَنْعانَ» شَيْءٌ غَيْرُ حِنّاءِ العَروسِ عَلى مَناقيرِ الطُّيورِ،
وَوَحْشَةٌ في بابِ مَكَّةَ لا تَزولُ.
«هِنْدٌ» عَلى وَقْتِ الحِدادِ تُراقِبُ الأَشْباحَ وَهيَ تَعودُ مِنْ بَدْرٍ إلى عَرَفاتَ:
مُوتُوا مِثْلَما ماتُوا عَلى ماءِ «القَليبِ»
تَبَدَّدَ الجَمْعانِ وَانْتَصَرَ الدَّخيلُ.
لا بابَ إلاّ بابُ «يَثْرِبَ» وَالدُّخولُ.
سَتُغَيِّرُ الأَيّامُ سِيرتَها وَيُسْلِمُنا الذَّهابُ إلى الإيابِ
نُعيدُ بابِلَ لِلرُّواةِ
لِكَيْ نَعودَ إلى مَنازِلَ قَدْ بَنَيْناها غُزاةً
ثُمَّ تُسْكِنُنا الرِّوايَةُ رَحْمَ هاجَرَ
نَبْدَأُ الدُّنْيا عُراةً حَوْلَ بَيْتٍ قَدْ بَنَيْناهُ لِيَبْنِيَهُ الخَليلُ.
لا بابَ إلاّ بابُ «يَثْرِبَ» وَالذُّهولُ.
جاءوا عَلى رَمْلِ الهُيامِ تَزُفُّهُمُ خَيْلُ التَّمائِمِ،
لَمْ يُشاهِدَ رَكْبَهُمْ أَحَدٌ عَلى نَخْلٍ وَلا أَفْضى بِمَقْدِمِهِمْ وُصولُ.
يا «هِنْدُ» لا قَتْلى «القَليبِ» وَلا خُروجُ اللّاتِ مِنْ حَجَرٍ بِمَكَّةَ
لا السُّيوفُ وَلا الجُنودُ وَلا الخُيولُ.
طَيْرٌ مِنَ النَّجْوى عَلى أُفُقٍ مِنَ النِّسْيانِ،
خَيْطٌ لِلتِّلاوَةِ،
كَمْ تَداعَتْ حَوْلَهُ مُدُنٌ بَنَيْناها لِسُكْنى الرُّوحِ وافْتَرَقَتْ أُصولُ.
يا «هِنْدُ» نَحْنُ مَدينَةُ التَّوْراةِ
تَسْكُنُنا شَوارِعُها وَنَسْكُنُ مَشْيَنا تَعَبًا،
لَها سَمَرُ السَّماءِ عَلى حِجارَتِها النَّبيلَةِ في لَيالينا،
وَنَحْنُ لَنا انْتِباهُ اللَّيْلِ وَالسَّهَرُ الطَّويلُ.
يا «هِنْدُ» نَحْنُ حَماقَةُ الكَوْنِ الوَحيدَةُ
كُلَّما كادَتْ سَرائِرُنا تَبوحُ بِزَهْرَةِ الآتي عَلى غُصْنٍ مِنَ الزَّمَنِ الطَّليقِ،
تَلَفَّتَ الـمَنْفى إلى نَخْلِ «المَدينَةِ» وَاسْتَعادَتْنا لِماضيها الفُصولُ.
لَوْ كانَ في «بَدْرٍ» لَنا رَجُلٌ تُخاطِبُهُ السَّماءُ بِما نُريدُ
لَكانَ «عُتْبَةُ» سَيِّدَ الشُّهَداءِ
تَحْمِلُهُ الصَّلاةُ عَلى جَناحَيْها إلى أَرْضِ القَبيلَةِ ما وَراءَ الرَّمْلِ
ذاكِرَةً لِدَرْبٍ كَمْ عَبَرْناهُ، وَنَهْرٍ في جَوانِحِنا يَسيلُ.
لَوْ كانَ لِلْهِجْرِيِّ رُوحٌ لَمْ نَكُنْ عُشْبًا لِقُطْعانِ الغَريبِ،
وَمَوْعِدًا لِلْغَزْوِ مَفْتوحًا عَلى النَّزَواتِ
يَحْرُسُ ذُلَّنا مَلِكٌ إذا ضَحِكَ الذُّبابُ لَهُ تَمَلَّكَهُ الغُرورُ.
لَوْ كانَ لِلْهِجْرِيِّ رُوحٌ لَمْ يَكُفَّ عَنِ البُكاءِ وَلا تَخَيَّلَ ما السُّرورُ.
لا رُوحَ لِلْهِجْرِيِّ، سَوْفَ يَمُرُّ في عَبَثِ الوُجودِ كَأَنَّهُ مَوْتٌ
تُجَرْجِرُهُ حِبالُ الوَقْتِ مِنْ زَمَنٍ إلى زَمَنٍ وَيَأْنَفُهُ الـحُضورُ.
لا رُوحَ لِلْهِجْرِيِّ.
كَوْنٌ مُغْلَقٌ في الكَوْنِ،
تَمْضَغُهُ الرِّوايَةُ ثُمَّ تَلْفُظُهُ وَيُرْعِبُهُ ارْتِدادُ الذّاكِرَة.
يا أُمَّ حُزْني لَيْسَ لي وَجَعٌ سِواكِ،
وَكَمْ هَجَرْتُ الشِّعْرَ حَتّى لا تُؤَلِّفَني القَصيدَةُ
عاشِقًا مِمّا تُريدُ بِدونِ أنْ أَدْري،
وَيَأْخُذَني الكَلامُ مِنَ البُكاءِ إلى النِّساءْ.
وَأَنا أُحِبُّكِ مِثْلَما تَدْرينَ أَنْتِ، فَكَيْفَ أَقْدِرُ أَنْ أَشاءْ؟
طِفْلٌ يُناوِلُ أُمَّهُ وَلَهَ الطُّفولَةِ مِنْ بَعيدٍ،
شاخَ في الـمَنْفى بِلا سَبَبٍ سِوى أنَّ الـمَشيبَ يُرى وَلكِنَّ الطُّفولَةَ لا تُرى.
ما زِلْتُ قُرْبَكِ أَقْطِفُ اللَّمَساتِ عَفْوًا عَنْ غُصونِ يَدَيْكِ،
لَمْ أَرَ غَيْرَ ما بَيْني وَبَيْنَكِ،
كانَ هذا العُمْرُ أَقْصَرَ مِنْ مَسافَتِهِ الطَّويلَةِ،
كانَ أَطْوَلَ مِنْ حِكايَتِنا القَصيرَةِ حَوْلَ مائِدَةِ الفَراشَةِ
لَمْ نُغادِرْها إلى سَمَرِ الـمَلاحِمِ حَوْلَ مائِدَةِ الغُزاةِ الطَّيِّبينْ.
وَكَما يَقولُ الشّاعِرُ الأَعْمى:
نَسِينا أنَّ عَقْلَ الكَوْنِ فَلْسَفَةٌ لِفَهْمِ تَجَلِّياتِ الذّاتِ في كُلِّيَّةِ الإنْسانِ،
لا عَبَثَ الطُّفولَةِ وَهيَ حافِيَةٌ
وَناسًا يَحْسِبونَ بِلادَهُمْ كُلَّ البِلادِ وَقَرْيَةً مَهْدومَةً أُمَّ القُرى.
أَرَأَيْتِ «ريتا» مِنْ رُخامٍ ذاتَ يَوْمٍ قُرْبَ ساقِيَةٍ
وَقُبَّعَةً عَلى رَجُلٍ يَشُقُّ طَريقَهُ في الوَحْلْ؟
لِمَ تَحْسَبينَ بِأَنَّهُمْ يَأْتونَ مِنْ كُلِّيَّةِ العَقْلِ النَّبيلِ لِيَطْرُقوا بابَ الخُرافَةِ،
يَنْبِشونَ حَضيضَنا البَشَرِيَّ عَنْ ذاتٍ تُحَلِّقُ تَحْتَ أَسْفَلِها الذُّرى.
أَلَعَلَّهُمْ عَرَفوا بِأَنَّ عِبادَةَ الآباءِ في الصِّينِ القَديمَةِ لَمْ تَكُنْ عَبَثًا،
وَأَنَّ عِبادَةَ الطَّيْفِ الجَميلِ هِيَ العَبَثْ.
وَبِأنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدوا في الصّينِ إلاّ الصّينَ
وَالأَجْدادُ آنِيَةٌ لِمَزْجِ الطِّينِ بِالأَرْواحِ
في صَيْرورَةٍ تَلِدُ الرِّجالَ أَشَدَّ مِنْ آبائِهِمْ عَزْمًا، وَلا تَلِدُ الجُثَثْ.
لَوْ ظَلَّ مِنْ «كَنْعانَ» أَوْ «آشورَ» أَوْ «آرامَ» لِلْهِجْرِيِّ شَيْءٌ، كَيْفَ يَحْدُثُ ما حَدَثْ.
لا رُوحَ لِلْهِجْرِيِّ،
مَنْ ساقَ الحَليبَ مِنَ السُّفوحِ إلى أَواني الغَيْرِ يَشْرَبُهُ سِواهْ.
لَمْ تَدْرِ مُرْضِعَةٌ بِمَكَّةَ أَنَّها سَتَموتُ مِنْ وَجَعِ الأُمومَةِ،
حِينَ يَرْضَعُ طِفْلُها ثَدْيَ الحِكايَةِ مَرَّةً أُخْرى
وَيَعودُ أَدْراجَ الحَليبِ لِغَيْرِ ثَدْيَيْها وَيَلْعَنُها عَلى وَقْتِ الصَّلاةْ.
لَمْ يَعْبُدوا أَجْدادَهُمْ في الهِنْدِ، كانَ لَهُمْ إلهْ.
لَكِنَّهُمْ لَمْ يَرْضَعوا مَنْيَ الغُزاةِ لِيُنْكِروا آباءَهُمْ
لَمْ يَسْلُبوا غاباتِهِمْ أَسْماءَها وَيُوَرِّثوها العابِرينَ
لِكَيْ تَكونَ لَهُمْ بَساتينُ الكَلامِ عَلى صِفاتِ الآخِرَة.
وَالكَوْنُ أَكْثَرُ ما بِهِ قَفْرٌ،
فَأَيَّةُ غابَةٍ جَرْداءَ تَرْضى أنْ تَكونَ القاهِرَة؟
أَشْجارُها حَجَرٌ، وَأَكْثَرُ مِنْ مَنازِلِها القُبورُ،
كَأَنَّها قَبْوٌ بَنَتْهُ نُبوءَةُ الماضي لِتَقْطُنَهُ دَماماتُ العُصورِ العابِرَة.
وَدِمَشْقُ كَهْفٌ لاخْتِلاءِ الشِّعْرِ بِالشُّعَراءِ،
صَمْتٌ قَدْ يُعَكِّرُهُ الذُّبابُ، وَلا يُعَكِّرُهُ أَزيزُ الطّائِرَة.
لا رُوحَ لِلْهِجْرِيّ،
خَيْطٌ بَيْنَ مِئْذَنَتَيْنِ
يَجْلِسُ تَحْتَهُ ناسٌ مِنَ الشَّهْواتِ يَنْتَظِرونَ عَوْراتِ النِّساءِ،
وَيُخْبِرونَ اللّهَ عَمّا يَفْعَلُ الإفْرَنْجُ بِالدُّنْيا
وَيَخْتَصِمونَ حَوْلَ طَهارَةِ الـماءِ الثَّقيلِ،
وَهَلْ يَجوزُ بِهِ الوُضوءُ إذا تَعَذَّرَتِ الـمِياهُ الطّاهِرَة.
لا رُوحَ لِلْهِجْرِيّ،
لَوْ حَزِنَ التُّرابُ انْفَضَّ عَنْ أَقْدامِهِ طَوْعًا وَأَنْكَرَهُ الشَّجَرْ.
لا يَغْضَبُ الهِجْرِيُّ مِنْ شَيْءٍ وَلَوْ غَضِبَ الحَجَرْ.
هُوَ لَمْ يَجُعْ أَبَدًا وَلَمْ يَشْبَعْ
لأَنَّ الخُبْزَ يَقْتَسِمُ الجِياعَ عَلى الطَّريقِ إلى سُطوحِ الغَيْبِ
حَيْثُ الخُبْزُ يَنْتَظِرُ البُطونَ عَلى الـمَوائِدِ وَهوَ يَشْكو طُولَ غَيْبَتِها
وَقُرْبَ الخُبْزِ تَجْلِسُ كُلُّ أَنْواعِ الثَّمَرْ.
لا رُوحَ لِلْهِجْرِيِّ
تُدْرِكُهُ التِّلاوَةُ في ثِيابِ الشِّعْرِ أَحْيانًا
وَيَسْجُدُ فَوْقَ مِنْديلِ القَصيدَةِ لا يَخافُ مِنَ السُّقوطِ لأَنَّهُ ظِلٌّ
وَتَعْشَقُهُ الـمَعاني في الأَخاديدِ العَميقَةِ وَالحُفَرْ.
وَلَهُ مَدىً في العِشْقِ مَبْدَأُهُ الرُّخامُ الأُنْثَوِيِّ،
تَمُدُّهُ امْرَأَةُ الرُّخامِ مِلاءَةً تَحْتَ اضْطِجاعَتِها عَلى ريشِ القَمَرْ.
وَلَرُبَّما رَشَقَتْهُ شَرْخًا كَالهِلالِ عَلى بَضاضَتِها
لِتَسْتَوْفي العَراقَةُ وَجْهَها بِاللَّمْسِ
كَمْ مِنْ شاعِرٍ أَعْمى وَإصْبَعُهُ تَرى أُفُقَ البِدايَةِ خَلْفَها،
وَأَمامَها أفُقُ النِّهايَةِ وَالنَّبِيُّ الـمُنْتَظَرْ.
كَمْ شاعِرٍ أَعْمى يُلاحِقُنا بِإصْبَعِهِ
لِيَرْسُمَ في دَخيلَتِنا الشَّقِيَّةِ ما يَشاءُ مِنَ الصُّوَرْ،
بِدِمائِنا فَوْقَ الرُّخامِ
يَقولُ إنَّ الأَرْضَ تَهْجُرُنا وَنَهْجُرُها
وَإنَّ السِّرَّ يَكْمُنُ في القَصيدَةِ وَحْدَها
وَالحُزْنُ زِينَتُنا عَلى دَرْبِ الـمَصيرِ
لَنا سَعادَتُنا عَلى وَقْتٍ يُزاوِلُنا
لَهُ كُلُّ الحِكايَةِ
مِنْ رَغيفِ وَكالَةِ الغَوْثِ الشَّهِيِّ إلى عَشاءِ الوَصْلِ في «باريسَ»
ثُمَّ يَقولُ إنَّ العِشْقَ مائِدَةٌ لِكُلِّ النّاسِ
عِشْقٌ بَيْنَ لاجِئَةٍ وَمُعْتَقَلٍ، وَعِشْقٌ بَيْنَ سَيِّدَةِ الرُّخامِ وَيوسُفَ العَرَبِيَّ،
عِشْقٌ بَيْنَ أَيْدينا وَلكِنْ لا تَمُرُّ بِهِ النِّساءُ عَلى زَمانِ الوَصْلِ
إنَّ الحُزْنَ أَقْرَبُ في الرُّخامِ مِنَ الأُنوثَةِ ساعَةَ التَّشْييعِ
وَالسّاعاتُ أَعْمارٌ لأَطْفالِ الـمُخَيَّمِ
كَيْفَ نَعْشَقُ بَيْنَ نَعْيٍ لَمْ يَزَلْ فينا وَنَعْيٍ لا يُفارِقُهُ النَّظَرْ.
لا وَقْتَ إلاّ لِلْبُكاءِ عَلى رُخامٍ لا تَمُرُّ بِهِ الفُصولُ وَلا يُواعِدُهُ الـمَطَرْ.
وَالحُزْنُ وَصْلٌ لا يُفارِقُنا
وَعَزْفٌ دائِمٌ في الرُّوحِ تَعْزِفُهُ أَصابِعُهُمْ عَلى وَتَرِ الدِّماءِ،
وَسَوْفَ نَعْرِفُ كَيْفَ نَرْفَعُ لِلنُّهودِ صَلاتَنا شِعْرًا
إذا تَعِبَتْ أَصابِعُهُمْ أَوِ انْقَطَعَ الوَتَرْ.
وَنُحِبُّ «ريتا» في الرُّخامِ،
أَلَمْ تَجِئْ «بَلْقيسُ» مِنْ سَبَأٍ لِتَقْطُنَ في مَرايا الماءِ عارِيَةً وَيَقْتَنِصَ الرُّخامْ...
مِنْها أُنوثَتَها
وَيُبْحِرُ زَوْرَقُ الشَّهْواتِ في نَهْرٍ مِنَ البَلُّورِ نَحْوَ المَخْدَعِ النَّبَوِيِّ
تَهْدُلُ في جَوانِبِهِ الذُّكورَةُ كَالحَمامْ
وَعَلى «سُلَيْمانَ» السَّلامْ
وَأَبيهِ «داوودَ» السَّلامْ
وَأخيهِ «شارونَ» السَّلامْ
وَعَلى ضِفافِ «السِّينِ» وَالأَعْمى وَ«بَلْقيسَ» السَّلامْ.
وَعَلى الَّذينَ يُقايِضونَ الرُّوحَ بِالـمَنْيِ السَّلامْ