2...
بكى الولد على ظهر السفينة واستدارت عيناه في الرعب كالكوّة. بحث عن أترابه، لم يجد أحدًا. أين الشباك وأين بياض الحائط! أين "حمامير" السقف! لا أحد يعرفه في هذا المكان غير العتمة.
بكى كما يفعل كل ليلة لا يجد فيها أمّه إلى جانبه، ولكنها لم تأت هذه المرّة. والتقت عيناه أثناء البحث بدائرة رمادية في وسط العتمة لم يعرفها من قبل، ولكنه مع ذلك أنصت قليلاً، فلربما تهدل الحمامات كالعادة. ولكن الحمامات لم تهدل. وكيف تكون هذه الكوة طيقان الحمام وهي مستديرة هكذا، كبيرة هكذا ووحيدة هكذا!
أول ما بدأ الخوف كان بقعة صغيرة بحجم القرش في صدره ثم تكاثرت البقع، فأحسّ بواحدة في رأسه وأخرى في أسفل بطنه. وحينما انتبه لأول مرة لذلك النشيش الشبيه بحفيف أوراق الشجر في ليالي الريح، وسمع تلك الضجة الفجائية الهشة، التي تشبه صوت تكسّر الحطب اليابس حينما يسقط عليه حجر – حينما انتبه وسمع صارت البقع المؤلمة أكثر من أن تُعدّ. ولكن الخوف لم يمنعه من (مع؟) ذلك أن يشعر أيضًا بذلك الاهتزاز الواضح في المكان، فكان هذا أكثر من أن يتسع له جسده الصغير، فصرخ صرخة مستديرة كالرعب نفسه:
- يمّاا ا ا ه...!
(والرعب مستدير لأن الدائرة هي الشكل التامّ وأكبر المساحات حول النقطة) واستدارت عيناه وفمه أيضًا:
- يمّاا ا ا ه!
وفي كل مرّة كانت الصرخة تزداد وثوقًا وقوة لأن الرعب في أوّله ثخين لافح كالهواء الساخن، ثم كثيف أبله كالخشب، وبعد قليل صلد بارد له رنين كالمعدن.
- يمّاا ا ا ه!
وانتقل مع الخطوات المقتربة إلى حالة من الرعب المتموج. إنها ليست خطوات أمّه، فهو يعرف وجهها وصوتها، ولكن وجود من يمشي على الأرض في هذا المكان ليس بالقليل.
دخل الضوء وتبع الرجل.
طويل وسمين لا يلبس قمبازًا أو حطة أو عقالاً .
كان بكاؤه الآن أنينًا مستجديًا ومتقطعًا. وفرك الرجل جبهته ببطء بيده التي لا تحل المصباح، واستنجد بطفولته القديمة وبذكرى الأيام الحلوة يوم كان له أم!
- لا تبك!
وعرف أنه فشل. هذه اللهجة لا تصلح للأطفال.
- أمّي!
- هل تريد أن تأكل؟
أليس من الأفضل لو قال له أيضًا، يا حبيبي!
- أمّي...
- إسمع. سأعطيك بيضًا وجبنًا وحلاوة.
- أمّي...
- وتفاحًا.
- أمّي...
- ولكنك تعرف أن أمك ليست هنا.. ما هذا! نحن لم نصل بعد وهي تنتظرنا هناك. ألم يخبروك بذلك؟
فهم الطفل فقط أن أمه ليست هنا، فاندفع فيه الرعب من جديد:
- يمّاا ا ا ه!
ووقف الرجل عاجزًا، تنتقل عيناه ووجهه بين تعابير الحيرة والانشغال الساذج بالتفتيش عن حل. لعنة الله عليهم! لماذا لم يرسلوا معه أحدًا يتكفل به أثناء الرحلة ثم يسلمه إلى أمه يدًا بيد؟ متى كان الأطفال يرسَلون إلى أمهاتهم كصناديق البضاعة! ثم لعنة الله عليه هو، ما الذي لم يجعلوه ينقله في هذه "الكرخانة بحري"! كل القاذورات المحتملة، من الماعز وحتى النساء المهربات، ومن البطيخ حتى الحشيش. لكن من كان يخطر بباله مثل هذه البضاعة الجديدة الباكية غير أقذر صاحب "كرخانة بحري" على وجه الأرض! لو اشتهت "أم رباح" قلب حوت ذكر، لقال له، بكل بساطة وهو يكوّر يده على شكل قلب!
- عمر! قلب حوت من فضلك! ...
ثم أدار ظهره وذهب قبل أن يسمع منه أنه لا يوجد حيتان بين حيفا وبيروت، وأن قلب الحوت أكبر من قبضته بكثير. ولو اشتهت امرأة أن تلد في عرض البحر مقابل خمس ليرات لأرسلها معه بدون قابلة وقال له:
- بسرعة من فضلك!
ولو... ولكن لماذا! ألم يقل له أول الليل عندما أبحر من حيفا بكل بساطة:
- ريح السلامة! آه... نسيت! في السفينة ولد صغير. سلّمه إلى أمه في بيروت. ستقابلك هناك عندما تصل. ريح السلامة! لا تنس الـ... أنت تعرف.
وفرك رؤوس أصابعه ثم أنفه وذهب. أما هو فإنه لم يخطر على باله حتى أن يستغرب وجود ولد وحيد على ظهر السفينة.
ثم لعنة الله على هذا الولد! ما الذي يبكيه ما دام يعرف أنه ذاهب إلى أمه! ولكن ولد في مثل سنّه... ألا يبدو الأمر غريبًا!! أعوذ بالله.. وهل يحدث في الدنيا شيء كهذا!
- لا تبك يا حبيبي! أليست أمك في "بيروت"؟ نحن ذاهبون إلى هناك.
- أمي في دارنا.
وتابع البكاء كأنه يقوم بمهمّة.
- وأين داركم؟
- هناك!
وأشار بكل يده الصغيرة ناحية السقف.
صمت الرجل قليلاً ثم قال:
- عال.. عال.. نحن ذاهبون إلى داركم، فلماذا تبكي؟
خفّ بكاء الولد، وتحول إلى نشيج متقطع، فوضع الرجل يده على كتفه وقال:
- بعد قليل تكون عند أمك. وإياك أن تفارقها بعد اليوم.
وهز رأسه وتابع الكلام مع نفسه:
- هكذا أنتم دائمًا. الكل يريد أمه. لا أحد منكم يبكي على أبيه.
وتاهت أفكاره بعيدًا، وسكت صوته ولكنه تابع الكلام:
... أنا أعرفكم. كان أكبر منك بقليل. تركت البحر من أجله وعملت حمّالاً في الميناء لأبقى إلى جانبه، ولكن عبثاً. كان يبكي في الليل والنهار على أمه. خفت عليه من الهزال، أو أن يفقد عقله، وحينما كان يبكي كان يفعل مثلك تمامًا!
- يماا ا ا ه!
ما الذي يجعلهنّ محبوبات هكذا! إن لهنّ أحيانًا قلوبًا كالحجر. ولقد كانت هي كذلك، ولكنه لم يكن يعرف. كان يريد أمّه فقط. ويظل يبكي إلى أن يتعب ويفقد القدرة على البكاء. ربما نفس قصتك تمامًا، ولكنها لم تكن بعيدة كأمك. أمسكت بيده إلى أن أوصلته إلى جدته.. إلى أمها هي. قلت لها: أخبريها أنني أتراجع. لتأخذ الولد لأنه سيموت بدونها، وسوف أدفع.
- ما اسمك يا حبيبي؟
- عيد.
- اسمه "علي". وهو الآن فتىً تقريبًا. سنوات قليلة ويصبح رجلاً... وأنت أيضًا. ولكنك مثله أيضًا، سوف تحمل اسم أمك. سوف يدعونك بها في كل مكان. هل تحب أمّك كثيرًأ؟
وقال الطفل بكل جسمه، وبلهجة مملوءة باللهفة والترقب، وكأنه يتوقع أن يُخرج له أمه من جيبه أو من تحت السرير:
- آه.
- هل تحب أباك؟
وبدا الولد له عاجزًا عن فهمه. ولكنه قال أخيرًا بصوت حيادي:
- لا.
- لا!! ... ولكن ربما كان الحق معك. يبدو أنه أب لا يأبه للحب هو الآخر. كيف طاوعه قلبه أن يرسلك إليها بهذه الطريقة! يضعك نائمًا في السفينة ويمضي حتى بدون أن يوصي بك أحدًا! لا شيء يثير الخوف، ما اسم أبيك؟
- ميت.
- ميت! من أرسلك إذن! إنك تخيفني يا "عيد".
وأحسّ بالرعب لمجرّد التفكير بأنه و"عيد"..
- من أرسلك إذن!
- أمّي.
- أمّك!!
... هكذا أنت يا "عمرو". ضحية في كل لعبة من لعب هذه الدنيا. لقد كان لها الحق يوم تركتك وذهبت.
- من أرسلك إذن!
لا تنظر إليّ هكذا. ماذا أفعل أنا لك؟ لو كنت فقط تستطيع أن تخبرني بشيء.. عيناك تقولان إنك ضائع. وأنا ضائع. الفرق أنك عصفور صغير وأنا فيل كما ترى. وحينما يضيع الإنسان لا يحسّ أنه كبير أو صغير. يحسّ أنه ضائع فقط.
- هل تريد أمّك يا "عيد"؟
- آه.
- سنجدها. سأجدها، إذا كانت لك أم على هذه الأرض، أو حتى في أعماق البحر. ثم! لن أدعك تضيع.
دنيا أعجب من هواء البحر. ويبدو أنك قد فاجأتك العواصف، ولكن يا "عيد" لا تخف! معظم العواصف تثير من الضجيج أكثر مما تستحق. هل ترى هذه "الكرخانة بحري"؟ إنها تهتز أمام أضعف ريح. ليس لأن الريح قوية، ولكن لأنها هي قحبة. والقحبة تهزّ ردفيها حتى في النعش. والدنيا أيضًا. إنها قحبة! تمشي وتهزّ أردافها للكبار فيسقط الصغار على وجوههم، ولكن معظمهم يقومون. سقطة واحدة لا تميت. وقليل من العذاب لن يضرّك يا "عيد"، فإن ذلك لم يضرّني.
- هل نمت؟ عال. هذا أحسن.
لم يقض مثل هذه الليلة منذ عشرة أعوام.