قصيدة أخرى من الشعر المباشر
عِمْتِ مَساءً عاشقةَ الشهداءِ وَزوْجَ القِدّيسينَ، أتيتُ لأسألْ.
غادرْتُ عَروسَ المَرْجِ على راحاتِ الشفَقِ مُلوّثةً بِالهُجَناءِ وأيّامِ الزِّنْجِ، وَحُفَرُ المُرتدّينَ تُهاجِمُ مئذَنَةَ الدَّيْرْ.
مَطرٌ كظلالِ النّمْلِ يُهاجِمُ بَوّاباتِ المَرْجِ فيُغلقُها بِالعَتْمةِ في وَجْهِ الكنعانيّينَ وَتنتشِرُ فُقاعاتُ الظُّلمَةِ كعَناقيدَ تُبشّرُ بِالزّحْفِ المُتربِّصِ بِالسّاحاتْ.
شاهدْتُ وُجوهًا تتقوّسُ كالفخِّ أمامَ قُبورِ الأطفالِ، رِجالاً لَبسوا الليلَ فَصاروا زُرْقًا كالبَحْرْ.
سَألتُ فَقالوا: لِخِداعِ المَوْجْ.
وَرأيُتُ الكلبَ يَدُلُّ الذّئبَ على الحَمَلِ وَينْهشُ قَدَمَ الرّاعي.
وَسألتُ فقالوا: لِخِداعِ الذّئبْ.
وَشاهَدْتُ الذّئبَ على تَلٍّ يَرتَشِفُ القُطعانَ، سألتُ فَقالوا: بَعْدَ قَليلٍ تَقتُلهُ التُّخْمَة.
فبكيتْ...
وَأخيرًا، دَلَّ عَليَّ الدّمْعُ فَقادُوني نَحْوَ أميرِ السّبْيِ فشاهدْتُ نِساءَ السُّجناءِ يُلمّعْنَ نَوافِذَ سيّارَتِهِ وَصِغارَ الشعَراءِ على قََدمَيْهِ وَفي الزَّهْريّاتْ.
كانَ طويلاً كالوَهْمِ، رَقيقًا كالسّكينِ وَشهْمًا كدوِيِّ المِدْفَعْ.
لاطفَ خَصْرَ امْرأةٍ تلبَسُ خارطةَ السّبْيِ وَأشعلَ عَينيْهِ مِنَ النافذةِ وقالَ: تَقدّمْ!
أعْرفُ هذا الوَجْهَ! أتُؤمِنُ بالرّجْعةِ؟
قلتُ: وماذا أفعلُ إن لمْ أرْجِعْ!
قالَ: أتؤمنُ بالحُبِّ؟
قلتُ: لماذا أحْمِلُ هذا الوجْهَ إذنْ!
قالَ: أأنتَ عَدُوُّ الفقراءِ؟
فقلّبْتُ جُيوبي.
قالوا: شاهَدْناهُ على طرَفِ السّبيِ يَسُبُّ جَنازيرَ الدبّاباتِ وَيبْكي.
- مَهْزومٌ!!
صَرخَ أميرُ السّبيِ وَهبَّ على قدَميْهِ فأقعدَهُ القَيْدُ وغاصَتْ إصْبعُهُ تحتَ السُّرّةِ فتلوّى جسدُ المَرْأةِ في خارطةِ السّبْيِ وَصرخَتْ:
- آهِ دِمَشقي!
- مَهْزومٌ!!
لا أعْرفُ كيفَ يكونُ المهْزومُ ولكنّي أُجلَدُ أحْيانًا للتسليةِ، أُصادُ كما يُصْطادُ السُّمَّنُ، وَيطاردُني أطفالُ المُدُنِ المَحْشوّةِ بالبَدْوِ.
- آهِ دِمَشقي!
- مَوْتورٌ!
مَنْ يَدْري! فأنا أكثرُ حَيٍّ أمْواتًا، وَأقلُّ الناسِ قُبورًا، أُعْرَفُ بالمَذبحَةِ، يُحاصِرُني الجيْشانِ: قَبيلي وَعَدُوّي.
يكرَهُني حتّى أطفالُ العالَمِ، أُقتَلُ وَأُسمّى بالسفّاحْ.
- آهِ دِمَشقي!
- لاأُُممِيُّ!
لا أدْري، فأنا فأرٌ مَمْسوكٌ مِنْ ذنَبي أرْكُضُ في قبْضَةِ مَوْتي. تحْتَشدُ عُيونُ القِططِ على عُنُقي فَيُفارقُني العالَمْ.
"مَهْزومٌ، مَوْتورٌ، لاأُمميُّ" صَرخَ أميرُ السّبيِ فهبَّ صِغارُ الشعَراءِ على قدَمَيْهِ وَغنَّوْا شَرْقًا:
"مَهْزومٌ، مَوْتورٌ، لاأُمميُّ" فتوَجّهْتُ إليكَ بصوْتٍ يَتصارَخُ فيهِ الأطفالُ وَرائحَةُ شِواءِ الزعْتَرْ:
مَهْزومٌ يا قُدْسُ فَماذا بَعْد!
أما اكْتمَلَ السّبْيُ وَغَصّتْ بِالسّلبِ عُيونُ المُنتصرينَ وَبالموْتِ عُيوني!
ماذا أكثرُ مِنْ أن تُرفَضَ حتّى صَرَخاتُ عَذابي حينَ تُعانقُني النّارْ!
ماذا أكثرُ مِنْ أنْ يَعبُرَ مَوْتي العالَمَ، لا يخلعُ أحدٌ قبّعَةً أوْ يعرفُ إنْ كانَتْ تلكَ جَنازَةُ شَعْبٍ أمْ كَلبْ!
ماذا أكثرُ يا شُعراءَ الزّهريَاتْ!
أمْ أنَّ الشاعرَ كَذِبٌ أزليٌّ، فَرَحٌ أزليٌّ، يتكامَلُ كالبَدْرِ على عَوْرَةِ هذا العالَمِ ليُغطّيَها!
أعْطوني حُبّاً أصْنعُ عُرْسًا. أعْطوني وَرْدًا أصْنعُ إكليلاً. أعْطوني مَيْتًا أبْني قَبْرًا. أعْطوني فَخْرًا وَهَزائمَ أصْفَعُ وَجْهَ بُطولتِكُمْ بِالنّعْلِ وَأبْصُقُ في المِرْآةِ وَأكْرَهُ نَفسي.
مَنْ أنا حتّى أرْفضَ قاعدَةَ الألمِ وَمعنى الأشياءِ فأجْلسُ مُنتصِرًا تحتَ حِذاءِ العالَمْ!
أجْلسُ في بابِ عَجائبِكُمْ لا تَحْرقُني النارُ وَلا تَجْرحُني السكّينْ!
ماذا يفعلُ طفلٌ مِنْ طُرْوادَةَ مَغْموسٌ في السّبيِ وفي النكبَةِ مَكْسورٌ سَيْفُ أبيهْ!
ناشدْتُ الناسَ بُيوتًا تلمَعُ كأكُفِّ الغرْقى حَوْلَ سَفينَةِ حُجّاجٍ ضَربتْها الرّيحُ، وأقسَمْتُ عَلَيهمْ بِالحُبِّ وَلُعَبِ الأطفالِ فلمْ أسْمَعْ إلاّ ضَحْكَ العالَمْ.
وَبكيْتُ أمامَ الغُرَباءِ ففتَحوا أبْوابَ الغُربَةِ وَالكذّابينَ الثوْريّينَ فقالوا: أنتَ أميرُ المُضطَهدينَ تَقدَّمْ نَحْوَ الموْتِ وَنحنُ وَراءَكْ. سَنؤلّبُ أمَمَ الأرضِ لتأبينِكَ، بَعْدَ قليلٍ تُشرقُ شمْسُ الحُرّيَّةِ مِنْ دَمِكَ فَتُصْبِحُ مَلِكَ المَوْتى.
وَبَكيْتُ أمامَ العرَبِ فأعْطوني بَدَويّاً لا يَلْبَسُ غيْرَ الكوفيّةِ وَالنّفطِ، يُرَقّصُ عَوْرَتَهُ كالفَرَسِ النّجْديّةِ في المُؤتَمَراتِ، وَيَحْترفُ مُحارَبَةَ الثوّارِ، وَخيْلُ الغزْوِ تَبولُ عَلى قَبْرِ أبيهْ.
وَأخيرًا يَخرُجُ عَرَبيٌّ مِنْ سِيناءَ يُكلّمُهُ الرّبُّ على عَربَةْ "طُرْشي"
يُقبِلُ مُمتلئًا بِنُبوءاتٍ بَيضاءَ كَسِرْوالٍ تَنْفخُ فيهِ الرّيحْ
وَعلى المِنْبَرِ تَنقطِعُ التِّكّة فَيَعُمُّ الضّحْكُ العالَمْ.
فلماذا لا أشتُمُ، يا سُفَراءَ الفرَحِ ذَوي الإلْياتِ المعْقوصَةِ شَرْقًا أوْ غَرْبًا، تُجّارَ دَمي!
ماذا أدْعو وَطنًا يتآكلُ كالجُبْنةِ في الغزَواتِ المَوْقوتَة!
ماذا أدْعو هذا العُنُقَ المَفروشَ لأقدامِ الغازينَ مِنَ البَدْوِ الرُّحَّلِ حتّى فِرَقِ الأسْطولِ السّادِسْ!
ماذا أدْعو القتْلَ، السّبْيَ، التّشريدَ، العربيَّ الأنثى في هذا العَصْرِ الذّكَرِ، وَماذا أدْعو الشعَراءَ المنتَصرينْ!
ماذا يا قُدْسُ!
ماذا يا عاشقةَ الشهَداءِ وَزَوْجَ القِدّيسينَ، فإنّي جئتُ لأسْألْ!