تغييرات في الصلاة الإبراهيمية
- مالك؟؟
وحاول بكلّ الإخلاص أن يردّ عليّ، لكنه كان كالغريق الذي يحاول أن يتكلم في الماء. فالإنسان لا يمكن أن يقهقه ويتكلم في آن واحد، وعليه أن يؤجّل أقلّ الأمرين إلحاحًا. ولقد بدا واضحًا أن هيستيريا الضحك قد تملّكته إلى حدّ معيّن، إذ أنني أنا الآخر بدأت في الضحك. وأخذ استسلامي له يتزايد مع كلّ حركة أو نظرة كانت تصدر عنه، وهو يجاهد للخروج من مأزق الضحك الذي وقع فيه... يد على بطنه ويد تتشبّث بكتفي، ووجهه يتطاول إلي من انحناءاته القهريّة بعينين يطلّ منهما الكلام ثم لا يلبث أن يغوص في فيض من البلاهة والدموع. وعرفت أن عليّ أن أنتظر إذا أصررت على معرفة السبب.
ووصلت "سخسخته" غايتها. وبدأت تتحول إلى " كركرة" تحولت بدورها إلى فحيح، ثم إلى لهاث استطاع أن يقول لي من خلاله وهو يطوّح بيده بحركة غير محدّدة:
- الشيـ ... الشيـ ... “الشيخ علي”.
وبسبب إحساس خفيّ ازداد ضحكي قوّة ووضوحًا، فطبيعة العلاقة بين "ابراهيم" و”الشيخ علي” كانت على قسط من الطرافة يثير الابتسام دائمًا ويثير الضحك في أحيان كثيرة. بل إن مجرّد الجمع بينهما في إطار قضية واحدة كان يذكّرني أنا شخصيًا بـ"الكاريكاتير" والنكتة. وفي الحقيقة فإنه كان يجمعهما أكثر من إطار واحد، فقد كان كل واحد منهما طريفًا في بابه... وهذا إطار. وكانا متناقضين بشكل حادّ يلفت النظر بحيث أصبحا من النماذج التي يغصّ بها "الفولكلور" المحلي لقريتنا، وهذا بالطبع إطار آخر. ولكن أكثر هذه الأطر وضوحًا كان تجاورهما في المسكن، الأمر الذي ساهم كثيرًا في إبراز الأطر الأخرى. فقد زادهما القرب في المسكن بعدًا في الودّ وإيغالاً في التناقض إلى درجة أن ظهرا وكأنهما في سباق أو منافسة على التفوّق، كلّ في مجاله. وكانت النتيجة أن تفوّقا على نفسيهما، وكلّ في مجاله أيضًا. ف”الشيخ علي” - لولا إبراهيم – مجرّد إمام في مسجد القرية، يؤمّ المصلّين ويغسل الموتى ويلقّنهم كلمة السرّ لولوج العالم الآخر ويسجّل عقود الزواج بخط واضح متزمّت إلى درجة البلاهة. ولكنه بفعل التحدّي الذي فرضته عليه مجاولته لـ"إبراهيم" أصبح إلى جانب كلّ ذلك حامل لواء الدفاع عن الدين والأخلاق. و"إبراهيم" - لولا “الشيخ علي” – مجرّد إنسان ظريف يعيش على وفاق مع كلّ متع الدنيا، بل حتى مع الدين نفسه، فهو لا يرفض أي ركن من الأركان الخمسة، وتحفّظه بالنسبة للركنين الثاني والرابع لا يحمل معنى الإنكار أو الطعن بقدر ما يحمل معنى التهرّب من واجب ثقيل. وحتى ثقافته الدينية فقد كانت لا بأس بها، وكثيرًا ما كان يتمثل عند رؤيته لامرأة جميلة أو عندما تسري لذّة الخمر في عروقه، الآية الكريمة:
- ما خلقت هذا باطلاً، سبحانك!
وربما كان "إبراهيم" سيظلّ إنسانًا يحبّ المتعة ولا يسرف فيها، لولا أن “الشيخ علي” فرض عليه أن يحمل لواء الدفاع عن حق الإنسان في التمتع بكلّ مباهج الحياة، وعلى رأسها الخمر.
ومن هذين الموقفين – لكلّ منهما – بدأت الحرب بين الاثنين. بدأها “الشيخ علي” بتكفير "إبراهيم" ولعنه علنًا في المجالس، ثم التعريض به في كلّ واحدة من خطبه من حديث عن "الجار السوء" أو شارب الخمر أو الزاني. وكان المصلّون يلاحظون أنه كان يتكلم بحرارة خاصة عن هذه المواضيع، ووصل به الأمر إلى القول بأن الكافر الذي لا يشرب الخمر خير من المسلم الذي يشربها.
وكان ردّ "إبراهيم" أكثر حسمًا فقد بدأ يجلس مع الزجاجة على الشرفة، ثم أضاف إلى ذلك بأن اشترى مسجّلاً بالتقسيط وأدخل "أمّ كلثوم" و"ليلى نظمي" و"العزبي" إلى المعركة.
ثم لجأ “الشيخ علي” إلى التشهير العلني، وادعى البعض بأنه قال عن "ابراهيم" بأنه من سلالة فاسقة وأنه تعلم شرب الخمر من أبيه الذي كان يشربها بالسر رغم تديّنه الظاهر. ولم تكن الأوضاع في القرية لتسمح لـ"ابراهيم" بالرد العلنيّ، فلكل شيء حدود وكان "ابراهيم" يدرك ذلك تمامًا.
- ماله "الشيخ علي"؟
وانتظرت مرّة أخرى إلى أن استطاع الردّ:
- روح .. رو .. ر .. روح شوف.
وشعرت بالجوّ الغريب الذي كان يسود المكان قبل أن أدخل الغرفة. كان الصمت يبتلع كلّ شيء، وكان ذلك النوع من الصمت الثقيل الذي يحسّه الإنسان بجلده، والذي يأتي عادة عقب زوبعة من الضجيج تبدأ بغتة وتنتهي بغتة. وكان "الشيخ علي" يجلس متوثبًا على طرف الفراش وكأنه يتهيّأ للقفز، أمّا وجهه فقد كان جديدًا عليّ ولا يمتّ إلى وجهه بصلة سوى صلة القربى البعيدة.. عينان حمراوان تتدافع منهما النظرات العنيفة في كلّ اتجاه، وملامح متوتّرة وكأنها تتشبّث بلحيته التي بدت غريبة في وجهه وكأنها لحية مستعارة.
- جيت بوقتك، هناك! جنب "أبو مصطفى".
وقلت وأنا أجلس متصنّعًا الهدوء:
- خبر خير؟
وزمجر "الشيخ علي":
- خير؟! ظل خير؟! لكن معلش. صدق الله العظيم.. لا كرامة لنبيّ في وطنه.
وأدار بعض الموجودين رأسه جانبًا وأخذ يضحك. وفهمت زوجة "الشيخ علي" أنه قد عاد إلى الهذيان فضربت كفًا بكف وقالت:
- ما حدا بيعرف شو مخبّا له. من وقت ما شرب الدوا...
وصرخ الشيخ:
- اخرسي! مخبّا لك جهنم وبئس القرار.
وصمت قليلاً ثم عاد يقول:
- شو بدّو يتخبّا لكن انتن؟ ألله بعث اتناشر ألف نبي فيهمش نبيّة واحدة.
وقال "أبو مصطفى" متمسكنًا:
- روّق يا "شيخ علي" ألله يخليك!
ونظر "الشيخ علي" إليّ نظرة ذات معنى ثم قال:
- سامع؟؟ كأنه "الشيخ علي" قاعد يكفر. من وقت ما حكيتلهم وهمّي إشي يضحك وإشي يعيّط. صدق الله العظيم... إنك لا تهدي من أحببت.
وصمت قليلاً ثم بدا عليه بعض الهدوء والتفت إليّ مرّة أخرى وقال:
- اتركنا منهم. أنا بهمّني رايك. إنت يا أستاذ شو رايك بالصلاة "المحمديّة"؟
وقلت وقلبي يخفق بعنف:
- الصلاة "المحمّدية"!
وضحك بانبساط وتسامح:
- يعني اللّي بنسمّيها "الصلاة الإبراهيمية".
وقلت ببله:
- مالها؟ مليحة.
وقال بثورة:
- لا يا سيدي مش مليحة. فيها إشي مليح وإشي مش مليح. فيها إشي مدسوس ما أنزل الله به من سلطان.
وقلت بقلق شديد:
- مثل إيش؟
وصاح الشيخ:
- إنت بتسألني مثل إيش. فكّرتك مثلي عارفها. شو دخل ابراهيم في الواسطة. أللهمّ صلّ على سيّدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد. وابراهيم مالُه؟ ابراهيم انبعث إلنا؟ ابراهيم مسلم؟ عربي؟؟ فهّمني!
- ابراهيم نبي!
- وصالح نبي، وهود، وذو الكفل. ليش ما نقول عنهم!
- طيّب وليش ما نقول عن ابراهيم؟
- يعني اندشّر القريب ونتبع الغريب؟
وقلت كأنني أرجوه:
- لكن النبي هيك بدّو.
وصاح بصوت مرعب حقًا:
- هون الغلط! هون الدسّ! حاشا للنبي أن يخطئ. وقلب المؤمن دليله، وأنا عمر قلبي ما اطمأنّ منها. من خمس سنين وأنا بدّي أقولها ولكن إرادة الله فوق كلّ إرادة، واليوم أراد. وأنا اليوم بعلن: اللّي فات مات، وعفا الله عمّا مضى، وباب التوبة مفتوح. ابراهيم ما له دخل، وهاي الصلاة اسمها الصلاة "المحمّدية"، وأولى لك فأولى، وأنا من اليوم وطالع بدل ابراهيم بدّي أحطّ صالح واللّي مش معجبو ما يصلّيش وراي.
ويبدو أنني قد نسيت الموقف تمامًا، واستفزّتني طرافة جنون "الشيخ علي" فاسترسلت في مجادلته بلذّة أثيمة جعلتني أنسى مصيبته في عقله:
- لكن يا شيخ، ابراهيم خليل الله.
- خليل الله خليل الله! ما حدا منكر. لكن عيسى كلمة الله وروحه، ليش ما إلو صلاة "عيسويّة"؟
وقلت في محاولة أخيرة:
- طيّب ابراهيم أبونا وإلو حق علينا.
ثم استدركت قبل أن يشطّ الشيخ:
- القرآن الكريم بيقول.
ويبدو أن جنون "الشيخ علي" لم يصل إلى حد التشكك في القرآن، إلاّ أنه صرخ بحقد:
- أبونا أبونا. لكن هذا مش معناه إنه لازم يبقاله صلاة "ابراهيمية". بعدين، شو بدّك! أنا قلبي مش مطمئنّ، بدّي أحط صالح بداله ولو بدخل جهنم من تحت راسه.
وهنا فهمت أنه قد قضي الأمر، ولم يعد من أمل في إقناع الشيخ بالعدول عن هذيانه، فلزمت الصمت بينما استمرّ هو بعد لحظة تفكير:
- قال ابراهيم، قال!... ما حنا شايفين اللي اسمو ابراهيم عنّا اشّو بعمل. فاسق، زاني، شارب خمر، معتدٍ أثيم، خرّب البلد بفسقه، وطولوا ارواحكم! لازم الله يبعث صاعقة على هاي البلد تحرقها وتحرق اللي فيها بسببه.
ووضحت الحقيقة فجأة أمام عينيّ، وفهمت سرّ جنون الشيخ الإبراهيمي، وأردت أن أقول شيئًا ضدّ "إبراهيم" لعلّ ذلك يهدّئ من روع الشيخ ولكن زوجته سبقتني إلى الكلام وقالت وهي تضرب كفًا بكفّ كالعادة:
- من وقت ما شرب الدوا وهالحال حالُه. لو ضلّينا على وجع القلب أحسن.
وكان الجهد الذي بذله الشيخ قد استنفد الكثير من قواه ولذلك كان ردّه عليها فاترًا تنقصه الثورة:
- قلت إخرسي إنت! هذا دوا مسموم!
وأشرت إليها أن تهدأ وسبقت الشيخ إلى الكلام:
- منين جبت الدوا؟
وأجابت زوجة الشيخ:
- امبارح قبل صلاة الظهر أوجعه قلبه، أخذناه على العيادة، وصدفة لقينا الدكتور هناك، فحصه وأعطاه روشيتّه وقال بتجيبو الدوا من الفرمشية. اليوم، نزل أبو مصطفى. أعطيناه ايّاها جاب الدوا وقال: اسقوه على الوقعة فنجانين، وإن ما راقش ثلاثة. وهو شرب الدوا من هون ومثل ما انت شايف.
وشعرت بجسم أبي مصطفى يتصلّب إلى جانبي ثم يعود إلى الاسترخاء، والتفتّ إليه قائلاً:
- أنت متأكد إنهم قالوا لك خلّيه يشرب فنجانين!
وصمت الرجل برهة ثم انفجر وكأنه البركان:
- يا أخي أنا لا جبت دوا ولا غيره، ولا بعرف فنجان ولا فنجانين. مبيّن هاي شغلة موت وحياة، وأنا لا دخلت ولا عبرت. اللّي جاب الدوا الحقوه.
وظهر الذهول على وجه زوجة الشيخ وقالت:
- ولو!! من إيدَك لإيدي.
وأسبل أبو مصطفى جفنيه وقال بلهجة المذنب:
- من إيدي لإيدِك، صح! لاقاني العكروت في الباص، قلت له معكش خبر جارك! قال لي: لا. حكيت له، عمل حاله كلّه شفقة. قاللي روح شوف شغلك وأنا بحال الطبيعة رايح عالفرمشية بجيب الدوا معاي، وهيك صار. ولما التقينا أعطاني الدوا وقاللي اللي قلتلكم ايّاه.
وقلت باستغراب:
- أنو..؟
- ابراهيم الحسن.
وسقط علينا من السقف صمت ثقيل، وكانت زوجة الشيخ أول من استعاد وعيه فولولت وهي تلطم صدرها:
- خلص! سمّه ابن زينه!
وصرخ الشيخ:
- ابراهيم؟؟ ابراهيم يجيب لي الدوا؟؟
ووثب أبو مصطفى واقفًا وهو يرتجف وقال بصوت متهدّج وبلهجة خطابية:
- إشهدوا كلّكم، أنا ما دخلنيش. البلا بظهر صاحبه.
وبكثير من الجهد استطعت أن أهدّئهم قليلاً ثم قلت لزوجة الشيخ:
- هاتوا الدوا..
وقبل أن تناولني الزجاجة كنت قد عرفت. وشعرت بداخلي يمتدّ حتى كدت أختنق ولم أستطع المقاومة فوثبت وافقًا وألقيت زجاجة الـ "جوني ووكر" الصغير من يدي واندفعت خارج الغرفة وأنا أصرخ بالضحك كالمجانين.