المؤامرة
كان في وجه الملك من الغضب ما يكفي لحرق مدينة بكاملها. أمّا وجوه مَن حوله من حرس وحاشية فقد كانت أشبه بنوافذ زجاجية تطلّ على مساء خريفيّ عاصف. ولما كانت القاعة نفسها أقرب إلى المهابة منها إلى الجمال، وملابس الحاضرين كذلك، فقط اكتمل الجوّ وامتزج الحداد بالغضب والخوف بالكآبة وأصبح الحال أشبه بمنظر جماعة من السحرة يعقدون اجتماعًا في إحدى المقابر وينتظرون في صمت حضور روح شرّيرة.
رمى الملك بنظرة متوهّجة عن يمينه وأخرى عن شماله، ثم قال بصوت كالطعنة:
- اللعنة!
وأجال بصره ببطء فيمّن حوله وكأنه يبصق عليهم:
- لم يبق شيء يرفّ بجناحين في مملكتي. أمس فقط حرق الجنود قرية كاملة لأنهم وجدوا فيها ثلاث دجاجات. الأوز والبط وكل ما يطلق عليه اسم الطير لم يعد له وجود في بيوت الفلاحين..
حتى المعابد فتشها الجند. ومع ذلك، فما عليكم إلاّ أن تكنوا مستيقظين لتسمعوا آخر كل ليلة صياح ذلك الدين اللعين.
صمت الملك قليلاً وكأنه يريد أن يسمع تعليقًا على ما قال ولكنه عاود الكلام:
- قولوا شيئًا... أعطوني تفسيرًا أستريح له! أثبتوا لي أنكم لستم مجرّد متطفلين على قصري وخزائني! إن حياتي لم تعد تهمّني بقدر ما يهمّني أن أفهم. استطيع أن أعيش مع نبوءة الكاهنة وأن أنسى مصرع والدي، هل تريدون أكثر من ذلك؟ ولكني أريد جوابًا. أريد تفسيرًا. كهنة.. علماء... سحرة.. جند! ألا يفهم أحد منكم معنى أن ينتصر ديك على مملكة؟!
وتنحنح الرجل الجالس إلى يمين الملك وعبث بلحيته الرمادية بعصبية، وقال بصوت متحشرج أول الأمر:
- مولاي. إن جميع ما نحمله من علم ومعرفة لا يمكن إلاّ أن يكون ضئيلاً أمام ما يحمله من ذلك ملك من سلالة الآلهة... ولكني أريد أن أقول إن تلك الكاهنة – إن كانت كذلك حقًا – ليست أكثر من مشعوذة كاذبة خالية من السحر ومن الكهانة، وإذا كانت نبوءتها قد صدقت بالنسبة لوالدكم العظيم فذلك على سبيل الذكاء والفطنة، فمع قليل من الانتباه ندرك أن أكثر الأوقات ملاءمة لارتكاب الجرائم والتمرّد هو عند صياح الديك، وأن معظم الحوادث الصغيرة والجليلة إنما يختار لها منفذوها هذا الوقت بالذات حيث يكون النوم في عنفوانه من الشمول والسيطرة. وحينما تحققت نبوءة تلك الكاهنة بالصدفة عادت وألقت بالنبوءة نفسها إليك وغابت عن الأنظار كما فعلت أول مرّة.
ونظر الملك إلى وزيره باستياء ممزوج بسخرية جارحة وقال:
- وكيف عرفت الكاهنة أن والدي سيقتل حقًا!!
وتلعثم الوزير لحظة ثم قال:
- لم تكن الأمور مستقرّة كما هي عليه الآن يا مولاي!
وأجاب الملك بغلظة:
- لم يمض على مصرع والدي سنة بعد، والأمور مستقرّة الآن كما كانت مستقرّة زمن والدنا العظيم.
وقال الوزير بسرعة متلهّفة:
- لذلك فشل التمرّد على والدكم العظيم وسلمت المملكة من غدر المتآمرين.
وتنحنح الوزير الذي على يسار الملك وكأنه قصد أن يلخص زميله من براثن سيّده وقال:
- إنني أقول يا مولاي إن تلك الكاهنة اللعينة كانت شريكة مع المتمرّدين. لقد جعلت نبوءتها المفتعلة والدكم العظيم يشدد الحراسة على مداخل القصر الخارجية والداخلية وفي قاعة العرش، واستقدم لذلك حرسًا جددًا إلى القصر. وكان الذي طعنه كما يعرف مولاي واحد منهم، كما ثبت اشتراك واحد آخر منهم في المؤامرة.
وسقط على القاعة صمت متوتر استمرّ زمنًا قال بعده الملك:
- ربّما كان في ما تقوله بعض ما يدلّ على الذكاء وحسن التفكير، وربّما كان فيه شيء من الصدق أيضًا، ولكنني أعود لأقول لكم مرّة أخرى إن الذي يثيرني ليس القلق من نبوءة الكاهنة، وإنما الحيرة وعدم الفهم. كيف يُسمع صياح الدين في مكان حُرّم فيه حتى اقتناء الطيور جميعًا؟! من أين يأتي ذلك الصوت اللعين ليطرق مسامعي كلّ ليلة؟! إنه يأتي من الشرق ومن الغرب وأحيانًا يأتي من الشمال أو الجنوب وكأنه يتنقل حول قصري بصورة خفية. هذا ما أريد تفسيرًا له، وعليكم أن تجدوا ذلك التفسير قبل أن أستبدلكم بغيركم.
وكان انفعال الملك يزداد بالتدريج مع كل كلمة جديدة.
- لا يمكن أن أقبل هذا العجز المهين من جانب من يشاركونني إدارة المملكة.. يجب أن أعرف من أين يأتي الـ... هل تفهمون.. يجب أن أعرف.
وصل انفعال الملك درجة الهياج:
- أنتم أيّها الكهنة! لن أقبل أن أنظر كل يوم إلى أعجازكم السمينة ووجوهكم المنفرة مقابل لا شيء! وأنتم أيها العلماء والمنجمون والسحرة! سأرسلكم لتسلية أطفال القرى وكتابة التعاويذ للبهائم، بدل رصد النجوم ومعاشرة الأرواح الملكية داخل جدران قصري. أفهمتم؟!
تصبّب عرق الملك بينما بردت أجساد سامعيه، واسند رأسه إلى الخلف على كرسيّه الفخم وأغمض عينيه وقال بهدوء متعب:
- أمّا أنت يا قائد حرسنا المبجّل، فسوف تعمل مع الخادمات في تنظيف أواني الطعام. أقسم على ذلك!
تضاءل الحضور في مجالسهم وعاد الصمت المتوتر إلى القاعة، وانتظر الجميع ما سيأتي.
- هل أصابك الصمم أم الخرس يا رئيس كهنة الشمس؟
وأجفل الرجل المهيب الضخم في مكانه، وظهرت عليه علامات اليقظة المفاجئة وحاول الكلام أكثر من مرّة قبل أن ينطلق صوته:
- مولاي! نحن لم نقل إننا لا نملك تفسيرًا لكل ما تريد، ولكن الآلهة المبجلة وحدها هي التي تعرف الحقيقة بكاملها.
- تكلم!
- إنها ديوك الشمس يا مولاي! مكتوب على جدران المعبد القديم: "وحينما تطلّ الآلهة المبجّلة من نافذتها في السماء يصيح ديكان عظيمان على شرفة قصرها المرصّع بالنجوم، عينهما من الياقوت ومنقاراهما من الذهب، وريشهما من الفضة المجوهرة، فيلمّ إله الشرّ عباءته السوداء ويهرب نحو البحر".
سرت ريح خفيّة من الاطمئنان لمست الوجوه فعاودها بعض الراحة. ولكن الملك قال ساخرًا:
- أكمل أيّها المقدّس.. "ولو سمع البشر صوت الديكين لماتوا جميعًا".. أليس لديك تفسير آخر؟
وانكفأ الرجل كما تنكفئ السلة على جانبها حينما تفرغ. وظهرت عليه علامات اليأس. وكأنّ الملك أشفق عليه فالتفت إلى رجل غريب الهيئة، في رقبته قلادة من النجوم الذهبية، وقال:
- ماذا يقول عالم النجوم والزمن؟!
لمس الرجل قلادته وشدّ ملامحه المسترخية وقال مفتعلاً الجرأة:
- إن صياح الديك يا مولاي ظاهرة كونية مثل شروق الشمس المبجّلة وغروبها، ومثل هبوب الرياح، وحفيف أوراق الشجر، وتعاقب الليل والنهار، ومثل الميلاد والموت و...
- كفى! كفى! ومثل كلّ شيء.
ومرّة أخرى أسند الملك جذعه إلى ظهر كرسيّه الملكيّ وأغمض عينيه.
- هل يسمح مولاي بالكلام؟
فتح الملك عينيه ونظر إلى الرجل القليل الفخامة عند طرف المجلس. كان رجلاً حادّ المظهر بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى؛ طويل، نحيل، مشدود كالوتر، وفي وجهه عينان لا يمكن أن ترى غيرهما إذا نظرت فيهما.. بحيرتان من الهدوء والعمق والسيطرة.
أزاح الملك وجهه جانبًا وقال باستياء:
- ما الذي يمنعك من ذلك؟! لقد أبحت الحديث لكل من يريد. ولم أجمعكم إلاّ لأسمع ما تقولون.
وقال الرجل بتواضع ورصانة:
- لست يا مولاي من سحرة القصر. وقد قدمت من خارج المدينة..
وقال الملك بنفاذ صبر:
- أعرف؛ أنت عنكبوت من خارج القصر. تكلم!
- لم أسمع يا مولاي صياح ذلك الديك الذي تتحدثون عنه بعد، وإذا سمعته مرّة واحدة استطعت أن أعرف إذا كان ديكًا حقيقيًا أو روحًا شرّيرة.
وقال الملك بسخط:
- ليكن ذلك الملعون ما يكون، إن أحدًا منكم لن يعرف ذلك، ولكنني لا أريد سماع ذلك الصوت.. أريد أن أنام في الليل دون أن يوقظني صوته البشع.
كانت عصاب الملك على وشك الانهيار. وشعر الحاضرون بالخطر المحتمل وتمنوا لو يسكت ذلك الساحر الغريب، ولكن الرجل عاد يقول بأناة وهدوء:
- فإذا كان روحًا شرّيرة يا مولاي، خلصتك منها للتوّ، وضمنت لك ألاّ تسمعها ثانية.
واستند الملك على كرسيّه براحتيه وقرّب جذعه من الحافة وقال:
- إنك تتكلم بثقة، ولكن ماذا إذا لم يكن روحًا شرّيرة؟!
- عندها عليك يا مولاي أن تنفّذ تهديدك لقائد الحرس.
وكاد الملك يبتسم، ولكنه عدل عن ذلك وقال:
- حسنًا، سنرى ما تفعله عندما تسمع صوت ذلك اللعين، ولن يطول بك الأمر.
وعاد الرجل يقول:
- أريد يا مولاي كمية من المسك ودم خنزير ذكر وسفّودًا.
- أحضروا له ما يريد، وأسرعوا. لم يبق كثير على موعد ذلك الشيء.
ثم التفت إلى الساحر وقال:
- إذا استطعت أن تفعل ما تدّعيه أصبحت من سحرة القصير... بل كبيرهم.
وأجاب الرجل:
- لا أضمن شيئًا يا مولاي قبل أن أسمع صياح ذلك الديك، ولكنني أضمن أن أعرف ما هو، روح شرّيرة أم ديك حقيقي.
وقال الملك بقلق:
- وإذا لم يكن هذا ولا ذاك؟!
وقال الساحر بثقة تامّة:
- إنه أحدهما يا مولاي! لا يمكن أن يكون شيئًا آخر. فإذا كان روحًا شرّيرة خلصتك من سماع صوتها الكريه، وإذا كان ديكًا حقيقيًا فما على قائد حرسك سوى أن يكون جاهزًا هو ورجاله لتحديد مصدر الصوت، ومعرفة مكانه.
وقال الملك:
- افتحوا نوافذ القصر جميعًا وليقف عند كل نافذة جنديّ ويرهف سمعه جيدًا! إن هذا الساحر يبدو على علم بما يفعل، ويجب أن ننتهي الليلة من هذا الأمر.
وبعد قليل كانت يدا الساحر النحيلتان تعملان بطريقة عجيبة حقًا، وكانت أصابعه تلتوي وتتشكل وتنتقل من مكان إلى آخر بطريقة لا يمكن تتبّعها أو حتى تصديقها. وكانت أعين الجميع وعقولهم تدور وتلتف وتتلوّى مع حركات تلك الأصابع العجيبة حتى شعر البعض بالدوار. اكمل عجينته الغريبة من المسك ودم الخنزير وهو يتمتم بكلام غير مسموع ثم بدأ الآن يشكل العجينة بحركات لا تُرى ولا تُدرَك. كل ما كان يحدث بوضوح هو أن العجينة كانت تتشكل بالتدريج دون أن يظهر لها بعد شكل معروف.
ولكن الأكثر إثارة من ذلك كان وجه الساحر وهو يعمل. كانت عضلاته تتحرك مع حركات الأصابع بنفس السرعة والتشنج وكأنه كان يعاني عذابًا داخليًا رهيبًا. وكان العرق يسيل من وجهه بغزارة غير مألوفة... والصورة تتشكل وتتشكل... ولكنها لم تكتمل بعد ولم تظهر لها دلالات واضحة رغم أنها كانت على وشك الانتهاء. غزال.. قرد.. كلب... بقرة.. لا أحد يعرف بعد...
- ديك!!
هتف الملك، بينما كان الساحر يضع لمساته الأخيرة على الذيل والمنقار ثم يلقي بنفسه على الأرض وسط المجلس وجسده يختلج بحركات عنيفة مصحوبة بشهقات عجيبة، ثم ما لبث أن هدأ وظلّ ملقىً في مكانه كرداء قديم.
نظر الملك إلى الديك المتقن الصنع نظرة امتزجت فيها الكراهية بالخوف. لم يعد يستطيع حتى التفكير في الديكة دون أن يرهقه التوتر والرعب. لقد أصبح الخوف منها والتشاؤم بكل ما يتعلق بها جزءًا من نفسه لا يستطيع السيطرة عليه. تلك الكاهنة اللعينة أفسدت عليه حياته ومستقبله. لم يجرؤ أحد من الكهنة قبلها أن يتنبّأ أمام ملك بغير ما يَسرّ، فجاءت هذه لتفسد كل شيء وتملأ حياته بهذا الهلع الدائم الذي يكاد يطيح بهيبته وعقله.
إنه ليس جبانًا ليخاف الموت كيفما كان، ولكنه لا يريد فقط أن يُقتل عند صياح الديك كما تنبّأت تلك الكاهنة، فالموت ذاته شيء ومواجهته أو انتظاره شيء آخر. أن يُقتل شيء وأن يعرف اللحظة التي سيُقتل فيها شيء آخر. كل ليلة... يفتح عينيه في فراشه وكأن يدًا قد أيقظته، وما يكاد يفعل حتى يرتفع ذلك الصوت الواثق الحادّ يطعنه بكل أسلحة الخوف ثم يمتلئ بتلك الصورة العنيفة للكاهنة وهي تصرخ عند باب القصر:
- أيها الملك العظيم! عند صياح الديك!
ولم تظهر الكاهنة بعدها أبدًا. ولكن... في إحدى ليالي الصيف المقمرة، ارتفع صوتها مرّة أخرى من مكان مجهول قرب القصر:
- أيها الملك العظيم! اسمع نبوءتي واحترس! سوف تُذبح كالماعز عند صياح الديك.. عند صياح الديك.
وتحسّس الملك رقبته دون أن يشعر، لقد مضى على نبوءة الكاهنة شهور ولم يحدث شيء بعد، ولكنه مع ذلك سيحدث.. إنه يعرف ذلك بإحساسه، ولكنه لا يريد أن يعرف متى.. لا يريد أن يسمع صياح ديك بعد، لا يريد.. لا يريد.
ونظر بقلق إلى الجسد الملقى في وسط المجلس قريبًا من قدميه وأحسّ بالقلق. ماذا لو صاح الديك قبل أن يستيقظ ذلك الساحر؟! ولكن قلقه لم يطل. بدأت الحياة تعود إلى الجسد النائم، على شكل حركات صغيرة بدأت تكبر وتتخذ معنىً وغاية إلى أن جلس الساحر على ركبتيه وتناول السفود ثم قال بصوت متعب:
- مولاي! أرجو ألاّ أكون قد تأخرت!
وقال الملك بقلق:
- ليس بعد، ولكن أسرع!
وقف الرجل على قدميه ثم تناول هيئة الديك التي صنعها ووضعها عند قدمي الملك، ثم قال:
- أرجو أن يتخذ مولاي الحيطة كي لا تتلوّث ملابسه. إن دمًا حقيقيًا سوف ينفجر من الديك عندما أغرس هذه السفود في صدره.
وقال الملك:
- إفعل ما تشاء، ولا تفكر فيما لا يهمّك.
- أرجو الصمت من الجميع يا مولاي، حتى أستطيع التدقيق في الصوت حينما يجيء.
حتى الأنفاس اختفت، لم يعد يُسمع في المجلس سوى رنين الصمت ذاته. ولذلك بدا الصوت الخفيض الذي بدا عند دخول ذلك الجنديّ إلى القاعة وكأنه ضجّة موكب حافل. وحينما بدأ يتحدث بصوت يليق بمهابة الموقف بدا وكأنه يصرخ بأعلى صوته:
- مولاي! لقد قبضنا على تلك الكاهنة وهي تحوم حول القصر ومعها ديك في قفص.
هبّ الملك على قدميه فهبّ جميع من في المجلس.
- إليّ بها! أسرع!
وظلّ الملك واقفًا وقد غلب عليه الانفعال الشديد إلى أن دخلت الكاهنة وقد ضمّت إلى صدرها ذلك القفص. وقال الملك بصوت يلتهب بمشاعره العنيفة:
- أخيرًا أيتها اللعينة!
وتقدّمت الكاهنة حتى توسّطت المجلس حيث وضعت القفص وأزاحت شعرها الشرس عن وجهها وقالت بهدوء:
- المجد لمولاي!
وقال الملك من بين أسنانه:
- والموت لكِ! سأفقأ عينيكِ أيتها اللعينة!
وعادت الكاهنة تقول بهدوء:
- ماذا يفعل هذا المشعوذ يا مولاي؟
ونظرت إلى الساحر نظرة مزدرية أتبعتها بضحكة من ضحكات الكهّان الغريبة. وقال الساحر وهو يغرس فيها نظراته العميقة الهادئة:
- إنها روح شرّيرة يا مولاي! وهذا الديك هو مسكنها.
وصرخ الملك:
- فليُحرقا كلاهما!
ولكن الساحر رفع يده معترضًا وقال بنفس الصوت الهادئ:
- كلا يا مولاي! إن الروح الشرّيرة لا تموت بالحرق. دعني أكمل ما بدأت وسوف أقتل سلطانها عليك ثم اصنع بها ما تشاء.
وقال الملك بعنف:
- ماذا تنتظر؟
- صياح الديك يا مولاي!
وهدأ الملك قليلاً وجلس في مكانه، بينما ضحكت الكاهنة ضحكتها تلك وقالت:
- إنه يجيد الشعوذة حقًا! ولكن ما الذي يغضب الملك منّي! لقد أتيت إليه بنفسي.
وقال الملك بلهجة متشفية:
- ليست هذه هي المرّة الأولى. إنك تأتين كل ليلة. وسوف أجعلك تأكلين قدميك أمامي.... الآن!
وقالت الكاهنة بدون خوف:
- إذا سمع الملك قصّتي إلى النهاية فلن يصيبني منه سوء.
ولم يجب الملك بشيء فتابعت كلامها:
- إن هذا الديك يا مولاي هو الذي صاح في حديقة القصر ليلة مقتل والدك. لقد وضعه المتآمرون هناك ليكون صوته علامة لهم على البدء بتنفيذ مؤامرتهم. وعندما أخبرت والدك بنبوءتي أدخل إلى القصر حرّاسًا من خارجه زيادة في الحذر، ولكنه أدخل بذلك القتلة أنفسهم. وعندما صاح الديك هجموا عليه فقتلوه، ولكن المؤامرة على مُلكه لم تنجح، فقد كانت المدينة مليئة بالديَكة، فصاحت في أوقات مختلفة فتبلبلت خطة المتآمرين المنبثين في أنحاء المدينة ولم يتحركوا جميعًا في نفس الوقت، ممّا سهّل القضاء عليهم.
وسكتت الكاهنة قليلاً، ثم ركعت إلى جانب القفص ونظرت بإمعان في عيني الديك الذي فيه، ثم تابعت الكلام دون أن تحوّل بصرها:
- وقد أسمعتك يا مولاي نبوءتي، فوقعت في نفس الخطأ الذي وقع فيه والدك.
وصمتت وهي ما تزال تحدّق في عيني الديك ثم عادت إلى الكلام ببطء شديد:
- لقد أمرتَ... بقتل جميع الديَكة في المدينة... فلم يبق الآن.. سوى هذا الديك.
ونفش الديك ريشه وحوّل رأسه عن الكاهنة وبدأ يدور في القفص بحركات قلقة.
- ... وعندما يصبح الآن هذا الديك... يا مولاي... لن يسمع المتآمرون سوى صوته فقط.. وسوف تُقتل أنت ويضيع مُلكك.
وقبل أن تنهي كلماتها الأخيرة رفع الديك عنقه داخل القفص وانطلق يصيح بصوت صافٍ وحادَ كرنين المعدن، وفي نفس اللحظة رفع الساحر سفوده وأغمده في صدر الملك وهو يصيح:
- خذ أيّها الطاغية!
وقبل أن يستطيع أحد من الحاضرين فهم ما جرى، كان الضجيج يملأ المدينة بكاملها ويندفع كالطوفان إلى داخل القصر. ونظرت الكاهنة إلى الساحر نظرة تتألق بالظفر وصرخت:
- لقد نجحنا ...