امرأتان في قصيدة واحدة
1. امرأة من حيفا
صَنعَتْ لَها سَفرًا لِتُبْعِدَني
وَأوْطانًا لِتَنْسى،
كُلُّ الَّذينَ عَشِقْتُهُمْ
كانوا قَراصِنةً عَلَيَّ
وَكُنْتُ حَيْفا.
أتَعودُ سَيِّدَتي إلى فَرَحي وَتمْنَحُني يَدَيْها
لأُقَبِّلَ الأَرْضَ التي رَبَّيْتُ أَحْلامي عَليْها
سَقَطَتْ بِلادٌ فَوْقَ مَخْدَعِنا
وَجاءَتْنا مَهاجِرُنا وَلمْ نَرْحَلْ إلَيْها
كُلُّ البِلادِ لَنا سِوى بَلدٍ
كَأَنَّ الجِنَّ تَحْبِسُهُ لَدَيْها.
أتَعودُ سيِّدَتي؟
لَدَيَّ حَديقَةٌ في الظَّنِّ أَجْمَلُ مِن حَدائِقِهمْ وَأَحْلى،
وَمَخابِئُ الفَرَحِ الحَزينِ، وَلَهْفَةُ الخَمْسينَ لامْرأةٍ بِطَعْمِ الخُبْزِ أَجْلِسُ تَحْتَ طيبَتِها وَأَنْسى.
وَلدَيَّ يَأسي مِنْ زَمانِ الضِّفَّةِ الأُخْرى، وَأنَّكِ ما تَبقَّى
مِنّي، وَأنّيَ ما تَبقّى،
وَلَديَّ وَجْهُ مُسافِرٍ، طَبَعَ الحَنينُ عَلَيْهِ كُلَّ مَلامِحِ العُشّاقِ
ضُمّيهِمْ لِصَدْرِكِ، أَنْتِ حَيْفا،
وَأَنا جَميعُ العائِدينَ إلَيْكِ مِن أَسْفارِهِمْ قَتْلى وَجَرْحى،
وَأَنا انْتِظارُهُمُ الطَّويلُ عَلى تَواريخِ التَّشَرُّدِ، وَانْتِظاري
في السّاحَةِ البَيْضاءِ، مِثْلُ الصّيْفِ مَطْروحًا عَلى تَعَبِ البَراري.
ماذا يُريدُ غِيابُها مِنّي!
وَكُلُّ سَفينَةٍ في البَحْرِ حينَ تَتوهُ تَسْتَهْدي بِناري؟
ماذا يُريدُ غِيابُها مِنّي!
أُريدُ عِناقَها لِأَموتَ فيهِ، وَساعِدَيْها لِاحْتِِضاري،
وَهُنَيْهَةً في حَجْمِ راحَتِها تُناوِلُني انْحِداري
عِنْدَ النُّزولِ،
وَوَجْهَها أَتْلو مُفَكِّرَةَ الحُقولِ بِهِ وَأَبْكي.
لا لَوْنَ لِلرُّمّانِ إلّا في حَديقَتِها،
وَلا يَدْنو صَهيلُ الزَّعْتَرِ البَرِّيِّ إلّا حِينَ تَحْكي،
وَأَجْمَلُ وَقْفَةٍ في العَيْنِ قامَتُها،
كَأَنَّ النَّخْلَ يَنْهَضُ في سَريري
إذا نَهَضَتْ،
وَأَنَّ الأَرْضَ مُلْكي.
لَنا بَحْرانِ، عَيْناها، وَوَجْدي
وَميناءانِ، بَسْمَتُها وَزَنْدي
وَتحْتَ قَميصِها ضَحِكُ الصَّبايا
عَلى زَمَنِ الغَديرِ، إذا تَثَنَّتْ
تَساقَطَتِ النُّجومُ عَلى المَرايا
وَطارَتْ نَحْلَةٌ عَنْ كُلِّ نَهْدِ.
وَكُنْتُ سَريرَها لَمّا الْتَقَيْنا
عَلى شَفَتَيَّ، وَالباقي لَدَيْنا
خَرائِطُ أَدْمَنَتْ شَرْحَ المَنافي
لِمَنْ لَمْ يَدْخُلوا مُدُنًا تَدَلَّتْ
عَلى صَدْرِ الحَبيبَةِ كَالقَوافي
وَكُلُّ قَصائِدِ العُشّاقِ عِنْدي.
وَلَوْ كانَتْ بِلادًا كُنتُ أَمْشي
عَلى لَوْنِ النّبيذِ، وَكانَ عَرْشي
تَألُّقَ نَجْمَةٍ وَعَلى يَميني
مَدينَةُ نَرْجِسٍ، وَعَلى شِمالي
بَساتينٌ بِها لَيْمونُ يافا
قَناديلٌ مُعَلَّقَةٌ بِبالي،
وَكُلُّ سَفينَةٍ في البَحْرِ عِنْدي.
وَإنْ رَجَعَتْ بَنَيْتُ عَلى سَريري غُرْفَةً
وَجَعَلْتُ وَجْهيَ بابَها،
وَنَسيتُ في طولِ انْشِغالي بِالعِناقِ غِيابَها،
وَمَزَجْتُ مُرَّ مَذاقِ أَيّامي بِحُلْوِ مَذاقِها.
لِلأَرْضِ ظِلٌّ في النِّساءِ
وَكُلُّ سَيِّدَةٍ بِحَجْمِ ثِيابِها امْرَأةٌ
وَأَوْطانٌ بِحَجْمِ عِناقِها.
أَتَعودُ سَيِّدَتي وَيَعْدو المَوْجُ فَوْقَ سَريرِنا وَنَقولُ: حَيْفا
لا أَرْضَ تَحْمِلُ اسْمَنا
رَحَلَ الرَّحيلُ، كَأنَّنا لمْ نَزْرَعِ الزَّيْتونَ في سَفْحٍ
وَلَمْ نَحْضُنْ صَبايا القَمْحِ صَيْفا!
ماذا يُريدُ غِيابُها مِنّي!
وَقَدْ صارَ الخُروجُ مِنَ السَّريرِ لِضَرْفَةِ الشُّبّاكِ مَنْفى
وَالخُروجُ مِنَ القَصيدَةِ صارَ مَنْفى
ماذا يُريدُ غِيابُها مِنّي!
لَقَدْ صَنَعَتْ لَها سَفَرًا لِتُبْعِدَني
وَأَوْطانًا لِتَنْسى.
كُلُّ الَّذينَ عَشِقْتُهُمْ
كانوا قَراصِنَةً عَلَيَّ
وَكُنْتُ حَيْفا.
2. امرأة في حيفا
خَرَجَتْ مِنَ المَلْهى إلى قَلْبي
هيَ امْرَأةٌ مِنَ الضّوءِ الّذي تُلْقي بِهِ الحاناتُ مَلْفوفًا بِرائِحَةِ الجِماعْ.
ألْقَتْ عَليَّ سَماؤُها ظِلاًّ مِنَ النِّعْناعِ
وَارْتَجَلَتْ لَها وَجْهًا وكُنْتُ عَلى ذِراعْ
مِنْ دِفْئِها المَفْتوحِ
- لا تَدْخُلْ!
- بَلِ ادْخُلْ!
إنَّها وَطَنٌ لِساعَة.
شَيْءٌ تُحِسُّ بِهِ ضُلوعَكَ أَوْ يَدَيْكَ، فَلا تُكابِرْ.
يَكْفي بِأَنَّ لَها بِلادًا كَيْ تُسافِرْ
وَلَها مَلامِحُها وَأَعْيادًا وَمَدْرَسةً وَقُنْبُلَةً وَمُسْتشْفى وَبوليسًا وَشاعِرْ.
وَلها سَواحِلُها، وَأَرْضُ أبيكَ، وَالزَّمَنُ الذي أَعْياكَ عَنْ حَيْفا، وعَنْ سِنِّ الرُّجولَة،
وَعَنِ انْتِظارِ صَبِيَّةِ القَمْحِ التي رَجَعَتْ فَلَمْ تَعْثُرْ عَلى أَحَدٍ، وَعادَتْ لِلطُّفولَة.
وَلَها خُيولُ الغَزْوِ تَصْهَلُ في رَحيلِكَ بَيْنَ ساقَيْها وَأَبْعَدِ بَصْقَةٍ سَقَطَتْ عَلى شَرَفِ القَبيلَة.
وَلَها انْتِهاكُكْ
وَعَويلُ أُمِّكَ في دِمَشْقْ.
وَلَها بُكاؤُكْ
وَنُواحُ أُخْتِكَ في الرِّباطْ،
وَضَياعُ إبْلِكَ في الطَّفيلَة.
وَلَها القَبيلَة.
مَنْ أَنْتَ يا ابْنَ الماعِزِ الجَبَلِيِّ وَالشَّعْبِ الَّذي الْتَهَمَ الجِماعْ
نَزَواتِهِ الكُبْرى،
فَمَدَّ قَناتَهُ فِتْرًا وَلَهْفَتَهُ ذِراعْ.
يا ابْنَ الخَطيئَةِ بينَ راعِيَةٍ وَحاخامِ الجَزيرَة
خُذْها إلَيْكْ
بَلَدًا مِنَ الأَعْداءِ أَسْقَطَها سُقوطُكَ في يَدَيْكْ
خُذْها إلَيْكْ
سَبَبًا لِوَجْهِكَ أَوْ تَرَدّي الطِّينِ فيكََ،
لأُنْثَيَيْكْ،
وَطَنًا لِنِصْفِ دَقيقَةٍ
أَو خَيْمَةً لِظَهيرَةٍ عَبَرَتْ إلَيْكْ
مِنْ صَحْوَةِ الصَّحْراءِ
حَيْثُ البَدْوُ يَنْتَظِرونَ في الكُثْبانِ عَوْدَتَكَ الأَخيرَة.
خُذْها إلَيْكْ!
(نُشرت في صحيفة "نداء الأسوار"، 13/7/1990)