بَدْءُ الرِّحْلَةِ وَمَرْثِيَّةُ القُرونِ الأولى
غادَرْتُ حَيْفا، وَرائي السَّبْتُ مُحْتَجَزُ
وَالأرْضُ تَعْبُرُ مِنْ بَوّابَةِ الأحَدِ
وَمُنْذُ، وَالنّاسُ عَنْ جَنْبَيَّ سابِلَةٌ
لا يَنْقُلونَ الخُطَى إلاّ عَلى جَسَدي
آتٍ مِنْ أرْضٍ غَرُبَتْ كَالشَّمْسِ، إلى بَلَدٍ عَثُرَ القُرْصانُ عَلَيْهِ بِمَحْضَ الصُّدْفَةِ، يُشْبِهُ أُنْثى الشَّيْطانِ، وَلا يَنْبُتُ فيهِ سِوَى الوَرَقِ الفاسِدِ، وَالبُزّاقِ النَّهِمِ، عَلى جُدْرانٍ تَتَكَلَّمْ.
هُنا، يَلْتَبِسُ الإنْسانُ عَلى الإنْسانِ، وَتَقْتَتِلُ الأشْياءُ كَما القِطَطُ، هُنا يَفْقِدُ سِرُّ الكَوْنِ كَرامَتَهُ.
وَهُنا اغْتَسَلَ الأوروبِّيُّ مِنَ الطّاعونِ، هُنا ألْقى كُلَّ قِمامَتِهِ، فَاحْتَضَنَ الصَّيْفُ البِكْرُ عِظامَ الصَّرّافِ الأزَلِيِّ وَأوْراقَ الصُّحُفِ الأولى، فَاهْتَزَّتْ في عَرَقِ الصّاغَةِ وَرَبَتْ.
قامَ اللّاهوتُ الرّابِعُ، سَقَطَتْ روما وَالفَلسَفَةُ، وَعَضَّتْ أوروبّا إصْبَعَها فَافْتَقَدَتْ نابَيْها.
جَلَسَتْ تَبْكي وَالرِّيحُ الشَّرْقِيَّةُ في الطُّرُقاتِ تَلُمُّ شَبابيكَ الدُّورِ الوَثَنِيَّةِ كَغَسيلِ الأمْسْ.
لا تَبْكي!
هذا نَدَمٌ لا يَغْسِلُهُ إلاّ نَدَمٌ آخَرْ!
ماذا يُجْدي أنْ نَجْلِسَ عِنْدَ النّافِذَةِ، نُقَصِّفُ أغْصانَ الشَّمْسِ بِأجْفانٍ مُنْهَكَةٍ، وَذُبابُ الذّاكِرَةِ يَطِنُّ عَلى زَمَنٍ أمْلَسَ كَرُخامِ المَعْبَدِ، لا تَتَكامَلُ فيهِ النَّظَراتُ عَلى شَيْءْ؟!
قَدْ تَرْجِعُ بَعْضُ القَطَراتِ إلى النَّهْرِ وَلكِنْ لَنْ تَجْلِسَ روما في السّاعاتِ اللّاميلادِيَّةِ بَعْدُ، وَلَنْ يُجْديَ باريسَ وَأثينا الحُلُمُ، فَما أجْدى عَكّا وَدِمَشْقَ سِوى التَّسْليمْ.
هذا نَدَمٌ لا يَغْسِلُهُ إلاّ نَدَمٌ آخَرْ!
إنَّ الرِّيحَ الشَّرْقِيَّةَ تَأتي مِنْ كُلِّ جِهاتِ الأرْضِ مُحَمَّلَةً بِالطَّلْعِ الرَّبّانِيِّ، تَحُطُّ عَلىقِمَمِ الأشْجارِ السَّوْداءِ تُلَقِّحُ وَتُلَقِّحُ فَيَشيعُ الثَّمَرُ الفاسِدُ في كُلِّ حَدائِقِ هذا العالَمْ.
هذا نَدَمٌ لا يَغْسِلُهُ إلاّ نَدَمٌ آخرْ!
ها أنْتِ! وُجوهُ السّاعاتِ إلى الخَلْفِ، يَكادُ النّاقوسُ يُرَدِّدُ إسْمَكِ، عَيْناكِ تَفِرّانِ مِنَ الخَوْفِ إلى الخَوْفِ، عُيونُ الصَّرّافِ الأزَلِيِّ عَلى السّاعَةِ، وَالنّاقوسُ يُحَدِّقُ في الصَّمْتْ.
ها أنَذا - أُقَدِّمُ أوْراقَ البَرْدِيِّ - أجيءُ إلى آخِرِ بَلَدٍ في التّاريخِ بِرَسْمِ التَّشْريدْ.
خَمْسَةَ عَشَرَ زَمانًا أحْمِلُ رَجُلاً آخَرَ، ألِدُ الغُرَباءَ عَلى أرْضٍ تَنْتَظِرُ الغَزْوَ عَلى النّافِذَةِ، أرَدِّدُ حُكْمَ الرَّبِّ عَلَيَّ بِأَنْ يَحْمِلَ جَسَدي زَمَنَ عَدُوِّي...
أنْ أتْعَبَ لِأَموتَ، وَأنْ أحْفِرَ قَبْري بِيَدَيّ!
هذا نَدَمٌ لا يَغْسِلُهُ إلاّ نَدَمٌ آخَرْ!
شُـــروح
(١) أُنْثى الشَّيْطان:
أمْريكا أحْدَثُ فاجِعَةٍ بَعْدَ الطُّوفانِ، تَمُدُّ العالَمَ بِالقَمْحِ، وَتَأخُذُ مِنْهُ الخُبْزْ.
تَأخُذُ مِنْهُ الخَمْرَ وَتَسْقيهِ النِّسْيانْ.
تُفْرِغُ أجْفانَ الأطْفالِ مِنَ النَّوْمِ، تَزورُ مَخادِعَهُمْ بِالدَّبّاباتِ، دَفاتِرَهُمْ بِالدَّمِ وَأعْيُنَهُمْ بِالخَوْفْ.
تَلْدَغُ جَسَدَ العالَمِ كَالعَقْرَبْ!
أمْريكا مِسْـخٌ أوروبِّـيٌّ يَكْـتُبُ بِالنّـارِ عَلى جَسَـدِ العالَمِ أَبْـذَأَ ما فـي اللاّهوتِ وَأَبْـذَأَ ما في الفَـلْسَـفَةِ، وَتَـصْنَعُ جَسَـدًا لِلْفَـقْرِ وَقَـمَـرًا لِلْمَـوْتْ.
(٢) ألـنَّــدَم:
جَلَسْـتُ عَلى شَـفَةِ الصَّحْراءِ، ألَقِّـنُها أُغْـنِيَةَ الخِـصْبِ، أُبادِلُ آشـورَ الحُلُمَ، وَسَـيْفي يَخْـتَلِسُ النَّـظَراتِ إلى الـرُّومِ، فَـهاجَمَني بَدَوِيُّ الرَّبِّ مِنَ الخَلْفِ بِإسْـماعيلَ، صَـرَخْتُ: انْــظُرْ ماذا تَحْمِلْ!
قالَ: أتَيْتُكَ بِعَباءَةِ ريحٍ تَلْبَسُها، وَجَوادٍ تَغْسِلُ حَذْوَتَهُ في ماءِ الأُرْدُنِّ فَتَنْفَتِحُ لَكَ الأرْضْ!
تَعالَ أُسَمِّيكَ فَتَدْخُلُ في عَهْدِ الرَّبّ!
أعْطاني حَفْنَةَ أسْماءٍ مِنْ وَرَقِ الشَّجْوِ، وَأَمَةً سَمْراءَ عَلَيْها
أثَرُ المَنْيِ فَقُلْتُ قَبِلْتْ!
تَجَلَّلَني الزَّمَنُ الدّاكِنُ بِالنَّشْوَةِ، وَاسْتَرْجَعَني رَحِمُ الأمَةِ السَّمْراءِ مِنَ المَشْيِ: وُلِدْتُ كَأنِّي لَمْ أولَدْ مِنْ قَبْلُ، وَكانَ غَريبٌ في البابِ يَسُنُّ حَديدَتَهُ لِلذَّبْحِ، وَلَمْ أعْرِفْ أنِّي أُخْتَنُ قَبْلَ غُروبِ الشَّمْسْ.
ذلِكَ نَدَمٌ لا يَغْسِلُهُ إلاّ نَدَمٌ آخَرْ!
وَالأرْضُ تَعْبُرُ مِنْ بَوّابَةِ الأحَدِ
وَمُنْذُ، وَالنّاسُ عَنْ جَنْبَيَّ سابِلَةٌ
لا يَنْقُلونَ الخُطَى إلاّ عَلى جَسَدي
آتٍ مِنْ أرْضٍ غَرُبَتْ كَالشَّمْسِ، إلى بَلَدٍ عَثُرَ القُرْصانُ عَلَيْهِ بِمَحْضَ الصُّدْفَةِ، يُشْبِهُ أُنْثى الشَّيْطانِ، وَلا يَنْبُتُ فيهِ سِوَى الوَرَقِ الفاسِدِ، وَالبُزّاقِ النَّهِمِ، عَلى جُدْرانٍ تَتَكَلَّمْ.
هُنا، يَلْتَبِسُ الإنْسانُ عَلى الإنْسانِ، وَتَقْتَتِلُ الأشْياءُ كَما القِطَطُ، هُنا يَفْقِدُ سِرُّ الكَوْنِ كَرامَتَهُ.
وَهُنا اغْتَسَلَ الأوروبِّيُّ مِنَ الطّاعونِ، هُنا ألْقى كُلَّ قِمامَتِهِ، فَاحْتَضَنَ الصَّيْفُ البِكْرُ عِظامَ الصَّرّافِ الأزَلِيِّ وَأوْراقَ الصُّحُفِ الأولى، فَاهْتَزَّتْ في عَرَقِ الصّاغَةِ وَرَبَتْ.
قامَ اللّاهوتُ الرّابِعُ، سَقَطَتْ روما وَالفَلسَفَةُ، وَعَضَّتْ أوروبّا إصْبَعَها فَافْتَقَدَتْ نابَيْها.
جَلَسَتْ تَبْكي وَالرِّيحُ الشَّرْقِيَّةُ في الطُّرُقاتِ تَلُمُّ شَبابيكَ الدُّورِ الوَثَنِيَّةِ كَغَسيلِ الأمْسْ.
لا تَبْكي!
هذا نَدَمٌ لا يَغْسِلُهُ إلاّ نَدَمٌ آخَرْ!
ماذا يُجْدي أنْ نَجْلِسَ عِنْدَ النّافِذَةِ، نُقَصِّفُ أغْصانَ الشَّمْسِ بِأجْفانٍ مُنْهَكَةٍ، وَذُبابُ الذّاكِرَةِ يَطِنُّ عَلى زَمَنٍ أمْلَسَ كَرُخامِ المَعْبَدِ، لا تَتَكامَلُ فيهِ النَّظَراتُ عَلى شَيْءْ؟!
قَدْ تَرْجِعُ بَعْضُ القَطَراتِ إلى النَّهْرِ وَلكِنْ لَنْ تَجْلِسَ روما في السّاعاتِ اللّاميلادِيَّةِ بَعْدُ، وَلَنْ يُجْديَ باريسَ وَأثينا الحُلُمُ، فَما أجْدى عَكّا وَدِمَشْقَ سِوى التَّسْليمْ.
هذا نَدَمٌ لا يَغْسِلُهُ إلاّ نَدَمٌ آخَرْ!
إنَّ الرِّيحَ الشَّرْقِيَّةَ تَأتي مِنْ كُلِّ جِهاتِ الأرْضِ مُحَمَّلَةً بِالطَّلْعِ الرَّبّانِيِّ، تَحُطُّ عَلىقِمَمِ الأشْجارِ السَّوْداءِ تُلَقِّحُ وَتُلَقِّحُ فَيَشيعُ الثَّمَرُ الفاسِدُ في كُلِّ حَدائِقِ هذا العالَمْ.
هذا نَدَمٌ لا يَغْسِلُهُ إلاّ نَدَمٌ آخرْ!
ها أنْتِ! وُجوهُ السّاعاتِ إلى الخَلْفِ، يَكادُ النّاقوسُ يُرَدِّدُ إسْمَكِ، عَيْناكِ تَفِرّانِ مِنَ الخَوْفِ إلى الخَوْفِ، عُيونُ الصَّرّافِ الأزَلِيِّ عَلى السّاعَةِ، وَالنّاقوسُ يُحَدِّقُ في الصَّمْتْ.
ها أنَذا - أُقَدِّمُ أوْراقَ البَرْدِيِّ - أجيءُ إلى آخِرِ بَلَدٍ في التّاريخِ بِرَسْمِ التَّشْريدْ.
خَمْسَةَ عَشَرَ زَمانًا أحْمِلُ رَجُلاً آخَرَ، ألِدُ الغُرَباءَ عَلى أرْضٍ تَنْتَظِرُ الغَزْوَ عَلى النّافِذَةِ، أرَدِّدُ حُكْمَ الرَّبِّ عَلَيَّ بِأَنْ يَحْمِلَ جَسَدي زَمَنَ عَدُوِّي...
أنْ أتْعَبَ لِأَموتَ، وَأنْ أحْفِرَ قَبْري بِيَدَيّ!
هذا نَدَمٌ لا يَغْسِلُهُ إلاّ نَدَمٌ آخَرْ!
شُـــروح
(١) أُنْثى الشَّيْطان:
أمْريكا أحْدَثُ فاجِعَةٍ بَعْدَ الطُّوفانِ، تَمُدُّ العالَمَ بِالقَمْحِ، وَتَأخُذُ مِنْهُ الخُبْزْ.
تَأخُذُ مِنْهُ الخَمْرَ وَتَسْقيهِ النِّسْيانْ.
تُفْرِغُ أجْفانَ الأطْفالِ مِنَ النَّوْمِ، تَزورُ مَخادِعَهُمْ بِالدَّبّاباتِ، دَفاتِرَهُمْ بِالدَّمِ وَأعْيُنَهُمْ بِالخَوْفْ.
تَلْدَغُ جَسَدَ العالَمِ كَالعَقْرَبْ!
أمْريكا مِسْـخٌ أوروبِّـيٌّ يَكْـتُبُ بِالنّـارِ عَلى جَسَـدِ العالَمِ أَبْـذَأَ ما فـي اللاّهوتِ وَأَبْـذَأَ ما في الفَـلْسَـفَةِ، وَتَـصْنَعُ جَسَـدًا لِلْفَـقْرِ وَقَـمَـرًا لِلْمَـوْتْ.
(٢) ألـنَّــدَم:
جَلَسْـتُ عَلى شَـفَةِ الصَّحْراءِ، ألَقِّـنُها أُغْـنِيَةَ الخِـصْبِ، أُبادِلُ آشـورَ الحُلُمَ، وَسَـيْفي يَخْـتَلِسُ النَّـظَراتِ إلى الـرُّومِ، فَـهاجَمَني بَدَوِيُّ الرَّبِّ مِنَ الخَلْفِ بِإسْـماعيلَ، صَـرَخْتُ: انْــظُرْ ماذا تَحْمِلْ!
قالَ: أتَيْتُكَ بِعَباءَةِ ريحٍ تَلْبَسُها، وَجَوادٍ تَغْسِلُ حَذْوَتَهُ في ماءِ الأُرْدُنِّ فَتَنْفَتِحُ لَكَ الأرْضْ!
تَعالَ أُسَمِّيكَ فَتَدْخُلُ في عَهْدِ الرَّبّ!
أعْطاني حَفْنَةَ أسْماءٍ مِنْ وَرَقِ الشَّجْوِ، وَأَمَةً سَمْراءَ عَلَيْها
أثَرُ المَنْيِ فَقُلْتُ قَبِلْتْ!
تَجَلَّلَني الزَّمَنُ الدّاكِنُ بِالنَّشْوَةِ، وَاسْتَرْجَعَني رَحِمُ الأمَةِ السَّمْراءِ مِنَ المَشْيِ: وُلِدْتُ كَأنِّي لَمْ أولَدْ مِنْ قَبْلُ، وَكانَ غَريبٌ في البابِ يَسُنُّ حَديدَتَهُ لِلذَّبْحِ، وَلَمْ أعْرِفْ أنِّي أُخْتَنُ قَبْلَ غُروبِ الشَّمْسْ.
ذلِكَ نَدَمٌ لا يَغْسِلُهُ إلاّ نَدَمٌ آخَرْ!