مقاطع من قصيدة "جفر الشاعر"
هذا زَمانُ الوَحْشَةِ الكُبْرى
نَعودُ إلى خَزائِنِنا فُرادى
عِنْدَ المَساءِ
وَنلْتَقي في صَيْحَةِ البُومِ
الّتي مَلأَتْ دُروبَ الأَرْضِ
خَوْفًا وَابْتِعادا.
هذا زَمانُ الوَحْشِ!
أَمْريكا جَميعُ شُرورِنا،
وَخَطيئَةُ الزَّمَنِ الّذي أَوْصى بِهِ الكُهّانُ
كَيْ يَجِدوا لَهُمْ خَيْلاً وَزادا.
وَصَلَتْ مَراكِبُهُمْ إلى غَدِنا
وَنَمْضي في مَشيئَتِهِمْ إلى غَدِهِمْ
عَبيدًا أَوْ عِبادا.
هذا زَمانُ البُوقِ
فَانْحَدِروا إلى الوِدْيانِ
وَاعْتَصِموا بِحَبْلِ الماءِ،
كَمْ سِرْتُمْ عَلى رَمْلِ الكَلامِ
إلى نَخيلِ اللّهِ لَمْ تَجِدوهُ
وَامْتَلأَتْ خَرائِطُهُمْ بِلادا.
هذا زَمانُ البوقِ
تَرْتَطِمُ الوُعولُ بِخَوْفِها
وَالخَيْلُ تَخْرُجُ مِنْ أَعِنَّتِها اصْطِيادا.
لَمْ يَبْقَ إلاّ وَجْهُ يوشَعَ
وَالحِصارُ
وَساعَةُ المَوْتِ الأَكيدِ
تَفِحُّ كَالأَفْعى
وَتُمْطِرُ في جَوانِحِكُمْ رَمادا.
يا أَيُّها السَّبْيُ
اعْبُروا بابَ الخَليلِ كَما عَبَرْنا
وَاسْتَريحوا!
مَشَتِ القُرونُ عَلى كَواهِلِنا
قَوافِلَ لِلنِّساءِ وَلِلطُّيوبِ
فَكُلُّ عاهِرَةٍ بِهذا الكَوْنِ
حينَ تَفوحُ
مِنْ عِطْرٍ حَمَلْناهُ تَفوحُ.
مَشَتِ القُرونُ عَلى كَواهِلِنا
قَوافِلَ لِلسُّيوفِ وَلِلْغُزاةِ
فَكُلُّ مَقْتولٍ قَتَلناهُ
وَنائِحَةٍ جَعَلْناها تَنوحُ.
لَمْ نَدْرِ أنَّ النّاسَ أَشْجارٌ
لَها ثَمَرٌ
وَزُرّاعٌ سَيَجْنونَ الثِّمارَ،
وَأَنَّما التّاريخُ روحُ.
لَمْ نَدْرِ أنَّ الوَحْشَ
حَتْمٌ في الحِكايَةِ،
سَوْفَ تَصْنَعُهُ لِتَقْتُلَهُ
وَيَخْتِمَها بِجَنَّتِهِ المَسيحُ.
سَيَكونُ طوفانٌ
وَلكنْ لَنْ تَكونَ سَفينَةٌ
وَيكونَ نوحُ.
يا أَيُّها الأَسْرى اعبُروا بابَ الخَليلِ
كَما عَبَرْناهُ وَنوحوا،
ما بَيْنَ جَنَّتِهِمْ وَمَصْرَعِنا
سِوى أَنتُمْ وَمَصْرَعِكُمْ فَنوحوا!
سَيَكونُ لِلْهِنْدوسِ ياقوتٌ
عَلى دَرَجِ المَعابِدِ
بَعْدَ أَنْ نَمْضي،
وَللأَتْراكِ مَرْجانٌ سَتُنْبِتُهُ السُّفوحُ.
وَالصِّينُ حَقْلٌ مِنْ حُقولِ الأَرْزِ
في اليابانِ،
لُؤلُؤَةٌ سَتثقبُها المَجاعَةُ
مِنْ جَوانِبِها،
وَيَثقبُها الغُزاةُ.
سَتَكونُ حادِثَةٌ كَعَيْنِ النَّسْرِ
تَهْرُبُ عَن جَوانِبِها الجِهاتُ.
ماتوا ليَحْيا غَيْرُهُمْ
وَالخُبْزُ أَكْثَرُ مِن جِياعِ الأَرْضِ
لكِنَّ الحَياةَ هِيَ الحَياةُ.
وَالعَيْشُ مِثْلُ المَوْتِ
حادِثَةٌ لَها سَبَبٌ تُلَوِّثِهُ الدِّماءُ
كَذا تَقولُ النّائِحاتُ.
ماتوا لِيَحْيا غَيْرُهُمْ
وَتَكونَ أَعْيادٌ وَمائِدَةٌ لِمَنْ ظَلّوا،
وَماتوا...
لِيَكونَ وَفْرٌ في الحَليبِ
وَفي عَصيرِ البُرْتُقالِ
لِطِفْلَةٍ تَحْمي البَوارِجُ نَوْمَها
وَتَذودُ عَنْها الطّائِراتُ...
شَبَحَ الجِياعِ المُنْحَنينَ عَلى غَرائِزهِمْ،
وَماتوا...
كَيْ لا يَموتوا بَعْدَ مَوْعِدِهِمْ،
وَماتوا...
كَالعُشْبِ حَتّى تُفْصِحَ الأَزْهارُ
عَنْ أَلْوانِها الأُخْرى،
وَتَسْطَعَ فَوْقَ وَجْنَتِها الصِّفاتُ.
لَمْ يولَدوا عَبَثًا
فَقَدْ كانَتْ لَهُمْ مُدُنٌ وَأَنْهارٌ
وَكانَ لَهُمْ غُزاةُ...
وَصَلوا سِياجَ الأَرْضِ،
كانَ لَهُمْ صَباحُ اللَّيْلَةِ الأولى
وَأَبْوابُ المَواسِمِ
وَالإلهُ البِكْرُ
وَالدُّنْيا الفَتاةُ.
وَكَذا تَقولُ النائِحاتُ،
تَعْدو الشِّياهُ عَلى مَصارِعِها
وَيَنبُتُ تَحْتَ أَرْجُلِها الفِراقُ.
وَصَلوا زَمانَ الماءِ فَوْقَ خُيولِهِمْ
لَمْ يَصْنَعوا سُفُنًا،
فَناموا عِنْدَ حَدِّ المَوْجِ
وَانْقَطَعَ السِّياقُ.
لَمْ يَصْنَعوا سُفُنًا
لأَنَّ بِحارَهُمْ رَمْلُ الهُيامِ
عَلى بَوادي اللَّوْنِ
تَقْطَعُها بِعَيْنَيْها النِّياقُ.
لَمْ يَصْنَعوا سُفُنًا
لأَنَّ نَخيلَهُمْ حَجَرٌ
أَقامُوا فَوْقَهُ قَمَرًا وَأُغْنِيَةً وَساقوا
إِبِلاً إلى حَرْبِ النُّجومِ
عَلى مَشافِرِها البُصاقُ.
صاحَتْ وَراءَ غِيابِها الكُلِّيِّ:
- قَدْ واعَدْتَني خَبَرًا
فَما فَعَلَ العِراقُ؟
- مِنّي السَّلامُ عَلَيْكِ
كَمْ يَجْلو مَلامِحَكِ الغِيابُ
وَكَمْ يُقَرِّبُكِ الفِراقُ!
مِنّي السَّلامُ عَلَيْهِ
نَخْلَةُ حُزْنِهِ أَعْلى مِنَ الشُّعَراءِ
لَيْسَ يَطالُها أَلَمٌ
وَلا يَسْمو لِقامَتِها عِناقُ.
(نُشرت في "المواكب"، عدد 1-2، شباط 1992)