المجازر
1- نواح في عنق الزجاجة
أَلسَّبْتُ عيدٌ: وَالأَحَدْ
بابٌ على القُدّاسِ
وَالإثْنَيْنُ مَجْزَرَةٌ عَلى شَرَفِ المَدينَة.
سَقطَتْ عَلَيْهِمْ ساحَةُ الأَقْصى
وَكَمْ حَذَّرْتُهُمْ أَلاّ يُصَلّوا تَحْتَها،
عَبَثًا!
سَتَبْلُغُ رُقْيَةُ الحاخامِ غايَتَها
وَنَخْرُجُ مِنْ مَواعيدِ الصَّلاةِ
إلى مَواعيدِ المَسافاتِ الحَزينَة.
خَرَجوا عَلَيْنا مِنْ تَعاريجِ الحُروفِ
كَأنَّنا كُنّا مُفَكِّرَةً لَهُمْ،
لَمْ يَعْرِفوا لُغَةَ التُّرابِ، وَلَمْ يَكُنْ شَجَرٌ لَهُمْ
فَتعَلَّموا لُغَةَ الغُبارِ لِيَزْرَعوا خَشَبَ السَّفينَة.
مَلِكُ المُلوكِ يَلُمُّ جُثَّتَهُ وَيَخْرُجُ مِنْ شُقوقِ الوَقْتِ
مُتَّجِهًا إلى المِحْرابِ يَبْحَثُ في زَخارِفِهِ الثَّمينَة،
عَمّا تَبَقّى مِنْ وَدائِعِهِ
وَيَسْتَجْلي عَلى أَجْسادِ أَسْراهُ العَلامَة.
سَحَبَ المَدينَةَ كَالرِّداءِ
رَمى بِها في ساحَةِ المَبْكى وَقالَ لَها: ارْجِعي حَجَرًا
سَنَبْدَأُ مِن صَباحِ الأَمْسِ مَمْلكةً إلى يَوْمِ القِيامَة.
يا أيُّها المَوْتُ المُدَجَّجُ بِالوُضوحِ كَأنَّكَ البُشْرى
لِماذا يُغْلِقونَ عَلى دَمِ القَتْلى دَفاتِرَهُمْ
وَيَمْحونَ الوَسامَة
عَنْ وَجْهِكَ النَّبَوِيّ؟
إنَّ الرَّبَّ يَعْلَمُ كَمْ مِنَ القَتْلى يُريدُ لِيَحْفَظَ الأقْصى
وَيَقتُلَ مَنْ أَقامَهْ.
«هذي بِضاعَتُنا فَرُدّوها إلَيْنا!
إنّا خَلَقْناكُمْ وَلكِنْ ليسَ مِنْ طينٍ
فَلا أَنتُمْ مِنَ القَتْلى وَلا دَمُكُمْ عَلَيْنا.
أَجْسادُكمْ أَجْسادُكمْ،
فَلْتَعْبَثوا فيها كَما شِئتُمْ، فَنحْنُ قَدِ انْتَهَيْنا.»
يا أَيُّها المَوْتُ الصَّباحيُّ الرَّشيقُ كَرَقْصَةِ الأَفْعى
انْتَشِرْ حَتّى حُدودِ اللّهِ
وَافْتَتِحِ الفُصولَ الأَرْبَعَة
بِدِمائِنا،
لَمْ يَبْقَ ما نُعْطي لأَبْراهامَ إلاّ ما حَوى الزَّيْتونُ مِنْ زَيْتٍ
وَما نَفَضَتْ مَواعيدُ اللِّقاحِ عَلى ثِيابِ الزَّوْبَعَة.
كَمْ ماتَ هذا النَّحْلُ كَيْ يَحيا
وَكَمْ أَخَذَ الرَّحيقَ مِنَ الزُّهورِ وَأَرْجَعَهْ
عَسَلاً لِمائِدَةِ النَّبِيِّ
وَشَمْعَةً لِقِراءَةِ التَّوْراةِ في القُرْآنِ
وَالسَّفَرِ الشَّهِيِّ إلى حَليبِ الـمُرْضِعَة.
كَمْ ضاعَ مِنْ وَجَعٍ عَلى التَّرْتيلِ
وَانْكَسَرَتْ عُيونٌ كَالزُّجاجِ عَلى جِدارِ الصَّوْمَعَة!
يا أيُّها النَّوْمُ الخُرافِيُّ العَتيقُ هَلِ اسْتَفَقْنا كَيْ نُهاجِرْ،
وَهَلِ اكْتَشَفْنا حُزْنَنا عَبَثًا،
وَضَيَّعْنا إلى الأَبَدِ الرُّجوعَ مِنَ النِّساءِ إلى البَيادِرْ؟
ما أَجْمَلَ الوَطَنَ الّذي صَنَعَتْهُ أَيْدينا وَلا نَدْري،
وَما أَقْسى الحَنينَ إلى بِلادٍ لَمْ تُغادِرْ
إِلاّ أُمومَتَها التي نَشَزَتْ عَلى الصَّلَواتِ تومِئُ لِلْمَهاجِرْ!
أَعْطَوْا لَنا رَبّاً لِنَعْبُدَهُ لَهُمْ
وَحِجارَةً صارَتْ مِنَ التَّقْديسِ دُفْلى،
أَلمَوْتُ أَحْلى أَمْ دُخولي القُدْسَ
مِنْ بَوّابَةِ الأَسْباطِ أَحْلى؟
يا صاحِبي البَكْرِيَّ كَمْ قَتَلوكَ بَيْنَ الدّارِ وَالمَقْهى
فَهَلْ أَدْعوكَ في التَّأبينِ قَتْلى؟
كَيْفَ انْتَظَرْنا كُلَّ هذا الوَقْتِ كَيْ نَبْكي،
هَلِ الْتَقَتِ الوُعودُ أَوِ الشُّعوبُ أَوِ الخَناجِرْ
يَوْمًا عَلى جُرْحٍ كَهذا
أَوْ تَعاقَبَتِ الدُّروبُ عَلى مُسافِرْ؟
يا صاحِبي البَكْرِيَّ، إتْبَعْني إلى بَوّابَةِ الأَسْباطِ
نَخْرُجُ وَحْدَنا،
شَتّانَ بَيْنَ دَمٍ عَلى حَجَرٍ
وَآخَرَ في أَراجيحِ الصَّلاةِ يَمُرُّ في قَوْسِ الظَّلامِ إلى أَراجيحِ السَّرائِرْ
لا أَرْضَ خَلْفَ السّورِ،
لكِنّا سَنَخْرُجُ مِنْ حُدودِ الوَقْتِ
حَيْثُ اللّهُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيابَ الجُنْدِ بَعْدُ
وَلَمْ يُقَرِّرْ زِيَّهُ الوَطَنيّ،
تَعْدو في مَشِيئَتِهِ شُهورُ القَمْحِ مِنْ بَلَدٍ إلى بَلَدٍ،
وَصَوْتُ الطَّيْرِ يُمْطِرُ في حَدائِقِهِ قَصيدَتَهُ التي لا تَنْتَهي أَبَدًا،
وَتَمْتَلئُ الدَّفاتِرْ.
كَنْعانُ يَنْسِجُ حُلَّةً لِلصَّيْفِ مِنْ مِحْراثِهِ،
غَيْرَ الّتي اهْتَرَأَتْ،
وَيَشْتاقُ الضُّيوفَ بِبابِ حُجْرَتِهِ
إذا انْسَحَبَتْ ثِيابُ الشَّمْسِ عَنْ قَدَمِ المُسافِرْ.
نُلْقي بِرحْلَتِنا عَلى قَدَمَيْهِ،
ثُمَّ نَعيشُ قَبْلَ مَجيئِهِمْ وَنَموتُ قَبْلَ مَجيئِهِمْ،
لا نَكْتُبُ الأَشْعارَ
إلاّ ما تَخُطُّ زَوارِقُ النَّزَواتِ في دَمِنا،
إذا التَمَعَتْ عُيونُ الأُقْحُوانِ مِنَ النَّوافِذِ
لَمْ نَخَفْ أحَدًا،
وَلَمْ نُسْدِلْ عَلى الفَرَحِ السَّتائِرْ.
لا القُدْسُ أَرْمَلَةُ النَّبِيِّ،
وَلا دِمَشْقُ رَهينَةٌ لِغَدٍ
سَنَحْمِلُهُ عَلى أَقْدامِنا سَفَرًا إلى غَدِهِمْ
وَلكِنْ لا نُسافِرْ!
يا صاحِبي البَكْريَّ، هذي الخَمْرُ لا تُجْدي
فَلا صَحْوٌ يُساعِدُنا وَلا سُكْرٌ،
وَأَضْيَقُ مِنْ مَواعيدِ الصَّلاةِ لِوَقْتِها عُنُقُ الزُّجاجَةِ
فَاعْتَصِمْ بِنَشيدِكَ القَوْمِيِّ مَرْثِيَةً لهذا المَوْتِ
لكِنْ لا تُهاجِرْ.
لا شَمْسَ فَوْقَ العالَمِ العَرَبِيِّ
إلاّ ما تُعَلّقُهُ الدِّماءُ عَلى امْتِدادِ الأُفْقِ مِنْ شَفَقٍ
وَما تُلْقي المَجازِرْ...
مِنْ نارِها، وَالزِّنْدُ حينَ تَمُدُّ فاطِمَةٌ فَجيعَتَها
إلى أَعْلى وَتَلْتَمِعُ الأَساوِرْ.
هَلْ يَأْكُلُ الشُّعَراءُ خُبْزَكِ،
يَكْبُرونَ على ضِفافِ يَديْكِ عُشّاقًا،
وَيولَدُ مِنْكِ أَطْفالُ الحِجارَةِ مَرَّتَيْنِ وأَنْتِ عاقِرْ؟
لا. ليْسَ عَدْلاً!
أُكتُبُوا عَهْدًا لِفاطِمَ،
إنْ تَحَرَّرَتِ البِلادُ عَلى فَتًى مِنْ كَفْرِ قاسِمْ
وَصَبِيَّةٍ مِنْ دَيْرِ ياسينٍ عَشِيَّةَ عُرْسِِها
تَمْضي إلى الحِنّاءِ باكِيَةً
وَتَلْبَسُ حُزْنَ فاطِمَةٍ خَواتِمْ:
لَمّا انْتَهى الغُرَباءُ مِنْ تَجْوالِهِمْ
أَلقَوْا عَلَيْكِ رَحيلَهُمْ وَأَقاموا
وَقَفَ العَويلُ عَلى فِنائِكِ وَقْفَةً
لَمْ تَنْصَرِفْ عَنْ بابِها الأَيّامُ
وادي الفَجيعَةِ لا تُفارِقُ صُبْحَهُ
شَمْسٌ وَلا يَدْنو إلَيْهِ غَمامُ
يا لَيْتَ إذْ عَبَروا إلَيْكِ تَفَرَّقَتْ
عَنْكِ الدُّروبُ وَماتَتِ الأَقْدامُ
يا أَيُّها الغُرَباءُ هذا بابُها
سَقَطَ الرِّتاجُ وَفُضَّتِ الأَخْتامُ
يا أَيُّها الغُرَباءُ كَيْفَ وِصالُها
فَالْعِشْقُ عِشْقٌ وَالكَلامُ كَلامُ
الآنَ تَدْري كُلُّ فاطِمَةٍ
لِماذا أَغْرَقَتْ بِالدَّمْعِ مِنْديلَ العَروسِ
وَأَطْفَأَتْ بِالخَوْفِ فَرْحَتَها لِتَنْسى.
أَلْقَتْ أَغانيَِها طُيورُ القَلْبِ
وَاضْطَجَعَتْ نَوافِذُهُ عَلى الفَلَواتِ
وَالأَزْهارُ تَضْحَكُ عِنْدَ نافِذَةِ الحَبيبِ سُدَىً،
وَأَغْلى
ما في الفُؤادِ نُواحُهُ العَفْوِيُّ:
واأسَفاهُ
واأسَفاهُ
واأسَفاهْ....
2. الموت الآخر
أَيُّها الأَسْوَدُ المُشِعُّ بِكُلِّ أَلْوانِ الفَرَحْ
كَزِنْجِيٍّ مَدْهونٍ بِزَيْتِ الأَفْعى
أَنْتَ وَحْدَكَ الجَديرُ بِالعِبادَة،
أَعْطِنا القُدْرَةَ عَلى أَنْ نُحِبَّكَ أَكْثَرَ مِنَ السَّعادَةِ
وَأَكْثَرَ مِنَ الحُبِّ
وَأَنْ نَكونَ جَديرينَ بِحَمْلِ أَلْوانِكَ المُقَدَّسَةِ
إلى كُلِّ مَواقِعِ النِّساءِ على هذهِ الأَرْضْ!
أَعْطِ أَعْداءَنا الزُّجاجَ
وَأَعْطِنا الحِجارَة،
أَعْطِهِمِ الأَلْوانَ الجَميلَةَ
وَأَعْطِنا الرَّمادْ،
وَلْيَكُنْ لَكَ أَنْبِياءُ بِعَدَدِ المُدُنْ
وَمَلائِكَةٌ بِعَدَدِ الطّائِراتْ
وَأَسْماءٌ بِعَدَدِ الحَوادِثِ المُؤْسِفَة!
العِراقُ العِراقُ العِراقْ!
رَمى مَوْتَهُ المُسْتَبِدَّ كَتُفّاحَةٍ في الهَواءِ
تَلَقَّفَها، ثُمَّ أَوْمَأَ لي ضاحِكًا بِالعِناقْ:
- إذا شاءَتِ الحَرْبُ عُدْتُ
وَإنْ لَمْ تَشَأْ فَاحْتَسُوا الخَمْرَ عَنّي
خُذوني إلى الشِّعْرِ حينًا وَلا تُمْعِنوا في السِّياقْ،
فَبي رِقَّةٌ تَعْتَريني كَما تَعْلَمونَ
إذا غَرَّدَ الشِّعْرُ
أَوْ دارَتِ الكَأسُ بَيْنَ الرِّفاقْ.
- تَوَقَّفْ!
فَما نَعْرِفُ العَرَبِيَّ إلاّ قَتيلاً
فَإنْ أَشْعَلَ الحَرْبَ ماتَ
وَإنْ داهَمَتْ بابَهُ الحَرْبُ ماتْ.
تَعالَ إلى الزَّمَنِ المُسْتَعارِ
سَتَسْتَبْدِلُ الحانُ كَالحَرْبِ رُوّادَها
بَعْدَ حينٍ، وَيَقْسِمُ فينا الشَّتاتْ
مَواعيدَه،
فَانْتَظِرْ زَمَنًا لا يَطولُ
سَيَقْتُلكَ الصَّيْفُ يَوْمًا
عَلى شاطِئِ النَّهْرِ
وَالصَّيْفُ يَقْتُلُ كَالسَّيْفِ، دِجْلَةُ مِثْلُ الفُراتْ.
- أَموتُ قَتيلاً
وَلا تَبْرُدُ الروحُ فِيَّ رُوَيْدًا
كَما يَبْرُدُ الدَّمْعُ في الوَجْنتِيْنِ
وَتَخْبو عَلى رِسْلِها الشّائِعاتْ.
العِراقُ العِراقُ العِراقْ!
تُرى تَعِبَ النَّهْرُ مِمّا أَقامَ
بِبَغْدادَ
وَاشتاقَ دِجْلَةٌ طَعْمَ الفِراقْ؟!
تَعالَ إلى ساحَةِ القَلْبِ أَنْتَ المُخَيَّمُ
هذا احتِراقٌ وَهذا احْتِراقْ!
أيُّهاالرُّوحُ الصَّلْدَةُ كَمَعْدِنٍ خُرافِيّ
لا يَعْرِفُ سِرَّهُ سِوى المَنْكوبينَ وَالضُّعَفاءْ
أَعْطِنا كَفافَ دِمائِنا!
كُلُّهُمْ كانوا في الطّائِرَة
وَمَعَهُمُ اللّهُ
بارَكَ القُنْبُلَةَ وَبَصَقَ عَلى أَطْفالِ العَرَبِ،
وَقالَ الجَميعُ آمينْ.
العِراقُ العِراقُ العِراقُ العِراقْ!
مَتى أَغْلقَ اللّهُ بابًا عَليَّ
مِنَ الرّيحِ
أَوْ كانَ بيْني وَبَيْنَ الخَرابْ،
سِوى ساعَةٍ لِلنُّزوحِ
أَوِ الدَّفْنِ
أَوْ صَفْحةٍ مِنْ كِتابْ،
هُوَ اللّهُ نورُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ
يَكْرَهُني وَيُحِبُّ الكِلابْ،
هُوَ اللّهُ نورُ السَّمواتِ
في الهِنْدِ فيلٌ
وَفي الصِّينِ أَرْزٌ
وَساقٍ بِباريسَ يَسْكُبُ غِبْطَتَهُ في الشَّرابْ.
هُوَ اللّهُ نَوْمٌ على ساحِلِ العاجِ
نَهْرٌ بِكَرْمانَ
نافورَةٌ في جِنيڤَ
وَمِدْخَنَةٌ في بِلادِ الضَّبابْ.
هُوَ اللّهُ نورٌ على بَسْمَةِ الطِّفْلِ في پورتوريكو
وَمَدْرَسةٌ في البَهاما
وَفي البُنْدُقِيَّةِ مَطْبَعةٌ أَوْ كِتابْ.
هُوَ اللّهُ نورُ السّمواتِ
لَمْ يَرْتَدِ النّارَ إلا بِبَغْدادَ،
وَالجوعَ إلا بِغَزَّةَ،
يَكْرَهُني وَيُحِبُّ الكِلابْ.
لَوَ انّي أَنا الصَّيْفُ أَغْزو مَوائِدَهُ بِالذُّبابْ.
لوَ انّي أَنا الرّيحُ أَدْخُلُ ساحاتِهِ بِالتُّرابْ.
لوَ انّي غُرابْ
أُلَوِّثُ أَلْحانَهُ بِالنَّعيبِ
وَأَدْعو عَلى عَرْشِهِ بِالخَرابْ.
أيَّتُها الزِّنْجِيَّةُ الشَّقْراءُ كَلَيْلةِ العامِرِيَّةْ
يَأْتي الصَّيْفُ وَتَسْتَعيدينَ لَوْنَكِ الحَقيقِيّ
لَمْ يبْقَ الكَثيرُ مِنَ الوَقْتْ
بَقيَ الكَثيرُ مِنْ وَجَباتِ الطَّعامِ المُغَلَّفَة
اعْقِدي أَصابِعَكِ عَشْرَةً عَشْرَةً
ثُمَّ اعْقِديها مِئَةً مِئَةً
وَأَلْفًا أَلْفًا،
أَلْوَقْتُ في مَلْجَأِ العامِريَّةِ قَتَلَتْهُ القُنْبُلَة.
عَبَروا كَماءِ النَّهْرِ كَيْفَ أَرُدُّهُمْ
مَنْ عادَ مِنْ سَفَرِ القَتيلِ إلى الرّدَى
أَطْفالُنا مَرّوا عَلى أَسْمائِهِمْ
عَبثًا، وَأَنْشَأْنا مَدارِسَهُمْ سُدَى
مَلأوا الزَّمانَ طُفولَةً مَقْتولَةً
وَدُمًى مُبَعْثرَةً، وَنَوْمًا أَسْوَدا
وَصَلوا لِحَرْفِ الدّالِ ثُمَّ تَفَرَّقوا
لا يَعْرِفونَ العَدَّ إلاّ مُنْشَدا
قالوا اكْتُبوا أَسْماءَهُمْ بِدِمائِهمْ
قالَ الخَرابُ ابْنوا عَلَيْهِمْ مَسْجِدا
لا تَكْتُبوا شَيْئًا فَإنَّ المُنْتَهى
سَبَبٌ لِمَوْلِدِهِمْ وَلَيْسَ المُبْتَدا
وَدِماؤُهُمْ حَتْمٌ عَلى أَسْمائِهِمْ
أَليَوْمَ نَخْلِقُهُمْ لِنَقْتُلَهُمْ غَدا
بَغْدادْ
أيَّتُها الوَجْنَةُ الّتي قَبَّلَتْها السَّماءُ
عَدَدًا لا يُحْصى مِنَ القُبَلْ
أيّةُ عَروسٍ حَظِيَتْ لَيلَةَ دُخْلَتِها
بِمثْلِ ما حَظَيتِ بِهِ مِنَ الـمَشاعِلِ
لَيْلَةَ مَوْتِكْ!
كُلُّ مُلوكِ العالَمْ
مُدَجَّجينَ بِنَياشينِهِم المُقَدَّسَةِ
وَسُيوفِهِم النَّبيلَةِ
وَقَفوا عَلى مِصْطبَةِ الإنْتِظارْ
يُتابِعونَ احْتِضارَكِ الفاخِرْ،
وَالمَلِكُ الآرابيُّ
يَعْدو بيْنَ آلافِ المَباخِرِ المُعَلَّقَة بِسَلاسِلِ الدُّخانْ
حَتّى لا تَنْطَفِئْ،
وَالنَّشيدُ يَتَعالى حَتّى يَبْلُغَ سَقْفَ الهَواءِ الأَخيرِ
ثُمَّ يَعودُ إلى الأَرْضْ:
نينَوى نينَوى!
أَلْقَتْ عَلى الزَّمَنِ الأَخيرِ كِتابَها
وَاسْتقبَلتْ بِالنَّوْمِ ظُهْرًا أَسْوَدا
قُرْبَ العِناقِ، يُطِلُّ مِنْ نَظَراتِها
عَبَثُ السَّتائِرِ جُرْأَةً وَتَرَدُّدا
لَمْ يَسْـتَمِلْها الحُبُّ إلاّ مَرَّةً
أَوْ يَسْتَلِبْها الطَّيْشُ إلاّ مَوْعِدا
عَبَرَتْ كَما عَبَروا، وَظَلَّ كتابُها
شَبَحًا لِعابِرَةٍ، وَبابًا مُوصَدا
أَبْنـاؤُنا مَـرُّوا عَلى قُـبُلاتِنا
عَبَثًا، وَهَيَّأْنا مَضاجِعَهُمْ سُدَى
نينَوى نينَوى!
لِمَ كُلُّ هذا الجَمالْ
أَلَمْ تَكوني تَعْلَمينْ؟
لِماذا أَعْلَيْتِ بُنْيانَكِ
وَمَلأتِ بَساتينَكِ بِالمَواعيدْ
وَساحاتِكِ بِالأَطْفالْ؟
يا لَجَمالِكِ الرّائِعْ
يا لَحُزْنِكِ الكَبيرِ
إذَنْ!
ما لي وَلِلأَحْزانِ غَزَّةُ كمْ رَمتْ
كُتُبـًا! وَكَمْ بابًا بِغَـزَّةَ أوصِدا
لَوْ مَرَّ عَنْ صَبْرا البُكاءُ لَما بَكى
أَوْ حَطَّ في قَلْبي الغُرابُ لَغَرَّدا
عارٍ مِنَ الدُّنْيــا سِـوى نَكَباتِها
أَوْ هـذهِ الأَكْـوانِ إلاّ سَـيِّدا
ما لي ودِجْلَةَ هَلْ أَقولُ لَهُ انْتَظِرْ
نَبْـكي سَوِيّاً أَوْ أَقولُ تَجَـلَّدا
أَمْ هَـلْ أَقولُ لَهُ إليْـكَ مَديـنَةً
نَثَرَ الجَليلُ على حَدائِقِها النَّدَى
صَدَقَتْ نُبوءاتُ الخَرابِ فَلَمْ نَكُنْ
إلا مَواعيدَ السُّيوفِ مَعَ الرَّدَى
بُلْدانُنا مَـرَّتْ عَلى أَنْـهـارِنا
عَبَثًا وَأَعْلَـيْنا مَنازِلَها سُـدَى
الأَطْفالُ يَعودونَ مِنْ حيْثُ أَتَوْا
إلى مُسْتَشْفى الرَّشيدْ.
كانَتِ الرِّحْلةُ قَصيرَةً
بَيْنَ غُرْفَةِ الوِلادَةِ وَالطّابِقِ الأَرْضِيّ،
وَلكِنَّها كانَتْ مُمْتِعَةً لِلغايَة.
لا تَقْتُلوا حَتّى أَطْفالَ العَرَبْ
أَثْناءَ النَّوْمْ!
العِراقُ العِراقُ العِراقْ!
تَقاسَمْنَني مِثْلَما العِطْرِ
وَاصْعَدْنَ مِنْ ساحَةِ الذُّلِّ في العامِ يَوْمًا
إلى أَسْطُحِ الكِبْرِياءْ.
وَعَلِّمْنَ أَوْلادَكُنَّ، إذا رَغِبوا،
أَنَّ لِلذُّلِّ بابًا هُوَ المَوْتُ
يَفْتَحُهُ مَنْ يَشاءْ.
قَتيلٌ عَلى الرَّمْلِ أَجْمَلُ
أَمْ مَنْ يَموتُ عَلى رِسْلِهِ كَالحِذاء؟
أَمْعَنَ بوشْ النَّظَرَ طَويلاً في شاشَةِ التلفزيونْ
ثُمَّ بَصَقَ وقالْ:
تَصَوَّري مَعَ ذلِكْ
أنَّهُمُ الآنَ
أَجْمَلُ مِمّا كانوا!
العِراقُ العِراقُ العِراقْ!
أَرُدُّ لَكَ الكَأْسَ
خَمْرًا بِخَمْرٍ سِجالْ.
نَديمًا إلى آخِرِ اللَّيْلِ
حَتّى يَموتَ النَّبيذُ
وَيَسْكَرَ حَتّى الخَيالْ.
أُبادِلُكَ الشَّوْقَ حَتّى نَموتَ مِنَ الحُبِّ
عَيْنًا بِعَيْنٍ وَسِنّاً بِسِنّ،
وَطِفْلاً بِطِفْلٍ
وَطائِرَةً تَقْصِفُ الأُمَّهاتِ بِأَبْنائِهِنَّ
بِطائِرَةٍ تَقْصِفُ البَحْرَ بِالأُمَّهاتْ.
أيَّتُها الأُمَّةُ المَطْروحَةُ كَالحَصى
عَلى شَواطِئِ الأَنْهارْ
حَيْثُ الخَرائِبُ الـمُقَدَّسَةُ
تُخَبِّئُ إلْياتِها الرَّطْبَةَ في الأَرْضِ
بِانْتِظارِ يَوْمِكِ الأَخيرْ،
احْرُسي مَوْتَكِ مِنَ النِّسْيانْ
وَصَحْراءَكِ مِنَ المَطَرْ
وَمَذَلَّتَكِ مِنَ العِراقْ!
لا تَمُدّي يَدَكِ إلى زَمَنِ الغَيْرْ
وَلا إلى ثِيابِهِمْ
عَريسُكِ القادِمُ مِنْ مُخَيِّلَةِ الرُّعاةِ
يَعْرِفُكِ بِخِنْجَرِهِ
أَفْسِحي لَهُ الطَّريقَ إلى بَكارَتِكْ
وَلَسَوْفَ تَحْتَرِقُ فيكِ الرُّوحُ أَيْضًا!
العِراقُ العِراقُ العِراقْ!
تُرى أَكْمَلَ اللّهُ مِشْوارَهُ في دِمانا
فَعَلَّقَ بَغْدادَ في مِعْطَفِ الرّيحِ آخِرَ شَيْءٍ
وَخَلّى دِمَشْقْ!
نُريدُ دَمًا في دِمَشْقْ!
دِمَشْقُ أَحَنُّ عَلى السَّيْفِ مِنْ غِمْدِهِ
لَها عُنُقٌ مِثْلُ ساقِ البَغِيِّ
وَفيها دَمٌ يَشْتَهي أَنْ يُراقْ.
خُذوها إلى ساحَةِ الأُمَوِيِّ
ادْخُلوا جِسْمَها بِالصَّواريخِ
وَاسْتعْجِلوا دَمَها بِالفِراقْ.
وَلا تَقْرَبوا مِصْرَ إنَّ دِماها بُصاقْ!
دَعوها
تُصَلّي عَلى ظَهْرِها لِلضَّرورَةِ
ثُمَّ تُقيمُ المَساجِدَ مِنْ بَنْكِنوتِ العِناقْ.
دَعوها فَلا بُدَّ في الذُّلِّ مِنْ حِكْمَةٍ
وَإنْ تَكُ مِصْرُ أمُّ البِلادِ فإنَّ الكُوَيْتَ أَبوها
دَعوها!
تَعَزُّ الحَضاراتُ بِالسّاقِطينَ
وَيَزْدادُ رَوْنَقُها بِالنِّفاقْ.
الأُمَّةُ التي سَرَقوها مِن خِزانَةِ العالَمْ
تَمْتَدُّ كجِسْرٍ طَويلٍ مِنَ القِرَدَةِ
بَيْنَ جَبَليْنْ
يَعْبُرُ عَلَيْهِ السَّحَرَةُ وَهُمْ يَحْمِلونَ حَقائِبَ المَوْتَى.
لَقَدْ عَبَروا حَتّى آخِرِ رَجُلٍ
وَالآنَ سَيَحُلّونَ الحَبْلَ مِنْ نِهايَتِهْ.
أَبَدٌ مِنَ الذِّكْرى يُزيحُ لِثامَهُ
وَيُبيحُ وَجْهًا لِلْخَديعَةِ قَدْ بَدا
أَلآنَ تَبْتَلِِعُ الكِهانَةُ وَجْهَها
وَتُجَدِّدُ الأَعْراقُ وَجْهًا مُبْعَدا
«أَبْرامُ» يَفْتَتِــحُ البِلادَ بِقَبْرِهِ
لَوْلاهُ هَلْ كانَ الخَليلُ تَهَوَّدا
وَيَعودُ كِسْرى لِلْمَدائِنِ غاضِبًا
لِيُقيمَ إيوانًا وَيهْدِمَ مَسْجِدا
شَرِبَتْ خُيولُ التُّرْكِ ماءَ وُضوءِهِمْ
«أُوزالُ» يَقْتُلُ في العِراقِ مُحَمَّدا
لَـمْ يَعْرِفِ العَرَبيُّ خِدْعَةَ أمْسِهِ
فَأَقامَ في التّاريخِ عَبْدًا سَيِّدا
عَبَثَتْ تَعاويذُ الغُزاةِ بِرَأْسِهِ
فَأَعارَهُمْ سَيْفًا وَأَعْطاهُمْ يَدا
وَاسْتَوْقَفَ الذِّكْرى بِبابِ رَحيلِهِ
يَمْحو مَواعيدًا لِيَبْـدأَ مَوْعِدا
آشورُ لَـمْ يَلِدِ العِراقَ وَلَـمْ تُقِمْ
آرامُ في بَلَدٍ وَلا الحادي حَدا
وَعَلى رُبى كَنْعانَ يَنْفَلِتُ الـمَدى
مِنْ طينِهِ وَيَصيرُ حِبْرًا أَسْوَدا
وُلِدَ الزَّمانُ بِبابِ مَكَّةَ مَيِّتًا
وَأَعارَهُ «أَبْرامُ» بابًا مُوصَدا
لَمْلِمْ رِداءَ النّارِ حَوْلَكَ لَنْ تَرى
عَرَبًا مَدَى عَيْنيْكَ إلاّ سُجَّدا
العِراقُ العِراقُ العِراقْ!
كَفى أَيُّها الجُنْدُ
ماذا تُريدونَ غَيْري قَتيلاً
وَها قَدْ قُتِلْتُ
فَلا تَقْصِفوا الماءَ بِالطائِراتْ!
وَلا تَقْتُلوا الأَرْضَ
ماذا يُفيدُ النِّساءَ بِمِصْرَ احْتِراقُ النَّخيلِ
وَماذا يُفيدُ رِجالَ الكُوَيْتِ اغْتِيالُ الفُراتْ؟
وَهذي البَذاءاتُ مِنْ حَجَرٍ تَسْتَفِزُّ السَّماءَ
اقْصِفوها
وَلا تَقْصِفوا الدّورَ وَالجامِعاتْ!
دَعوا الماءَ
قَدْ يَغْضَبُ اللّهُ مِنْكُمْ
فَيأمُرَ زَوْجاتِكُمْ بِالوُضوءِ وَبِالحَجِّ كَالمُسْلِماتْ
وَيُطلِقَ فيكُمْ حَنينَ الأَضاحي
إلى الذَّبْحِ مِثْلي
وَحُبَّ الصَّلاةْ.
حينَما رَسَتِ السَّفينَةُ على قِمَّةِ كليمِنْغارو
قَفزَ الأَمْريكِيُّ
وَتَبِعَتْهُ القِرَدَةُ وَالحَراذينُ وَالدِّبَبةُ القُطبِيَّةُ
وَأفاعي الثَّلْجْ،
وَبَدَأ يُنَظِّمُ حَديقَتَهُ الجَديدَةَ
مُسْتَعينًا بِاللّهِ عَلى فَرْزِ حَيَواناتِ الفَرْوِ
حَسْبَ أَلْوانِها.
لقَدِ انْتَهى الطُّوفانْ
وَمِنْ مَكانٍ ما عَلى ضِفَّةِ نَهْرِ العُمودِيَّة
كانَ صَوْتُ أشْعَيا العَرَبيّ ْ
أَلمُفْعَمُ بِأَصْداءِ النُّبُوّاتِ الأُسَرِيَّةِ
يَجوبُ شَوارِعَ الإنْسانِيَّةِ المُتْعَبَة:
«تَعالَوْا نَنْسى ما حَدَثْ
وَنبْدَأَ مَعًا
فَجْرَنا الجَديدْ».
أيُّها الرَّبُّ الَّذي يَكْرَهُ الجَميعَ بِالعَدْلِ
لا يَنْظُرُ إلى أَلوانِهِمْ وَإنَّما يَنْظُرُ إلى دِمائِهِمْ
إيّاكَ نَعْبُدُ
وَإيّاكَ نَسْتَعينْ.
(نُشرت في مجلة "كنعان"، عدد 1، أيار 1991)