فوزي البكري: رهين درب الآلام
بقلم باسم النبريص
جمعتني وفوزي البكري علاقةُ مُجايلةٍ، حتى لو كنت أصغر منه بعقدٍ ونيّف. وتجمعني وإياه قُربى روحٍ، نمَتْ وتصفّت واحلولت عن طريق القراءة.
فوزي، كما هو عنوان أحد ديوانيْه، "صعلوك القدس القديمة"، بكل ما تعنيه الصعلكة من معان، وكذلك القدس. وليس هذا فحسب، إنما فوزي صعلوك فلسطين التاريخية كلها، وربما العرب.
ندرة من الشعراء ظلّوا قابضين على جمر مواقفهم، منذ بداياتهم وحتى نهاياتهم، وفوزي في طليعة هذه الندرة.
شاعر لا يهادن ولا يساوم، لأنه كشخص وكإنسان ينطوي على الخصال ذاتها. لا مسافة بين نصه وشخصه. حدستُ بهذا من خلال ما كتب ويكتب، لكنني تيّقنت منه تماماً حين التقيته في بيته، في قلب القدس العتيقة، على مدار ساعات طويلة، وخلال ثلاث جلسات، ما كان أروعها وأغناها، وما أكثر ما حَوَت.
ثلاث جلسات، كانت أولاها قد تيّسرت بمحض الصدفة. لا تدبير ولا تفكير!
كنت قريباً من بيته، أتجوّل في سوق خان الزيت مع الصديق وليم ترزي، فعبرنا إلى دكان صغير، كي يُسلّم أبو جورج على أصحابه. عرّفني بهم وعرّفهم بي، فإذا واحدٌ منهم [ أظنه صاحب الدكان] من عائلة البكري. قلت "أجت والله جابها". هل تعرف عنوان الشاعر فوزي؟ قال: هنا، في الجوار، على بعد خطوات ليست كثيرة.
قلت: أين؟ فشرح لوليم العنوان، وقمنا من فورنا، بعد أن أتحفنا الرجل بكُتيّب شعري لوالد فوزي، أحد ثوار القدس وأحد مناضليها وشعرائها.
_ فوزي ابن شاعر؟
وهكذا هبطنا من زحمة السوق، تاركين الخان وراءنا، إلى طريق درب الآلام باتجاه شارع الواد. يا للشيطان كم مشيت هذه النواحي، ولم أكن أعرف أنني أدور في مدار فوزي!
سأل وليم وسأل، وأخيراً وصلنا.
صعدنا درجات سلم صخري، وبعده سلماً آخر، في بيت عتيق، شأن البيوت من حوله، إلى أن بلغنا غرفة في حوش صغير، فنادينا: الأستاذ أبو إسلام. الأستاذ فوزي.
كان الوقت في حدود الثانية، من ظهيرة يوم الاثنين 26/10/2009.
نادينا للمرة الثالثة، وبعد دقيقتين، خرج أبو إسلام. عرّفته على نفسي فوراً، كي يقطع الشك باليقين، في أمر هذا الطارق المجهول.
أخذنا بعضنا بالأحضان، كأننا أصدقاء فرّقتهم الدنيا وهي ذا تجمعهم.
لم يكذب إحساسي أيها الإنسان العظيم.
ندخل ونجلس، وبعد دقائق ينسحب أبو جورج، لضرورة.
وبعد دقائق أيضاً، يأخذني أبو إسلام، إلى حديقة بها شجرة تين معمّرة، والعديد من الشتول اليانعة مغروسة في تربة حمراء ككبد الشنّار.
أتفرّس فيه وكأنني لا أصدّق أنه فوزي!
_ تأخّر لقاؤنا فحسب ثلاثين سنة! أقول له ونضحك دامعين.
يقول: قبل أسبوع فقط، كنت أقرأ رسالة دكتوراه عن درويش وورد ذكْرك فيها.
_ لا عليك.
أقول له: لقد كنت أتقصّى أخبارك في غزة، من الشاعر المرحوم عبد الحميد طقّش. وما إن أشرع بالسؤال، حتى يقول هو لازمتك الشهيرة: "هلمُّوا بالقوارير، هلمّوا بالقوارير"! فقد كان سمعها منك غير مرة، في غير مناسبة، فأصبحت عنده "مُتلازمة فوزي البكري"!
نقهقه من ذكريات الزمن الجميل، وتأتينا السيدة الفاضلة أم إسلام بالشاي والفاكهة والمكسّرات. ندخل من حديث إلى حديث، كأنما هي قصص انقطعت بالأمس، وها هي ذي تتواصل وتتصل.
يصرّ أبو إسلام، أن أدخّن من علبته.
وتمضي ساعتان دون أن أحسّ، فأستأذن، وأتملّص كي لا يُغدّيني.
أهبط الدرجات، وهو برفقتي، يوصلني للباب.
أسأله عن عمر البيوت، في هذه الحارة، فيقول: بعضها عثماني وبعضها مملوكي، وثمة أبنية من العصر الأيوبي.
_ أنت تسكن قلب العالم يا صديقي.
يردّ: القدس بالمقاييس الخارجية، مدينة مثل المدن، وربما أقلّ، لكنّها مدينة الروح.
أخرج من الباب نازلاً، وقد بدأت الآن أتعرّف تضاريسَ وطوبوغرافيا المنطقة. هي خطوات قليلات وحسب، وإذا بك أمام المكان المقدس الذي طبع فيه السيد المسيح راحة يده على صخرة. المكان أشهر من أن يُعرّف، وتؤمّه على مدار الساعة، أفواجٌ من السياح المسيحيين، من أربعة أركان الريح. بل وجوده هو السبب الرئيس في كل هذه الزحمة في شارع الواد.
فوزي إذاً يسكن الزقاق الواصل بين خان الزيت وشارع الواد (وهما أشهر طريقين في البلدة القديمة كلها( وبيته أقرب من جهة شارع الواد، فمن هناك، إن هي إلا بضعة أمتار وتكون في بيته.
هكذا رحت اُعلّم المكان بعلامات، كانت، من حسن طالعي، أشهر من أن تُنسى. فكل ما حولي شهير وجهير، بل كل ما حولي هو علامات وإشارات مائزة.
ما أغرب الصدف وما أمكر الطبوغرافيا!
فوزي المفتون بأبي العلاء المعري وسقراط ويوحنا المعمدان وناجي العلي، ويسوع المسيح كعشاق للحقيقة وباحثين بدأب عنها وشهداء لها، لا يجد الله له منزلاً ومستقرّاً إلا في درب الآلام!
أمضي لشأني، متحاشياً الاقتراب من الشرطة، وأنا أفكّر فيه وأبتسم.
لقد غامرت من أجل هذه الزيارة، وكانت بالفعل تستحق المغامرة. مررت على أكثر من تجمّعٍ للشرطة، لكن الله ستر.
تصريحي في جيبي انتهت مدة صلاحيته، مساء اليوم الأول لقدومنا، وها أنا ذا أجول في القدس العتيقة بلا تصريح!
لو أمسكوني لسجنوني ورحّلوني إلى معبر "إيرز" فوراً.
أُفكّر في حالي وحال شاعري، وأهجس: درب آلامنا لم ينتهِ أيها السيد.
أحفادك ما يزالون في أول الطريق.
أركب باص [75] من محطة باب العامود متوجهاً نحو جبل الزيتون، حيث مأواي في الفندق.
وهكذا ينتهي لقائي الأول بأحد أنبل وأعظم رجالات القدس.
فوزي الشاعر الإنسان.
فوزي أبونا، ومعلّمنا، كيف نقبض على الجمرة، ولا نبرح.
لقاء عاصف عشية عيد الاستقلال!
أما لقاؤنا الثاني، فقد تمّ، ولو متأخّراً على الموعد بساعات، برفقة صديقي نجوان درويش. كان نجوان في زيارة طويلة للجزائر وعاد للقدس، فألححت عليه بضرورة لقاء فوزي، خاصة وأنّ نجوان ذاته لم يلتق بفوزي مذ كان فتى!
ذهبنا ليلاً، بعد الثامنة، وكان الطقس مريعَ البرودة. ركن نجوان سيارته على مبعدة من القنصلية الأمريكية باتجاه الشرق، ومشينا حتى اجتزنا باب العمود، فنزلنا شارع الواد، وكان يوم سبت، فلم نرَ من السابلة غير قلّة من العرب العائدين لبيوتهم، وكثرة من الحاخامات اليهود، الذاهبين للصلاة في حائط البراق (المبكى)، بقلانس ضخمة على رؤوس محلوقة، وسوالف مُرخاة حتى الصدور، وملابس ضافية السواد.
انتبهت إلى أن الطريق مرشوم بالمجندين والمجندات، على مألوف عادتهم في كل سبوتهم. فتوجّست شرّاً، لكن نجوان طمأنني: "لم يحدث ولا مرة واحدة في حياتي أن أوقفوني وطلبوا الهوية" قال، فضحكت وعقّبت: ذلك أنك مقدسي، أما أنا، فيا خوفي أن تأتي الطوبة في رأس المعطوبة! إنهم يشمّون رائحة الغزاوي عن بعد أميال يا صديقي. لكنني لم أخف، وعبرنا تجمعاً تالياً. ما أجمل "الاستهانة" في مثل هذه الظروف. فالذي يخاف من الذئب يطلع له!
طرقنا باب البيت، وكان فوزي في استقبالنا وحيداً، بعد أن يأس الأصدقاء الذين دعاهم من قدومنا. اعتذرت له بخجل شديد، وواصلنا حديثاً كأنه لم ينقطع.
غصنا في همومنا السياسية والثقافية، كما لم أغص من قبل. شاكسناه، نجوان وأنا، وطلبنا منه الخروج من سجن عزلته، والعودة إلى الساحة الثقافية، فأصرّ على خياره هذا " من أجل ألاّ يتلوّث، وكيما يحافظ على نقائه، ومبادئه، فلا يمسّها غبار، خاصة وقد أوشك الأفق أن يدور"
قلنا له بصوت واحد: ليتوسّخ قميص الفارس، من خارج، فالمهم ما تحت القميص.
قال: البركة فيكم. لكل أوان أذان.
أنا لن أستدخل الهزيمة لذاتي، مهما يكن. وما عزلتي هذه إلاّ خط دفاع عن شخصي وتاريخي. فلا تحمّلوني ما لا أطيق ولا تعطوني ما لا أستحق.
_ يا أبا إسلام، على رسلك! القدس لم تعد القدس، وإقامتي فيها التي بلغت اليومَ قرابة الشهرين، أكّدت لي أنّ حالكم الثقافي، يفوق في السوء حال غزة. فما هو شائع الآن من أنشطة ثقافية في المدينة، هو بزنس ثقافي لا ثقافة. سقا الله أيامكم في السبعينات، فقد كنتم صّناع ثقافة لفلسطين بأجمعها، وليس لكم فقط. لذا لا بد من عودتك، حتى لو لم تكتب بذلك النشاط، فوجودك، مجرّد وجودك الفيزيقي، سيُخيف صنّاع البزنس الثقافي، والمتعيّشين على أعتاب القناصل الأوربيين ومؤسسات الأن جي أوز.
نقول ونقول، ويقول لي نجوان، إنه كثيراً ما يجد نفسه متلبّساً "حالَ فوزي البكري"، سواء في كتاباته أو في بعض المواقف.
نعم: ما أقرأه لنجوان في جريدة الأخبار اللبنانية، لا يخلو من روح فوزي ومزاج فوزي، وإن اختلفت اللغة والظرف والأسلوب.
يوغل فوزي في الغوص في شعر أبي العلاء وأحمد شوقي والمتنبي، فيدهشنا بما يخرج به من لآليء ودرر وكنوز. ويدهشنا كيف يُحلّل ويستبطن الأبيات والقصائد، وكيف يربط بعضها ببعض، كما لم يفعل ناقد أو ذوّاقة عربي من قبله. إنه اختصاصي في اكتشاف تأثّرات، وأحياناً سرقات شعراء العربية الكبار. إنه ذوّاقة من طراز رفيع حقاً. وذاكرته مدهشة، رغم بلوغه الثالثة والستين.
لم يلجأ مرة إلى مكتبته العامرة من ورائنا. فأغلب ما قرأ، محفوظ في خزانة هذه الذاكرة الحديدية.
أقول له: ذكّرتني باثنين، من أصحاب الذاكرات الخارقات في المشهد الثقافي العربي: أحمد دحبور، والعلاّمة أنيس صايغ.
يقول: في السنوات الأخيرة بدأت أنسى.
لكنني أنا ونجوان لن ننسى ما جئنا إليه. نحاول معه مرة ومرة: لوّث قميصك أيها النبيل، فالضرورات تستوجب، وحال فلسطين يستوجب، في وقت تكاد تختفي فيه فكرة الوطن والوطنية.
يصفن فوزي. ثم يسرد لنا قصة ذلك المواطن الأمريكي، أيام حرب فيتنام. فقد تعوّد أن يجلس هذا في حديقة البيت الأبيض على مقربة من عيون المسئولين[قبل أن تضم السلطات جزءا من الحديقة، بدواعي الأمن]، فكان يأتي بعلب البيرة وبلافتة مكتوب عليها "أوقفوا الحرب في فيتنام"، ويجلس وحيداً فينصب اللافتة الصغيرة، ويشرب بيرته، ثم في وقت معلوم، يقوم بهدوء ويمضي إلى حال سبيله. هكذا يفعل كل نهار، على مدى شهور طويلة. حتى لفت أنظار أحد المسئولين، فأرسل إليه رجالاته ليستطلعوا ما الأمر، وليطلبوا منه بكل أدب أن يكفّ، فما من فائدة، وهم جاءوا أليه احتراماً له ورأفة بحاله. فقال لهم: أعرف أن أمريكا ملوثة، وأعرف أنني لن أستطيع تغييرها، لكن كل ما أريده هو ألا تلوثني أمريكا، ألاّ يلوثني العالم.
هذا هو حال ومآل فوزي في عام 2009.
الرجل الذي أعطى ولم يفكّر مرة بالأخذ.
الرجل الذي قسّم جسمه في جسوم كثيرة، وحسى قراح الماء والماء بارد
لم يلتفت المثقفون الأوسلويون إليه، بل تجاهلوه حتى من بادرة تكريم رمزي. وإني لعلى يقين، أنهم لو فعلوا، لما كان أبِهَ بهم.
هذا هو فوزي، وليس صدفة أنه سرد لي قصة الأمريكي في لقائنا الأول وأعادها ثانية في هذه الجلسة.
تقترب الساعة من الحادية عشرة والنصف، فنستأذن، ونخرج. فإذا الشارع الشهير مليء بأرتال من الجنود والقليل من الحاخامات، على غير العادة. لقد نبّهنا فوزي إلى أنّ غداً هو "عيد استقلالنا"، ولهذه المناسبة، يحتاط رجال أمنهم، تحسّباً لأي طارئ.
نمرّ من بينهم، كتفاً لكتف، ونمضي بسلام، دون أن نثير شبهة. كم هو مهمّ الهندام مع هؤلاء يا نجوان!
نصعد السلالم، ونخرج من باب العمود، فيرغب نجوان أن نكمل السهرة على مقهى شعبي في العراء، على يسار موقف التاكسيات القديم، في الساحة أمام الدوّار.
يشتدّ الصقيع فأكابر، لإحساسي بحاجة نجوان للحديث والفضفضة. فنجوان مثلي في الزمانات ينام نهاراً ويستيقظ ويتألق ليلاً.
نشرب الشاي وندخن ويوغل محدّثي في سرد هموم اللحظة وهموم التاريخ المثقل لهذه المدينة، فيتكلم عن خياراته ومواقفه الراديكالية في السياسة والثقافة، فما من طريق غير هذه الطريق، وإلا فالتلاشي في أبخرة الإمبريالية وطبعتها الحديثة: العولمة.
ألمس لدى نجوان خوفاً حقيقياً على مصير القدس. يقول: كلما ابتعدت عنها، حتى في سفراتي القصيرة، أخشى ألا أرجع لها، أو أرجع فلا أجدها. يا للهول يا صديقي، أإلى هذه الدرجة؟!
يمرّ رجال أمن سريّون [بوليشت] ويمر يهودي يبدو غير طبيعي ويطلب منا سيكارة. نعطيه ونقوم، فقد خفّت الرجْل وتقدّم الليل، وكلما نظرت لسور المدينة القريب على يميني كلما استوحشت واكتأبت. فالمشهد الآن حقاً لا يسرّ، بل يغيظ: أرتال من الحاخامات والمتدينين اليهود وسواهم من مواطنيهم المدنيين، يمشون بأمانٍ ويملأون المنطقة، كأننا في الجانب الغربي من المدينة الجريحة، لا في نواتها وقلبها.
أشعر بارتجاف رغم ملابسي الشتوية الثقيلة، ونقوم، فينقد نجوان صاحب المقهى حسابه ونمضي. الهواء يهبّ كالعواصف، والمطر ينزل زخّات زخّات، فيما شارع نابلس من حولنا خاوٍ وخال، ومركز الشرطة قريب.
نغذّ الخطى، قبل أن نبتلّ تماماً، واتقاءً من نزلة برد.
نصل "مسجد سعد وسعيد" فنعطيه ظهورنا، ونتجه نحو السيارة وبالكاد ندخل فيهطل المطر بجنون.
يُشغّل نجوان المسّاحات الأمامية، ولا نكاد نرى ما أمامنا.
إنه منخفض جويّ من ألعن ما رأيت في حياتي.
نصل الفندق بعد انتصاف الليل بساعة ونصف، ونمكث على بابه الخارجي، داخل السيارة، أكثر من ثلاث ساعات، دون أن ننتبه. المطر يرخّ ونحن نتكلّم في سيرة هذا وذاك من المثقفين الفلسطينيين والعرب. ونظل هكذا إلى أن يخرج أخي وزملائه للصلاة في المسجد القريب.
رابطة العقد
أما اللقاء الثالث فقد رتبته مع الصديق الشاعر وائل أبو عرفة [وائل واحد من أفضل مئة جراح مسالك في العالم، حسب ما أخبرني الكاتب إبراهيم جوهر، نقلاً عن ثقاة أمريكيين]، ومع الصديق القاص جمال القواسمي.
جاءني جمال بعد المغرب، وأخذني بسيارته الأوتوماتك إلى داخل البلدة القديمة، فهو أحد سكانها منذ ولادته حتى هذه اللحظة, وواحد ممن كتبوها برهافة وسكنتْ أرواحَهم إلى الأبد.
وصلنا، وكرّجَ جمال سيارته في موقف معلوم لها، في شارع الواد قرب تقاطعه مع درب الآلام من جهة باب الأسباط.
نزلنا وكان في انتظارنا إسلام ابن فوزي، ثم مضينا إلى البيت، وجلسنا، وما هي إلا ربع ساعة حتى أتى الكاتب محمد عليان والشاعر نبيل الجولاني، وبعدهما بقليل، وصل الدكتور وائل.
التمّ شملنا نحن السبعة، وقد فرّقتنا مشاغل الدنيا وهمومها، فكانت ليلة من ليالٍ معدودة يصعب أن تزول من الذاكرة، فما بالك بالقلب والعقل.
لن أسرد الآن كل ما جرى، ذلك أنّ لي ذاكرة خوّانة، فضلاً عن أنّ هذا الكتاب لا يحتمل. لكنني أقول إنّ فوزي هو رابطة العقد. وأن يكون للوطنية الفلسطينية رمز شعريّ فهو رمزها الحق. رغم أنّ ما كتبه، شعراً ونثراً، ربما لا يبين عما تحته من ثقافة هائلة وإحساس ذكي وبصيرة قلّ أن تجد لها نظائر.
هذا الرجل النبيل، كفرسان القرون الوسطى، لم يظلمه ساستنا ومثقفونا الرسميون فقط، إنما ظلمه شعره كذلك. فهو متوقف عن النشر منذ عقدين وربما أكثر، مع أنه يكتب ويخبئ. لمَ هذا؟ لسبب بسيط وعميق: الزهد في هذه الدنيا، بعد أن تكشّفت له، عن عدو في ثياب عدو _ على غير ما يقول شاعر العرب الأكبر.
فوزي الآن أقرب ما يكون إلى أبي العلاء المعري حبيبه وحبيبنا. أسير درب الآلام، وأسير الجسد النبيث، المتعفّف عن كل شبهة، الصادّ عن كل غنيمة، المكتفي بكتبه وقراءاته وصحبه المعدودين الخُلَّص، أمثال وجوه هذه الجلسة الطيبة، وأمثال صديقيه البارّين، صديقيّ العمر: عادل سمارة وأحمد حسين.
فوزي الفقير، كريم اليد والروح. يعطيك من روحه، خلاصتها، وحين تدخل بيته، فأنت في حضرة أمير، كرماً وحدباً وأصالة.
قد أبدو في هذا المقام مجاملاً، وقد تبدو لغتي غير لغتي، في جنوحها نحو القدم والبلاغة. إنما صدّقوني، فالقدّيس الذي أمامي يستحق مقالاً أفضل بكثير من هذا المقال، وقدراتٍ أفضل كثيراً من قدرات هذا الكاتب.
فوزي البكري شاعر الوطنية الفلسطينية: أُحييك أيها الرجل.
وسلام من غزة التي تحبك إلى القدس التي أحببناها لأنك فيها ولأنها فيك.
2009 الأربعاء 30 ديسمبر