قاعدة المثلث
فطن إلى أنه ليس خائفًا كالمعتاد. استغرب ذلك بل وأحسّ حتى بشيء من القلق. إن إحساس الإنسان لا يمكن أن يتبلد بهذه السرعة فهذه ليست إلاّ تجربته الثالثة، وإذا كانت الأمور قد سارت بسهولة في المرّتين السابقتين فلا يعني هذا أنها ستسير بنفس السهولة في هذه المرّة أيضًا وأن الأمر كان مجرّد حظ فقط. وهو يدرك الآن تمام الإدراك أن الحظ شيء لا يمكن الاعتماد عليه، بل إنه ليصرّ على أنه من أكثر الأمور قذارة وفوضوية في هذه الحياة. فماذا يعني هذا الاطمئنان أو هذه اللامبالاة إذن!
حتى ذكريات البارحة على نفها لا تثير فيه الآن سوى إحساس ثخين كالذي يحسّه الآن في يده اليمنى.
.... قالت أمه:
- لماذا نحن دون غيرنا! واحد في التراب وواحدة في السجن والثالث بينهما.
وقال واحد عن الطاولة التي عن يمينه:
- ميرمية من فضلك! سكر زيادة.
كانوا ثلاثة. ملامحهم مختلفة إلى حد بعيد ولكنهم مع ذلك تشابهون. وإلى حد بعيد أيضًا.
ونظر في ساعته بينما أمّه تقول بصوت مليء بالعذاب:
- إنها خدعة! واحد يموت، ومئة يتزوجون!
وقام واحد من الثلاثة وتبادل عبارة غير مسموعة مع صاحبيه اتبعها بإشارة في اتجاه المرحاض الوحيد القائم في طرف الحديقة ومضى.
ومرّة أخرى نظر في ساعته ثم إلى الشارع باتجاه اليسار، ولاحظ أنه يجب أن يغير من وضعه قليلاً ليتجنّب نظرته الطربوش الذي كان يحجب قطاعًا منحرفًا من الشارع ينتهي عند النقطة المهمّة بالذات، ولكن الأمر لم يكن سهلاً، فالطربوش لم يكن ثابتًا على وضع واحد. كان ينحني ويستقيم ويتأرجح مع كل جملة يقولها صاحبه لزميله. ولاحظ أن الوجهين هنا أيضًا متشابهان رغم الفروق الصارخة بينهما، تمامًا كالوجوه الثلاثة الأخرى التي عن يمينه وضحك من نفسه.
وقال الطربوش:
- لا يمكن السكوت على هذا! يجب ان يكون هناك شيء من العدل. للاحتلال أيضًا قوانين يجب أن يتقيّد بها، وقد قلت ذلك منذ البداية دون أن أخشى أحدًا.
وكان قطعًا سيحسّ بالغضب لهذه التأرجحات الحمراء المتكرّرة، ولكنه كان غريبًا على نفسه اليوم. سحب كرسيّه إلى الخلف، بحيث أسندها إلى الطاولة لخوفه من أن يلفت نقلهما نظر أولئك الذين عن يمينه أو أولئك الذين ن يساره. وأصبح الآن في وضع ملائم بحيث أصبح يكوّن من مكانه مثلثًا متساوي الساقين مع الطاولتين الأخريين، ولم تعد بهلوانيات الطربوش الأحمرتعيق مراقبته.
وقالت الطاولة اليمنى:
- شُفيتم!ّ
- عوفيتُم!
وفطن إلى أن يده اليمنى ليست في مكانها الصحيح فدسّها في السرداب العميق الممتدّ من فتحة جيبه إلى ما بين فخذيه حيث التفّت هناك على ذلك الشيء اصلب المستدير كبرتقالة صغيرة.
... ألقت أمّه القميص بعنف من بين يديها دون أن تنزع منه الإبرة، وقالت:
- لو فعل واحد من كلّ عشرة مثلما نفعل لما كان هناك احتلال الآن، ومع ذلك فأنت لا تريد أن تفهم! لقد كنت أنا التي دفعتكم إلى كل هذا ولكنني أحسّ الآن أنه... يكفي! لا أريد حتى أن أبصق مقابل لا شيء... لقد تعلمت درسًا.
وقالت الطاولة عن يساره:
- قلت أكثر من مرّة! يجب تقديم عريضة موقعة إلى السلطات، وتبرّعت أن أقوم بتقديمها بنفسي، فماذا يريدون منّي أكثر من ذلك!
- نعم! حدث! ولكن أين تجد من يجرؤ منهم على التوقيع!
- يجب أن يوقعوا! وسأقول للحاكم العسكري بنفسي إنه لن يكون بإمكاننا تهدئة الخواطر ما لم يطلقوا سراح الموقوفات.
- وماذا عن التصاريح؟
........ واستمرّت أمّه:
- إنهم لا يكتفون بالسكوت. يطالبون بالعدالة ألا تريد أن تفهم!
وصمع صوته أيضًا يقول:
- إنك على حق، ولكن مواقفهم لا تُلزمني.
- موقفهم يُلزم اللعبة بأكملها، وهذا هو أسوأ ما في الأمر. إذا حاولت أن تلعب لعبتك الخاصة فسوف تصبح مجرّد بطل.. ومن يريد ذلك!
- دعهم ينضمّون إليك وإلاّ فلا فائدة من أي شيء. إنها قضية أكبر من الأفراد... قضية شعب! يجب أن يكون هناك بديل لمجرد البطولة. إنه لا يفهم.
- وأنا أيضًا لا أفهم! إنها المأساة الحقيقية لنا.. أكثر حتى من الاحتلال، وأنا أحسّ بهذا.
الساعة الثالثة تقريبًا. إنهم يمرّون بمعدّل مرّة كل نصف ساعة تقريبًا.. ولكن لا أهمية لذلك فالمسافة بين النقطتين تكفي لكي يستعدّ، وإذا استمرّت حركة السير بهذا المعدّل فسيكون عليه أسهل.
وفطن إلى الطاولة التي عن يمينه وهي تقول:
- ... وكنت في طريقك إلى المسجد للصلاة، وحدث أن دلقت امرة ما سائلاً إلى الشارع وأصاب ثيابك منه شيء فكيف تفعل؟ إنك لا تعرف ماهيّة السائل نجاسة هو أم لا.. فهل تجدّد وضوءًا أم تصلّي بغير ذلك!
- الأمر واضح. أسأل المرأة!
- أتوضّأ.. ماذا يقول الأستاذ ابراهيم؟
- يغلب أن ما تدلقه النساء من ماء إلى الشوارع يكون فيه نجاسة من براز طفل أو دم حيض أو...
واحتدّت الطاولة اليسرى لأول مرّة:
- إنه كذاب منافق! لقد أخلي المستوطنون بفضل احتجاجنا فقط.
- سمعت أنه اتصل بالملك مؤخرًا.
.... وغطى صراخ أمّه على كل شيء:
- قال لي إن ابنه جاء مع زوجته ضمن الزيارات الصيفية، وذهبا في اليوم التالي لزيارة تل أبيب، وحدث لهما الحادث في طريق العودة. وكان يتحسّر أن ابنه كان ينوي زيارة الكثير من الأماكن أثناء مدّة إقامته ووعد بأن يعطيني نصف عمره إذا شفيت ابنه. وتمنيت من كل قلبي أن يموت الابن ولكنه شُفي وغادر المستشفى أمس في موكب مهيب.. إنهم لا يموتون ولو مرغمين.. وهم دائمًا على استعداد للاستفادة من كل شيء.. حتى من انتصارات العدوّ.
وأحسّ بيده اليمنى تصبح لزجة، فأرخى قبضتها من حول ذلك الشيء الذي تمسّك به وجففها بقماش جيبه. ثم عاد يستمع إلى صوت أمّه الخافت هذه المرّة.. صوت متخثر النبرات وكأنه صادرعن آلة تسجيل، بارد ولكنه مرير ومذعور.
- شيء لا يكاد يُصدّق! يبدون وكأن شيئًا لم يتغيّر حولهم على الإطلاق. وفاق تامّ مع كل شيء.. مع الواقع ومع الآتي أيًا كان نوعه. الضحكات ذاتها، العيون، الأصوات، الملابس، الأحذية، الرائحة، الإقبال على كل شيء. وأكثر من كل شيء الفرح.... الفرح العفويّ أمام كل لمحة حظ تافهة.... الفرح الحقيقي الطازج أمام بضعة قروش... أمام أغنية أو لعبة "زهر"... وحتى أمام لا شيء؛ أمام مجرّد غياب الألم وكأنهم يخشون أن يفارقوا فرحهم. حتى زجاجات عمّان الفارغة لم يفقدوا اهتمامهم بها... زملائي الأطباء يتبادلون النكات ويتحدّثون عن آخر أخبار القصور الملكية: الملك أنذر أمّه أن تقطع علاقتها بطبيبها، الأميرة فلانة أصيبت بانهيار عصبي بسبب السفير الفلاني، عيد ميلاد الأميرة...
وقال اليمين بخشوع:
- وكنتم خير أمّة أخرجت للناس. صدق الله العظيم.
- صدق الله العظيم.
- صدق الله العظيم.
.. واستمرّت أمّه:
- لا. شيء لا يُصدّق! ليحتلوا المزيد من الأرض! وليهرق المزيد من الدماء! نحن بحاجة لذلك أكثر من أيّ شيء آخر.
ومرّة أخرى احتدّ اليسار:
- على الأقل لم يسوقوني كالحمار إلى تل أبيب لأفتتح معرضًا للرسم التجريدي.
- وماذا يفهم الخصي في مسائل التجريدي؟
- وهل يأخذونه لو كان يفهم؟
وهبّت كل مشاعره دفعة واحدة، وأحسّ بجلده يمتلئ شيء كالهواء الساخن حتى يكاد ينفجر ... لقد ظهرت النقطة السوداء عند النقطة البعيدة، وخيّل إليه أنهم يسمعون دقات قلبه حتى من ذلك البُعد، ماذا حدث له؟
ومع ذلك كان كل شيء يسير كالعادة وبهدوء ظاهريّ تامّ. قام من مكانه كالآلة، أخفى نصف جسمه وراء الجذع الذخم، أخرج القنبلة، حرّر حلقة الأمان، ضغط الجسم المستدير بشدّة، وانتظر.
فوهة المدفع السوداء أكبر من المعتاد وأقرب من المعتاد ومصوّبة إليه تمامًا. جلد جبهته يتقلص استعدادًا لاستقبال الطلقات. لن يحسّ بشيء، فقط سيموت. كل شيء حوله ثخين، حتى الهواء أصبح كضمادات قطنية مشدودة حول جسده... الفوهة تكبر أكثر وتقترب أكثر وتلتهم كلّ وجهه فيحسّ بأنفاسها تلفّه كغمامة ساخنة، وينتظر.
تنحسر الدائرة السوداء الكبيرة عن وجهه وتعود إليه الرؤية وتمضي العربة المصفّحة تجرّ صوتها وراءها.
لقد انتهى كلّ شيء، والقنبلة هي الآن التي تنتظر. وبرد كلّه فجأة، وأحسّ بتفتّح حواسّه كإنسان يخرج من تحت الماء. لقد هُزم.
كان يجب أن يفهم ذلك منذ البداية، إنه لم يكن خائفًا لأنه كان قد قرّر أن ينهزم.
واستولت عليه نقمة مجنونة.
السيارة المصفحة غابت عن الأنظار وتركت خلفها شيئًا كالذهول يلف كل شيء.
أمّا الشيء الذي في يده فقد كان لا يزال ينتظر.
وفجّرته الهزيمة مرّة أخرى. كيف حدث هذا؟
وتأرجح الطربوش الأحمر عند زاوية عينه اليسرى كملاءة حمراء.
وعن اليمين قالوا:
- الحمد الله!
وفجأة فهم كلّ شيء. إنه لم يُهزم. الحظة لا تزال تنتظر. لم يكن الخوف هو السبب...الرؤية فقط. لم يكن كل شيء واضحًا كما هو الآن.
نظر عن يمينه وعن شماله إلى الطاولتين!
وتذكر رغمًا عنه العمود النازل من الرأس على منتصف القاعدة وقذف بالقنبلة، واستدار على منتصف القاعدة وقذف بالقنبلة، واستدار خفيفًا ممتلئًا كغمامة ملأى بالمطر.
(الجديد، 1976)