سَرايا القَمَر
تجمّع الشباب والأطفال حول الجرّافة أو على مقربة منها، أمّا هم فجلسوا جانبًا كما كانوا يجلسون أمس في المقبرة، تمامًا: وجوههم في الأرض، موغلين في العزلة والصّمت الى درجة الغياب، عكاكيزهم مغروسة في التراب وقد انكفأوا عليها، أو نائمة حيث كان، دون أن تفارقها أيديهم. حتى العجائز خلفهم كنّ شبه صامتات لا يصدر عنهن سوى هزّة رأس أو كلمة أشبه بالهمهمة لا تعكّر السكون.
أخفيتُ الفأس من الناحية الأخرى بجسدي، وتهيّبت أن ألقي عليهم التحية. أبطأت قليلاً ثم توقّفت، فلم يحرّك أحد منهم ساكنًا. وددت أن أقول: «بهذه الفأس سأنتزع حجر «وهيبة» لأحفظه من الضياع». ولكن من يكلّم الصخر!
ووجدت نفسي فجأة ضحية للشعور بالعجز أمام أسلوبهم الصامت في التعبير. اجتاحني إحساس بالظم للإدانة التي لمستها في إهمالهم لي. ومرّة أخرى وددت لو أقول لهم بحرارة تلائم الضيق الشديد الذي شعرت به: «هكذا أنتم دائمًا! عاجزون أمام الحياة عجزكم أمام الموت. تدفنون إرادتكم في الصمت كما تدفنون موتاكم في التراب! استسلامكم الحزين هذا، كان دائمًا كلّ سلاحكم. الحياة بالنسبة لكم صخرة عاتية تتدحرج عن قمة جبل وليس عليكم سوى أن تنظروا إليها. لم يُرضِكم شيء أبدًا، ولم تعترضوا على شيء أبدًا، كأنكم مجرّد شهود! لو أعرف فقط ما الذي صنعكم على هذا المثال المستسلم الحزين الذي يثير في النفس الشعور بتفاهة الحياة! أودّ أن أصرخ بهذا في وجوهكم. فماذا كنتم ستقولون؟ ستهزّون رؤوسكم بحرقة وأسى، ثم تقلبون أكفّاً مفتوحة إلى الأعلى وتعودون إلي غيبوبتكم. حكم صادر سلفًا، تحملونه كالأمانة في أعناقكم. إدانة لكل شيء حولكم، لا تعرفون حتى أنتم أنفسكم من الذي أصدرها. لو تكلّمتم مرّة لزال السحر، وعرفتم ما لكم وما ليس لكم. ولكن هذا الصمت المقدّس يقف دائمًا بينكم وبين أنفسكم. تضعون عليه رقابكم للذبح ثم تدينون العالم، أو تدينون من حولكم على الأقلّ. نحن نحبّكم! نحاول دائمًا أن نصل إليكم بدون أن نعود إلى الوراء، وأنتم تصرّون أن نحمل أمانتكم ونقف... أمانة الصمت والإدانة. لا! قولوا شيئًا! تكلّموا ذات مرّة!».
ويبدو أن ولهي الشديد لسماعهم قد تحوّل إلى حالة من الحلم فقالوا جميعًا بصوت واحد دون أن ترتفع نظراتهم أو تتحرّك شفاههم:
- أنتم جيل لا يعرف الوفاء.
قلت مستمرّاً في الحلم:
- ليس في حياتنا ما يستحقه. لقد أضعتم كلّ شيء.
- وسرايا القمر!
- بيت تسكنه الأفاعي. إن لم نهدمه سقط على رووسكم. دكّان لبيع الملابس، وأخرى لبيع العدس الذي أصبحتم تشترونه بالكيلو بعد أن كنتم تبيعونه بالقنطار، خير من سرايا القمر.
- ولكنّها سرايا القمر. ألا تفهمون!؟
- ذكريات بعضها حلو وأكثرها مُرّ، وحجارة متداعية ستسقط يومًا من تلقاء ذاتها.
- أنتم جيل لا يعرف الوفاء.
وعادوا إلى صمتهم، ولكنني حينما نظرت إليهم هذه المرّة كان جدّي يقف منتصبًا بينهم بأكفانه الجديدة البيضاء وينظر إليَّ وفي عينيه ملامة. قلت له بإحساس خفيّ بالذّنب:
- وصيّتك في جيبي. كتبتها لك بنفسي، وأحفظها عن ظهر قلب.
ظلّ واقفًا والملامة في عينيه.
- أنت الآن ميت. أليس كذلك؟
وظلّ على حاله.
- وها أنا ذاهب لأنتزع حجر «وهيبة» ليبقى على حاله كما قلت.
وأخيرًا أشحت عنه بوجهي لأتجنّب نظراته اللائمة وقلت:
- لم نستطع أن ندفنك ونهدم السرايا في يوم واحد. وما الفرق؟ سيقولون هدموا سرايا القمر بعد وفاة الحاج اسماعيل بيوم.
وفارقت غيبوبتي، وتوجّهت إلى سرايا القمر بوقفتها المتهالكة على بُعد قليل منّي. وقفت أمامها وكأنني أشاهدها لأول مرّة. أليس أولئك الشيوخ على حقّ؟ إنّها سرايا القمر! حتى أنا الذي لم أعايش منها غير هذا الهيكل المتهدّم، وغير تلك القصص التي تسكن بيوت القرية وشيوخها كالقطط الأليفة، أحسّ بحرقة من يوشك على فراق دنيا بأكملها. شعور الدفن لم يفارقني منذ البارحة، ولكنه الآن أثقل وأعمق. هذا البناء الساذج لم يعد، منذ زمن، قائمًا كما تقوم الأبنية على أسس من الحجارة والطين. لقد فقد معناه العمراني منذ كنت طفلاً، بل وقبل ذلك، ولكنه ظل قائمًا في حكايا الماضي البعيد، وفي أغاني الأعراس ومواويل النائحات، وظلّ قائمًا في العرائس اللواتي يأتين مع أترابهنّ ليلة الزفاف ليمسحن حجر «وهيبة» بالحنّاء. لا يوجد شيخ واحد في قريتنا لم يقلْ لفتاته ذات يوم: «لاقيني عند سرايا القمر!». وليس من امرأة جاوزت الخمسين ليس لها ذكرى من نوع معيّن في سرايا القمر.
العشّاق والزناة كانوا يلتقون في سرايا القمر. اللّصوص كانوا يجتمعون في ساعات الليل الأخيرة في سرايا القمر. ألتجّار القادمون بجرار وأباريق «غزّة» يحطّون في سرايا القمر. باعة عنب «الخليل» وبطيخ «المرج» مركزهم كان سرايا القمر. مجموعات «النَّوَر» المتجولة بحرفها المتنوّعة من الحدادة والرقص على الحبال وقراءة الكفّ وحتى سرقة الحمير واستبدالها، كان مقرّها الدائم حينما تمرّ بقريتنا، حول سرايا القمر.
عالم صغير، ولكنه متكامل، مركزه بيت غريب الشكل يقع على جانب الطريق التي تمرّ أمام قريتنا ممتدّة إلى الشمال والجنوب بدون نهاية محدّدة. هكذا كانت مرّة سرايا القمر، ولكنها بعد أن تمدّن العشق، وانقطع عنب الخليل، وغاب فخار غزّة، وذهب «النَّوَر» يبحثون عن الحب والطمأنينة في بلاد لم تدخلها الحرب، أصبحت مجرّد وشم قديم يشير إلى تاريخ قريتنا الذي ضاع فجأة ولغير سبب معقول. ولولا تلك الصلة الحميمة التي ظلّت تربط بين كل عرس في قريتنا وبين حجر «وهيبة»، لما وطئت قدم بعد سرايا القمر. ولو ظلّت سرايا القمر لا يتعرّض لها أحد بالهدم لاندثرت من تلقاء ذاتها دون أن يعترض أحد على ذلك، وكأنها شيخ تردّى في العجز والشيخوخة وفقد صلته بالحياة، فلم يعد يفطن إليه أحد. ولكنه مع ذلك لا يجوز قتله بأيّ حال. وهذا هو ما حدث بالضبط. ظلّت سرايا القمر إرثًا منسيًا بالنسبة لعائلتنا إلى أن بدأ «الخواجه» يتردّد على بيتنا وفي ذهنه وعلى لسانه عدّة مشاريع، تجعل من هذا الإرث المتهدّم مصدرًا للثروة كما قال. و«الخواجه» هذا لم يكن سوى واحد من أهل قريتنا حمل هذا اللقب لولعه الشديد بالمظهر العصري في ملابسه وتصرّفاته، وحتى بأفكاره. ولم يكن فيه - كما قال جدّي ذات يوم - شيء لا يكرهه الله وعباده الصالحون. ولكن أخي سالم لم يكن يكرهه كما يبدو، فقد استطاع «الخواجة» أن يقنعه بهدم سرايا القمر وإقامة بناء عصريّ مكانها يستغلّه في أمور التجارة. وحينما علم جدّي بالأمر من سالم أصيب لأوّل وهلة بالذهول، وقد أعطى لسالم الفرصة ليقول كل شيء. وحينما أفاق جدّي من ذهوله، بدأت العاصفة التي قضت على كل علاقة لسالم به حتى يوم وفاته. ولم يعد «الخواجة» إلى بيتنا، ولكن صلته بسالم لم تنقطع.
وكان جدّي يعلم تمام العلم أن هذين الأخيرين كانا ينتظران وفاته بفارغ الصبر ليقوما بمشروعهما المشترك، وكان ذلك يدفعه دفعًا نحو الانهيار كما بدا لي. وكأنما خشي أن يستغلّ سالم ضعفه المتزايد فيقوم بالعمل رغم إرادته، فدعاني إليه ذات يوم وقال:
- لستُ غبيّاً. أعرف أنّ ما يريده أخوك ذاك أوجب للقبول مما أريد، ولكن للشيخوخة ضعفها كما للشباب، ولست أطيق أن أرى سرايا القمر تُهدم أمام عينيّ.
وصمت قليلاً وكأنه يستذكر شيئًا ثم قال:
- أكتب ما أقول، وهو أمانة في عنقك أسألك عنها أمام الله يوم القيامة.
ثم عاد وأغمض عينيه يستجمع أفكاره قبل أن يقول:
- أكتب! لا أحد يقدر يهدم سرايا القمر وأنا حيّ. تهدموها يوم أموت ليقولوا مات الحاج اسماعيل يوم هدموا سرايا القمر. وحجر «وهيبة» يبقى على حاله.
وكتبت، فقال لي:
- إحفظها معك!
وحينما دفنّاه البارحة قلت لسالم:
- اليوم تهدم سرايا القمر إذا شئت.
فقال مذهولاً:
- اليوم!!
فقلت بحزم:
- اليوم أو لا تهدمها أبدًا. هذه هي وصيّته.
فقال سالم:
- لا، أهدمها اليوم حتى يعلم الجميع أنها وصيّته.
قلت:
- سأقرأها على من حضر.
فعاد يقول:
- وإذا لم أتمكّن من هدمها اليوم؟
قلت بشكل قاطع:
- اليوم! أنا المسؤول عن تنفيذ الوصيّة وستُنفَّذ بنصّها.
ولم تثمر جهود سالم و«الخواجة» في العمل على تنفيذ الوصية بنصّها. وأخيرًا جاء «الخواجة» وقال لي:
- وصيّة جدّك مقدّسة، ولكن تنفيذ أوامر السماء لا يكون إلاّ في حدود الطاقة، وخير أن ينفَّذ الهدم غدًا من أن ينفَّذ بعد شهر أو سنة.
وقلت وقد تفجّرت كلّ كراهيتي له فجأة ولغير سبب واضح سوى ذلك الحرج الذي كنت أحسّه بشأن الوصيّة:
- إنك تملك من السماجة ما يكفي لتتدخل بين الناس وموتاهم، ولكن كن على ثقة أنه لن يكون لك شأن في سرايا القمر لا قبل الهدم ولا بعده. ولن يستطيع سالم أن يعطيك ما أحرمك أنا منه.
- أنتم عائلة غريبة، تفسدون العقل بالعاطفة. رحم الله جدّك.
قلت:
- نعم. ولكننا لا نفسد حياة الآخرين بالجشع.
ومضى، وقلت أنا لسالم:
- خذ فأسًا وابدأ الهدم! حجرًا أو حجرين من أجل الوصيّة، وغدًا تكمل الجرّافات العمل.
وعلى الباب رأيت الحجر الوحيد الذي استطاع سالم انتزاعه البارحة من العتبة. كان كبيرًا مثل حجارة الطابق الأول، وبشكل يلفت النظر. وتسلّقت الواجهة بعينيّ إلى أن وصلت الطيقان الخمسة عشر في واجهة الطابق الثالث بأشكالها التي تمثّل دورة القمر من أول ظهور الهلال إلى تمام البدر... سرايا القمر!
طرفة معمارية فيها من الغرابة أكثر مما فيها من الفن. الطابق الأرضي بناء أثري خشن. حجارة ضخمة تتآخى في بدائية موحشة فتكوّن تلك القاعة المظلمة، التي لا يدخلها النور إلا من فتحة وحيدة هي الباب. ومع اتّساق الطابق الأرضي إلى الأعلى يقوم الطابق الثاني بنعومته النسبية، ونوافذه المتعدّدة ذات الزخارف المتآكلة، وبحجارته المتوسطة الحجم. النقيض الممكن من الطابق الذي يحمله وكأنه احتجاج تطبيقي على ما في الأول من غلظة وصلابة منفّرة. ومع ذلك فإن طرافة البناء لا تكتمل بدون الطابق الثالث. محاولة واضحة لمعادلة النقيضين... الحجارة الكبيرة مرّة أخرى، ولكن في تناسق ومتانة لا تخلوان من رقّة مهيبة تظهر أكثر ما تظهر في الأقواس الواسعة التي التهمت أخمص البناء. ثلاثة عصور متباعدة من فن العمارة، خالية من الثراء والميوعة، غنيّة بالتناقض وأوجه الشبة، متناسقة في اتجاهها إلى الأعلى وفي امتدادها في الجهات الأربع، ومختلفة بدون تناسق من حيث الذوق وأسلوب الحركة، تلتقي كلّها بدون أيّ أثر للصدفة لتكوّن سرايا القمر.
أمسكت الفأس من وسطها، وألقيت عليها نظرة غير واعية وكأنني أرغم نفسي على تذكّر شيء أريد أن أنساه. ثم سمعت جدّي يقول بصوته الهادئ المنفعل:
- وحجر «وهيبة» يبقى على حاله.
وتملّكني تهيّب غريب، استعنت عليه بالسخرية من نفسي، ثم دخلت إلى عتمة الطابق الأرضي. وانتظرت قليلاً حتى تتوضّح الرؤية أمام عينيّ، ثم تقدّمت من حجر «وهيبة». كان يبدو ثابتًا متماسكًا في الواجهة الغربية. لعلّها لمسات الحنّاء الرقيقة أو أنفاس الفتيات في ليلة عرسهنّ حيث يبدو الكون كلّه في لحظة بناء كلّيّ، أو لعلّها تلك اللمسة الشعرية الساذجة التي تسرّبت من حجر «وهيبة» إلى النفس البدوية التي كنت أخفيها تحت مظهر المتفلسف. مسحت عليه بيدي، وكنت قد استعدت تمام الرؤية فظهرت الكتابة عليه عميقة نحيلة كحدّ السكّين: (هنا خرجت الأفعى التي لدغت «وهيبة»). وقلت في نفسي منساقًا مع الوهم الحنون: مرحبا «وهيبة»!
قالوا دائمًآ: أتدري حينما يبذر الفلاّح حقله بالحَبّ، أو حينما يغرسه بأشتال الزيتون أو اللوز أو المشمش! يضع قلبه في يده مع كلّ رمية بذار، وفي رؤوس أصابعه مع كلّ شتلة يسوّي على جذورها التراب، لا يختصّ حبّة أو غرسة دون أخواتها بشيء من العناية أو الحب، ومع ذلك حينما يستوي الزرع أو حينما تنهض الخضرة والثمر في الأشجار، فلا بدّ من تلك السنبلة التي لا مثيل لها في العافية ما بين السنابل، ولا بدّ من تلك الشجرة التي تتجاوز حتى حدود الأمل فتقف بين أترابها كملكة النحل بين العاملات... تلك كانت «وهيبة».
«أنظر إلى فتيات قريتنا اليوم! فيهنّ من تسحر حتى لبّنا نحن الشيوخ، ولكن إياك أن تظنّ أن واحدة منهن تشبه «وهيبة» مجرّد شبه! «وهيبة» كانت صدفة، سنبلة في طول قامة الحصاد. تقول الحكاية أن من صادفها كانت له ثلاث أمنيات محقّقات.
واحدة منّا. قريبة لنا جميعًا. مات أبوها قبل أن تولد هي وقبل أن يولد بعضنا. ربينا معها، فشاهدناها تتنقّل في فصول الفتنة إلى أن اكتملت.. وأية فتنة كانت تلك يا ولدي!».
وقالوا أيضًا: لم يعد في قريتنا أعزب ولا متزوّج لا يحلم بـ«وهيبة».. وجاء علينا يوم فإذا شباب قريتنا كلّهم يطلبون يدها. ثم جاء يوم فإذا هم أعداء، وإذا القرية كلّها تتمزّق بينهم، ولم يبق سوى أن يسيل الدم.
واجتمع الشيوخ في بيت جدّك. أمرونا نحن الشباب بالخروج وظلّوا يتشاورون ليلة بأكملها. ولا تصدّق أن أحدًا يدري ما حدث بالضبط أو أن أحدًا يدري من كان صاحب ذلك الرأي المشؤوم. يقال، ولا تؤاخذني، إنه جدّك... ولكن هذا لا يهمّ. المهم أنهم حكموا على «وهيبة» بالموت، وعلينا وعليهم بالندم.
- بالموت!!
- قالوا لا بدّ من دفع الشرّ، وإلا ذهبت القرية مع الريح. وحكموا أن لا تتزوّج «وهيبة» في القرية، وأن يزوّجوها لأول غريب يأتي لطلب يدها.
- أيّة قسوة هذه!
- لا يغرّنّك، يا ولدي، طيبة أهل بلدنا. إن لهم قلوبًا كالحجر ساعة يحكمون على الضعفاء. ولو رأيت أم «وهيبة» وهي تتوسّل، ثم وهي تقاتل، ثم وهي ترفع يديها إلى السماء، لظننت أنه لم يبق في الأرض رحمة. قالت لهم:
- ما ذنبي وذنب ابنتي؟!
قالوا:
- وما ذنبنا نحن! أيكون خراب قريتنا على يدي ابنتك؟
قالت:
- ولماذا لا تقولون على أيدي أبنائكم؟
قالوا:
- وماذا نفعل بأبنائنا؟
قالت:
- دعوها تختار من تشاء.
قالوا:
- لا. تبقى الحزازات رغم كلّ شيء، ولا يقال عنّا أننا نشاور بناتنا في زواجهنّ.
- دعوها لي، ولن أزوّجها لأحد.
- ونبقى على حالنا!؟
- لن تتزوج ابنتي غريبًا ولو متّ وماتت.
- خذيها إذن وارحلي عنّا.
- ترمون لحمكم للكلاب؟
- ولا ننهش لحم بعضنا كالكلاب.
ولو رأيت «وهيبة» وهي تدخل مجلس الرجال باكية وتقول:
- زوّجوني لشيخ عاجز منكم أخدمه ولا تحرموني تراب قريتي!
ولكن، يا ولدي، لا تصدّق أن ما حدث كان إرادة الناس. كان شيئًا أراده الله لأن هذه القرية ملعونة. ملعونة حقًا! ويقال أن نبيًا قُتل على ترابها قبل أن تعمر بألفي سنة. قالوا: ولم يطل الأمر. جاء ذلك الغريب وطلب يدها منهم، فقالوا زوّجناك على بركة الله. وفي ليلة العقد بحثوا عن «وهيبة» فلم يجدوها. ضربوا أمّها ضربًا لا تتحمّله بهيمة. وفتّشوا عنها في كل بيت وفي كل خرابة في القرية فلم يجدوها. وأخيرًا قالوا:
- فضحتنا «وهيبة» وهربت مع أحد الشباب. احصوا أبناءَكم!
وافتقدوا أبناءهم فما غاب منهم أحد. قالوا:
- فضحتنا وهربت مع غريب. اقتلوا أمّها!
وقالت امرأة من بينهم:
- هل فتّشتم في سرايا القمر؟
قالوا:
- لا. أنسانا إياها الشيطان. فتّشوا هناك!
ووجدوها زرقاء ميتة قرب الباب، وأثر نابي الأفعى في رقبتها، وبين الناب والناب مسافة بطول الآه.. ووجدوا فردة من حذائها وثقبَ الأفعى تحت الحجر الذي يسمّى اليوم باسمها. زحفت من هناك بعد أن لدغتها الأفعى، كما بان من أثرها على الأرض، ولكنها لم تبلغ إلاّ الباب.. وحاولوا الوصول إلى الأفعى فلم يقدروا.
جلست أمّها في المكان ذاته وقالت:
- لا أقوم من هنا حتى تلدغني الأفعى التي لدغت «وهيبة» فأموت ميتتها.
ولكن الأفعى لم تخرج. وبقيت أم «وهيبة» هناك ثلاثة أيام بلياليها استقرّت بعدها الأفعى في رأسها فهامت على وجهها، ولم يعرف أحد من أمرها شيئًا بعد.
وزُفّت «وهيبة» إلى القبر زفافًا حقيقيًا. سرنا نحن الشباب أمام النعش حُفاة وبرؤوس مكشوفة. ولم تبق امرأة لم تزغرد في عرس «وهيبة». وسقط الندم على قريتنا. طلينا قبرها بالحنّاء. نقشنا مِيتتها في الحجر. لم تُزفّ عروس إلى عريس سنة كاملة. وأخذت كل عروس الإذن منها قبل أن تضع الحنّاء في يديها. ولكن عبثًا!
الليالي أصبحت أطول وأعتم. وشكت النساء إلى بعضهن برود الأزواج، والرجال إلى بعضهم برود الزوجات. وفي نفس السنة تساوى في قريتنا عدد من ماتوا مع عدد من وُلدوا. وأصيبت إناث البهائم بالعقم، ومات ثلث الغنم أو أكثر، وغلّت الحقول غلّة وافرة ولكنها خُسفت على البيادر فلم تُعط نصف محصول سنة عادية. وفي الربيع نبتت كل الزهور ولكن زهرة الأقحوان، وأكثر عشب قريتنا منها، ذبلت قبل أوانها. وفقد جدّك أباك بعد شهر واحد من موت «وهيبة».
- هل كانت «وهيبة» تحبّ أحدًا من شباب القرية؟
- . . . . . . .
- ألا تريد أن تقول؟
- ماذا أقول! ماتت «وهيبة» وكل واحد منا يعرف أنها تحبّه أكثر من الآخرين.
كان حجر «وهيبة» الآن ملقى أمامي، بعد أن انفصل عن بقية البناء. ألقيت بالفأس إلى الأرض ثم مسحت العرق عن جبيني بظاهر يدي، وتنفست الصعداء.
وأقبلت عليهم بحملي الثقيل، فأطلّت وجوههم بحذر في بادئ الأمر، ثم ما لبثوا أن تصاعدت قاماتهم في الهواء ببطء، وقاموا من أماكنهم كما يقومون ساعة الدفن.
وضعت الحجر بينهم وقلت:
- هذا ما لكم في سرايا القمر. خذوه!
أقبلوا على الحجر يتحسّسونه بأعينهم وكأنهم نسوني، ولكنهم سرعان ما رفعوا أبصارهم إليّ. قلت مجيبًا:
- أنصبوه في جدار المقبرة حيث خرجت الأفعى.
رقصت أجفانهم في الح
يرة ثم استقرّوا بأبصارهم على سرايا القمر.
هززت رأسي قائلاً:
- لا. هناك مأوى الأفاعي فقط!
أدرت ظهري وصرخت، فرفع سائق الجرّافة يده متسائلاً، فلم أستطع الكلام. رفعت أنا أيضًا يدي وهويت بها باتجاه سرايا القمر.
(نُشرت في مجلة «الجديد»، حيفا، العدد 8، 1980
ومجلة "الآداب" ، بيروت، عدد 51، تموز وآب 2003)