خطبة الرجل الغامض
قالَ الحَيَسانُ: أما مِنْ بَحْرٍ تَغْرُبُ فيهِ السُّفُنُ فَتُرْسِلَهُ فيهْ!
لَقَدْ أفْسَدَ كُلَّ طُقوسِ الطاعَةِ، بِالأسْماءِ، وَكَذَّبَ أفْراحَ العُرْسِ فَغادَرَهُ الأَطْفالْ.
هَشَّمَ كُلَّ زُجاجِ نَوافِذِنا.
- هاتُوهُ!
أتَبْكي أرْضًا تَقِفُ عَلَيْها وَسَماءً تَبْقى بَعْدَكْ!!
ماذا يَنْفَعُ قَدَمًا أَكْثَرُ مِنْ مَوْطِئِها؟
هَلْ تَحْمِلُ في جَسَدِكَ غَيْرَ الجوعِ وَغَيْرَ العَطَشِ فَنُعْطيكْ؟
- أحْمِلُ حُبّاً!
- وَالنَّمْلَةُ تَحْمِلُ حُبّاً!!
- لا بَأسَ، فَلِلشَّيْءِ حِكايَتُهُ.
أصْغَرُ جَذْرٍ في الأرْضِ إذا اخْتَلَجَ يَزيدُ كِتابَ العالَمِ حَرْفًا.
- مَنْ عَلَّمَكَ الحُبّ؟
- مَنْ يَذْكُرُ لَثْغَتَهُ؟
جاءَ العُشْبُ البَرِّيّ، وَحَيْفا، والغُمِّيضَةُ قَبْلي.
- وَالعالَمُ قَبْلَكْ!
- كَذّابٌ مَنْ أخْبَرَكُمْ!
لَمْ أسْمَعْ بِالعالَمِ إلاّ حينَ دَخَلْتُ المَدْرَسَةَ، فَقالوا: خَلَقَ اللّهُ العالَمَ في سِتَّةِ أيّامٍ فَظَنَنْتُ العالَمَ أصْغَرَ مِنْ وادي النِّسْناسِ وَأشْفَقْتُ عَلَيْهْ.
- ألآنَ سَمِعْتْ!
فَلْيَخْرُجْ مِنْكَ مُجونُ الأسْماءِ، وَلا تَذْكُرْ غَيْرَ اسْمِكَ بَعْدْ!
- بَلْ يَخْرُجُ مِنْكُمْ كَهَنوتُ الذَّبْحْ...
ألأوَّلُ وَالثّاني وَالثّالِثْ.
يَخْرُجُ مِنْكُمْ مَلَكوتُ القَفْرِ، وَحُلُمُ القُرْصانِ، وَنَسْتَرْجِعُ قَمْحَ العالَمْ.
- لِصٌّ!
- قَوّادونَ، قَراصِنَةٌ، قَبْلَ الميلادِ، وَعِنْدَ الميلادِ، وَبَعْدَ الميلادْ.
سَأبْصُقُ كُلَّ دَمي فيكُمْ.
- إجْلِدْ، يَهْجُرْهُ الحُلُمُ، وَتَخْرُجْ مِنْهُ الأسْماءْ.
- تَظَلُّ!...
لَها ثِقَلُ الأشْياءِ وَجَسَدُ العِطْرِ الضّائِعْ.
- نَكْتُبُ أسْماءَ الألَمِ جَميعًا في لَحْمِكَ إنْ عُدْتَ إلى الأسْماءْ.
- حَيْفا، عَكّا، يافا، كَنْعانُ، البَعْلُ، وَعَشْتاروتُ، الرُّمّانُ، التّينُ، الزَّيْتونُ، الزَّعْتَرُ، زِنْدُ العَبْدِ، وَصابونُ الرّاعي.
- إجْلِدْ. إجْلِدْ. إجْلِدْ.
- جِلْجاميشُ، حَمورابي، عَبْدُ النّاصِرِ، وَكِتابُ المَوْتى!
- إجْلِدْ؛ تُبْرِقُ فيهِ الضَّرَباتُ عَويلاً يُنْسيهِ الأسْماءْ.
- تَحْتَدُّ الأسْماءُ عَلى الضَّرَباتِ كَما يَحْتَدُّ الجَسَدُ الحَيّ.
أغْبى الأشْياءِ السَّوْطْ!
مَنْ عَلَّقَ حَيْفا جَرَسًا في الذّاكِرَةِ أيَنْسى!
إجْلِدْ، تَقْرَعْ كُلُّ الأجْراسِ وَتَحْتَشِدُ عَلى عَيْنَيَّ المُدُنُ، هُنا القُدْسْ!
- إجْلِدْ!
- وَهُنا حَيْفا!
- إجْلِدْ!
- مَهْلاً!
ضَمَّ الرَّجُلُ أصابِعَهُ كَالوَرْدَةِ، وَانْتَشَرَتْ في الوَجْهِ السِّرِّيِّ مَسافاتُ الحِكْمَةِ، وَالرّاياتُ الغامِضَةُ، وَقالَ بِصَوْتٍ يَتَمَوَّجُ كَالأُحْبولَة:
صَنَعْتُ عَلى عَيْنَيْكَ صَليبي، وَخَرَجْتُ إلى النّاسِ بِأثَرٍ مِنْ سَوْطِكَ، تُعْلِنُ فِيَّ الجَلْدَ، وَأعْلِنُ فيكَ الشَّتْمَ، لِتَفْتَتِنَ الدَّهْماءُ بِنا.
وَخَلَعْتُ عَلى النّاسِ حِكاياتِ الجُوعِ فَناموا في اللَّيْلِ يَمُصّونَ أصابِعَهُمْ، وَالعاشِقُ نَسِيَ العُرْسَ مِنَ الخَوْفِ وَصَبَّ الطِّيبَ عَلى قَدَمَيكَ وَنامْ.
عَبَّأتُ الرِّيحَ بِصَوْتي، فَتَحَطَّمَتِ النّاياتُ المَسْمومَةُ، وَشَطَبْتُ دُروبَ الغَفْلَةِ، فَارْتاحَتْ أَبْوابُكَ في اللَّيْلِ، وَأخْلَيْتُ لَكَ الدَّرْبَ إلى النِّيّاتِ المُقْفَلَةِ لَتَنْظُرَ مِنْ ثُقْبِ المِفْتاحْ.
عَلَّمْتُ المِرْآةَ بِأَنْ تَكْذِبَ، وَالأيّامَ بِأنْ تَسْتُرَ عَوْرَتَها.
وَصَنَعْتُ دُوارَ البَرِّ فَشاعَ التَّخْريفُ وَفُقْدانُ الذّاكِرَةِ، وَوُلِدَ
النّاسُ عَلى مائِدَةِ الفَقْرِ بِأسْنانٍ تالِفَةً، لَمْ يَسْألْ أحَدٌ: كَيْفَ؟ وَلا مَنْ عَلَّمَهُ لُغَةَ الغُرَباءْ!
سَمَّيْتُكَ مُضْطَهِدًا حَتّى لا تُتَّهَمَ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَشَتَمْتُكَ لِأُسَمِّيكَ، فَتَأْلَفُكَ الأسْماعُ، وَتُصْبِحَ عَيْبًا دُسْتورِيّاً.
حَوَّلْتُ الفَلّاحينَ نَقابَةَ عُمّالْ.
لَمْ يَسْألْ أحَدٌ عَنْ كَفَّيْهِ تَشَقَّقَتا كَيْفَ، وَلا عَنْ قَدَمَيْهِ لِماذا تَلْتَبِسانِ عَلَيْهِ إذا سارَ عَلى الطِّينِ، وَما سِرُّ الشَّبَهِ الواضِحِ بَيْنَ النّاسِ وَبَيْنَ الشَّجَرِ المَقْطوعْ؟
هَلْ تَأتيني بِصَليبٍ يَحْمِلُ رَجُلاً مِنْهُمْ، يُشْبِهُ جِذْعَ الزَّيْتونِ، يُذَكِّرُهُمْ أنَّ الدَّمَ يَسْوَدُّ إذا جَفَّ، وَذاكَ صَليبي لَمْ يَسْوَدَّ عَلَيْهِ اللَّوْنُ، فَيَنْفَضّونَ إلَيْهِ، وَيَقْرَأُ كُلٌّ صُورَتَهُ في الضَّوْءِ الخافِتِ في عَيْنَيْهْ!
سَيُذَكِّرُهُمْ بِالأسْماءِ إذا نَظَروا في عَيْنَيْهِ، لِأنَّ الطِّينَ هُوَ الطِّينُ، وَلِلأرْضِ مَلامِحُ في النّاسِ وَفي الشَّجَرِ، فَذاكَ جَليلِيٌّ: شَيْءٌ يَشْمَخُ في جَبْهَتِهِ كَالجَبَلِ، وَذلِكَ تَتَــرَقْرَقُ فيهِ الأرْضُ كَحَقْلِ الحِنْطَةِ في المَرْجِ، وَذلِكَ يَهْفو وَيَهيمُ كَوَرَقِ الحَوْرِ، لِأنَّ السّاحِلَ عَلَّمَهُ المَوْجْ.
فَلا تَقْتُلْهُ يَكونُ صَليبٌ آخَرَ، وَيَقومُ يُبَشِّرُ بِالذّاكِرَةِ المَفْقودَةِ بَيْنَ النّاسْ.
أَرْسِلْهُ مَعَ الصَّمْتِ إلى بَلَدٍ لا يَنْفُذُ مِنْهُ الصَّوْتُ، يَجِفُّ كَقَطْرَةِ ماءٍ، ذلِكَ جَذْرٌ فاشِسْتِيٌّ أعْرِفُهُ.
لا يَنْبُتُ إلاّ في الطّينِ الوَطَنِيِّ، وَلا يُؤْمِنُ بِالأُمَمِيَّةِ إلاّ بِشُروطٍ مُسْبَقَةٍ، وَيَظُنُّ بِأنَّ العالَمَ لا يَحْيا إنْ قُطِعَتْ إصْبَعُهُ الخِنْصَرْ.
ذلِكَ جَذْرٌ فاشِسْتِيٌّ أعْرِفُهُ!
سَيُقاتِلُ مِنْ أجْلِ الأحْلامِ، وَيَبْصُقُ في وَجْهِ العالَمِ إنْ سَخِرَ العالَمُ مِنْهُ، وَلا يَفْهَمُ مِنْ أسْرارِ الحَرْبِ سِوى التَّضْحِيَةِ، وَيُؤْمِنُ بِالحُبّ.
أُتْرُكْهُ لِجَلّاديهِ، سَيُنْكِرُهُ حَتّى الأهْلُ، وَلَنْ تَقْتُلَهُ إلاّ الدَّهْشَةُ، ذلِكَ جَذْرٌ فاشِسْتِيٌّ أعْرِفُهُ!
شُـــروح
(١) ألْحَيَسان:
وَضَعَتِ امْرَأةٌ طِفْلَها في حِذاءِ السَّيِّدْ.
كَبُرَ الطِّفْلُ وَصارْ،
سَيِّدًا وَماسِحَ أحْذِيَة.
(٢) عَكّا:
عَــكّـــا! صَـــباحَ الحُبِّ يا وَطَني!
كانَ الفِـــراقُ، وَمُنْذُ لَمْ أَكُنِ
كَــــيْفَ العِــناقُ وَلَيْسَ يَجْمَــــعُنا
إلاّ صُراخُ الرُّوحِ في البَدَنِ
آتيـــكِ خُــطُـــواتي عَلى زَمَـــنٍ
يَمْضي، وَوَجْهي لَيْسَ في الزَّمَنِ
تَـــبـْـــدينَ مِثْـــلي، بَيـــْنَ مَــيِّتــَــةٍ
وَقَوِيَّةٍ كَالسِّحْرِ في الوَثَنِ
راجَعْتُ وَجْهَكِ لا أرَى حَجَرًا
إلاّ وَأنْسـاني وَذَكَّـرَني
لَوْ كُنْتِ مِثْلَ «السَّــلْطِ» جــارِيَةً
لَمْ يَطَّــلِعْ أحَــدٌ عَلى شَــجَني
أَوْ كُنْتِ بَعْدَ البَحْرِ قُلْتُ: طَوى
عَــكّــا حَنيـــنُ البـــحْرِ لِلْــمُـــدُنِ
لـــكِنْ وَأنْـــتِ الـعَـــرْشُ تَــنْـــقُـــلُهُ
عَــشْــــتارُ مِــنْ زَمـَــــنٍ إلى زَمـَــــنِ
سُــــبْحانَ هــذا الوجْـــهِ مِــنْ تَــــعَــــبٍ
سُـــبْحانَ هـــذا السُّــــورِ مِــنْ وَهَــــنِ
أَثْـــقَـــلْتِـني عِــشْــــقًا وَأثْـــقَــلَني
عَــجْــزٌ مِــنَ الصَّــــحْــراءِ في بَـــدَنــي
أَرْتَـــدُّ عَـــنْ شَـــفَـتَـيْكِ مُـنْـخَـذِلاً
وَيُــنَـــــقِّــلــونَ العِــشْـــقَ فــي السُّـــفُــنِ
لَـــوْ بِالـهَـــوى! لـكِـــنَّــهُ زَمـَــــنٌ
مَـنْ لَمْ يَــكُنْ بِالسَّــيْفِ لَمْ يَــكُـنِ
لَــوْ بِالهَـــوى! خَلَّيْتُ كُلَّ يَدٍ
غُــصْـــنًا، وَعُــشَّ حَـــــمامَــةٍ وَطَـــني
(٣) الزَّعْتَر:
طِيبٌ يُعْجَنُ بِالدَّمْعِ، حَزينُ الرّائِحَةِ، إذا جاءَ اللَّيْلُ تَسَلَّلَ مِنْهُ عَبيرٌ كَالـظِّلِّ، فَحَطَّ عَلى أبْراجِ الدَّبّاباتِ، وَعِنْدَ بُزوغِ الفَجْرِ يَصيرُ غُبارًا أسْوَدْ.
(٤) عبد النّاصر:
حِينَ انْطَفَأَ فَنارُ السّاحِلِ وَجَدَتْ سُفُنُ القُرْصانِ شَواطِئَها.
وَجَدَ الخَفّاشُ جَناحَيْهِ، وَصارَ المَوْتى حُلُمَ الأحْياءِ، وَسَقَطَتْ مِصْرْ.
(آهِ، لَمْ تَحْفَظْ مِنَ الشَّمْسِ سِوى الحَرِّ
وَمِنْ فارِسِها غَيْرَ السُّعالْ
لَمْ يَكَدْ يَمْضي!
فَمَنْ أعْطاكِ هذا القُبْحَ وَالوَجْهَ المُحالْ
آهِ، ما اشْتَقْنا إلى البَسْمَةِ وَالعَيْنَيْنْ
وَاشْتَقْنا لِتَأميمِ القَنالْ.)
مَنْ قالَ بِأنَّكَ تَرْجِعُ حَتّى نَعْشَقَ كُلَّ طَويلِ القامَةِ تَبْتَسِمُ السُّمْرَةُ فِيهِ، وَعَيْناهُ كَحُلُمِ الفُقَراءِ مُسَيَّجَتانِ بِقَمْحْ؟
لَوْ كُنّا نَعْرِفُ سِرَّكَ ما انْطَفَأَ اللُّؤْلُؤُ بَيْنَ أصابِعِنا.
(آهِ، يا أرْضَ جَنوبِ العِشْق...
مَنْ أعْطى الظِّلالْ
نَكْهَةَ الحُلُمِ...
وَأعْطى الخُبْزَ طَعْمَ البُرْتُقالْ؟)
كُنّا حينَ دَفَنّاكَ، أقَمْنا كَهَنوتَكَ في الفُقَراءِ، بَنَيْنا في الأطْفالِ كَنيسَتَكَ، كَتَبْنا أعْداءَكَ في اللَّعَناتِ وَقَسَمِ الهَجْرْ.
(هُوَ لَمْ يَأْتِ مِنَ الأحْبارِ
لَمْ يَأْتِ مِنَ التُّجّارِ
لَمْ يَأْتِ مِنَ البَيْتِ الكَبيرْ.
كانَ أطْيَبْ!
جاءَ مِنْ رَحْمِ السُّلالاتِ الَّتي تَحْيا لِتَتْعَبْ.
مِنْ رِجالٍ رَفَضوا حَمّلَ النُّبُوّاتِ لِيَبْقَوْا فُقَراءْ.
عَلَّمَ الأطْفالَ أنَّ الخُبْزَ لا يَمْشي إلى بَيْتِ الفَقيرْ.
عَلَّمَ الأطْفالَ أنَّ الحُبَّ إنْسانٌ وَدارْ،
فارِسٌ يَتْعَبُ في الحَقْلِ وَيَغْوي في السَّريرْ.
عَلَّمَ الأطْفالَ أنَّ الوَقْتَ في النّاسِ نَهارْ
وَعَلى الأبْوابِ، لَيْلْ.)
حينَ أتَيْتَ اقْتَحَمَ الشَّمْعُ أصابِعَنا.
وَرَأيْنا العالَمَ، فَاخْتَلَطَ بِحُلُمِ الصَّحْراءِ المُزْمِنِ وَظِلالِ الإبِلِ الوَحْشِيَّةِ فَحَسِبْناكَ أميرًا سُنِّيّاً.
وَصَرَخْنا: ابْنِ لَنا مَمْلَكَةَ الخُبْزِ وَما قُلْنا: ابْنِ لَنا مَمْلَكَةَ القَمْحِ، فَسِرْتَ عَلى الأرْضِ لِوَحْدِكْ.
كُنْتَ تَموتُ مِنَ الحُزْنِ لِأنَّ الفُقَراءَ أحَبُّوكَ لِذاتِكْ.
وَاكْتَشَفَ مُلوكُ العالَمِ سِرَّكَ فَاقْتَسَموا مَوْتَكَ بِالسّاعاتِ وَكانَتْ حِصَّةُ مَلِكِ الثُّوّارِ التَّعْذيبْ.
أَوَما عَرَفَ الأبْلَهُ أنَّكَ قاتِلُهُ يَوْمَ تَموتْ؟!
(ماتَ لَمْ يَأخُذْ سِوَى قامَتِهِ...
وَالوَسامَة.
ماتَ لَمْ يَأخُذْ مَعاهُ النِّيلَ...
أوْ ذاكِرَةَ الأطْفالِ...
لَمْ يَأْخُذْ مَعاهُ السَّدَّ.. أوْ كَهْرَبَةَ الرِّيف.. وَلا التَّأْميمْ
لَمْ يَأخُذْ سِوى قامَتِهِ...
وَالوَسامَة.)
أَتُراكَ بَدَأْتَ القِصَّةَ مِنْ آخِرِها؟
لا أدْري!
كانَ زَمانُكَ أجْمَلَ مِنّا، خُبْزُكَ أطْيَبُ مِنْ كَعْكِ العيدِ، وَمَوْتُكَ أَذانَ المَغْرِبْ.
(أَبْعِدوا عَنْهُ الرِّثاءْ!
فَإذا جاءَ أوانُ الشِّعْرِ لا تَنْتَظِروا
وَاغْمِسوا أعْيُنَكُمْ في الطِّينِ حَتّى تُبْصِروهْ
في ابْتِهاجِ الأرْضِ بِالقُطْنِ وَأعْوادِ الذُّرَة.
سَوْفَ يَأتي!)
(٥) ألقُدْس:
أجمَلُ مُدُنِ الكَنْعانِيّينَ، غَزاها مِلِكُ مُلوكِ البدْوِ عَلى قَدَمَيْهِ، وَمِنْ فَوْقِ ظُهورِ الأنْعامِ، ثَلاثًا.
أزالَ بِكارَتَها بِقُرونِ الأَيْلِ، وَأسْلَمَها لَبَنيهِ مُعاوَرَةً، حَتّى أثْقَلَها العِشْقُ وَشاعَ بِوَجْنَتِها التَّقْبيلْ.
وَاقْتَسَمَ الإخْوَةُ عِصْمَتَها، خَبَّأ كُلٌّ مِنْهُمْ فيها قِصَّةَ عِشْقٍ ماكِرَةٍ، وَأقامَ عَلَيْها حَجَرًا، وَمَضىنَحْوَ السّاحِلِ يَتَعَشَّقُ سُفُنَ الصَّيّادينْ.
مَوَّهَ أنْسابَ الأُمَمِ وَأرْغِفَةَ الخُبْزِ، اخْتَرَعَ الصّاغَةَ وَالسَّمّانينَ، أباحَ الأوْبِئَةَ لِكُلِّ النّاسِ، اخْتَصَّ البَزّازينَ بِلَحْمِ الفَخْذَيْنِ لِتَثْبُتَ خِصْيَةُ مَلِكِ مُلوكِ البَدْوِ عَلى بابِ الدُّكّانِ، وَأقْفَلَ أبْوابَ الأيّامِ بِوَجْهِ الزَّمَنِ المُبْصِرْ.
فصلٌ في التّعريفِ بالرَّجُلِ الغامِض:
قال لصاحبه وهو يحاوره: إذا كنّا لا نملك أن نتّفق، فإنّنا نملك أن نتفاهم.
قال له صاحبه: يغنيني عن ذلك أمران؛ أنّ ولاءك لغيري وأنّني قادر عليك.
قال: يعوّضك عن الولاء حسن الخدمة. أمّا قدرتك عليّ فهي أمان لك من غدري وزيادة في انتفاعك بي، وما انتفع القويّ إلاّ بضعف غيره.
قال: فما انتفاعي بضعيفٍ لا يُحمَدُ ولاؤه؟
قال: أسألك! لو أردتَ أن تُضمرَ خبيئة لك فأين تجعلها؟
قال: في المكان الذي أقدّر أنّه لا يُفطَن إليه.
قال: هذه واحدة! وهي لي فيما تعلم، ولكنّني أسألك أخرى: إذا أردت أن تجعل لك عينًا على أحدٍ فأين تطلبها؟
قال: في خاصّته والمقرّبين إليه.
قال: وهذه ثانية، وهي لي أيضًا، فأنت تعلم تقرُّبي إلى المغبونِ والسّاخط والمتشكّي، وكلّهم صاحبُ ظِنَّة.
قال: فما انتفاعك أنت بذلك؟
قال: أفرّ من سخطك إلى رضاك، وأمرّ من زمانك إلى زماني.
قال: أَحْسِنِ الخدمةَ إذنْ!
قال: آخِرُ الأشياءِ الحمْدْ.