العرَّاب الأشيب
قالَ العَرّابُ الأَشْيَبُ: هَلْ تَسْمَعُ؟
قُلْتُ: نِساءً يَبْكِينَ...
- ألَسْتَ تَرى؟
- بَحْرًا يَفْصِلُني عَنْها، وَمَراكِبَ فيها ناسٌ أعْرِفُهُمْ، تَمْتَدُّ يَدُ الماءِ إلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِ حِبالِ الأشْرِعَةِ، وَتَقْطِفُهُمْ كَالثَّمَرِ النّاضِجِ، وَتَظَلُّ المَركِبُ سالِـمَةً وَالتّاجِرْ.
قُلْ لي يا عَرّابُ! أيَعْرِفُنا المَوْجُ كَما تَعْرِفُنا السِّكّينْ؟
أمْ أنَّ المَرْكِبَ شَبَحٌ؟
- كَلِماتُكَ أبْوابٌ مُظْلِمَةٌ وَمَآتِمُ، عَيْناكَ عَلى فاجِعَةٍ لَسْتُ أَراها.
إنَّ الثَّوْرَةَ دَرْبٌ يَحْلُمُ بِالشَّمْسْ.
- آهٍ يا عَرّابُ لَوَ انَّ الشَّمْسَ تُبَدِّدُ كَلِماتي.
لَوْ أنَّ الثَّوْرَةَ تَمْحوني وَتَعيشْ.
هَلْ تَبْحَثُ أحْيانًا عَنْ لِحْيَتِكَ الشَّهْباءِ، وَهَلْ تَنْسى اسْمَكَ يا عَرّابُ فَأنْسى مَوْتي؟
سَأُحَدِّثُكَ عَنِ المَوْتِ قَليلاً...:
كَانَ كَرَجُلٍ عادِيِّ في لُبْنانَ لَهُ عُنْوانٌ تَــتَشابَهُ فيهِ الكَلِماتُ كَما تَــتَشابَهُ حَبّاتُ البَرَدِ، وَكانَ يَدُقُّ الأبْوابَ وَلا يَفْتَحُها.
قَـدَماهُ تَسلانِ عَلى الدَّرْبِ كَنَهْرٍ، عَيْناهُ كَنابَيْ أفْـعَى. وَلَهُ قُبَّعَةٌ.
كانَ بِهِ شَيْءٌ تَعْرِفُهُ الجِرْذانُ فَتَـتْبَعُهُ، وَالدُّورُ فَتَرْتَعِدُ...
يُصابُ بِبَرْدِ الشّامِ إذا هَبَطَ اللَّيْلُ فَيُرْسِلُ يَدَهُ عَبْرَ الشُّرْفَةِ كَالمِدْخَنَةِ إلى الأكْواخِ الخائِفَةِ وَيَسْتَلُّ مَناديلَ الوَرَقِ النّاعِمَةِ مِنَ النَّوْمِ، وَأثَرُ الأحْلامِ عَلَيْها أَبْيَضَ كَحَليبِ الأُمّ.
لَمْ ألْمَسْ يَدَهُ في اليَقْظَةِ لكِنّي أعْرِفُهُ الآنَ كَما أعْرِفُ وَجْهَكْ.
- عَفْوًا سَيِّدَتي!
هذا الرَّجُلُ مَريضٌ بِالوَهْمِ، يَرى مِنْ نافِذَةٍ في نْيويُورْكَ جِبالَ الألْبِ، وَيَشْهَدُ ما يَجْري في لُبْنانَ، كَأنَّ الحَرْبَ عَلى الطّاوِلَةِ، وَلا يَخْرُجُ مِنْ أفْلامِ الرُّعْبِ، وَيَحْسَبُ أنَّ العالَمَ يَتآمَرُ ضِدَّهْ!
- عَفْوًا سَيِّدَتي!
هذا الشَّيْءُ المَلَكِيُّ سَفيرٌ لِلفُقَراءِ وَلِلثَّوْرَةِ، يَفْقِدُ بَيْنَ الرَّقْصَةِ وَالرَّقْصَةِ جيلاً، وَيَخيطُ بِقَدَمَيْهِ رُخامَ الباحَةِ كَالشُّبّانِ، وَلكنَّ القَتْلَ بِتَلِّ الزَّعْتَرِ أسْرَعُ مِنْ قَدَمَيْهْ.
يَمْلِكُ مَتْجَرَ أحْذِيَةٍ يَتَجَوَّلُ مَعَهُ كَاسْمِ أبيهْ.
يَـكْسو وِرْكَيْ عاهِرَةٍ مَدْرَسَـةً وَالبَصْمَةُ تَبْحَثُ عَـنْـهُ لِتَقْتُلَهُ...
هذا الرَّجُلُ الذّابِلُ كَدِمَشْقَ يُقَلِّدُ سُفَراءَ الدُّوَلِ النَّفْطِيَّةِ لا يَظْهَرُ إلاّ مَعَهُ بِتْروامْرَأةٍ تُخْفي عِنَّتَهُ...
عَفْوًا سَيِّدَتي!
حينَ نَثورُ نَسُبُّ الدِّينَ أوِ المَرْأةَ إنَّ نَبِيّاً وَامْرَأةً قَتَلا شَعْبي.
- أُتْرُكْنا بَعْدْ!
لَنْ يُعْلِنَ سِكِّيرٌ ما تُخْفي الثَّوْرَةُ، أوْ أُلْقِيكَ إلى أيْدٍ تَحْمِلُ مَوْتَكْ.
- أُرقُصْ، أُرْقُصْ!
دَعْني أحْزِرُ ما تُخْفي الثَّوْرَةُ في امْرَأةٍ، ماذا... ماذا... قُلْ لي أَيْنَ تُخَبِّئُ فاتوراتِكَ يا مَلْعونْ؟!!
- مَجْنونٌ!
- وَمِلَفّاتِكَ، وَالتَّسْجيلاتِ السِّرّيَّةِ، وَطَوابِعَكَ وَمَخْطوطَ «حِمارِ الوَحْشِ» وَشَجَراتِ الأُسَرِ الثَّوْرِيَّـة؟
- مَجْنونٌ، مَجْنونٌ..
- وَفِلِسْطينَ، وَأشْعارَ «النّادِرُ في مَلَكوتِ التّاجِرِ» وَالثَّقَفِيَّ، وَتاريخَ شُيوخِ بَني حَمْدانَ، وَمَعْرَكَةَ اليَرْموكِ، وَجِسْرَ المَلِكِ حُسَيْنْ؟
- مَجْنونٌ، مَجْنونٌ، مَجْنونٌ...
- وَالسّاداتِ وَأُكْتوبَرْ؟
- مَجْنونٌ...
- وَالشَّيْءُ يُذَكِّرُ بِالشَّيْءِ...
- تَوَقَّفْ!
بَعْدَ قَليلٍ سَتَرى نَفْسَكَ أبْعَدَ مِمّا أنْتَ الآنَ، سَتَبْكي في دُنْياكَ عَلى دُنْياكَ، وَيَخْرُجُ مِنْكَ البُؤْسُ لِتَسْتَوْطِنَهُ...
هذا بَلَدٌ يَحْفِلُ بِاللَّذّاتِ، وَأنْتَ شَقِيٌّ بِالفِطْرَةِ كَالوَطَنِ العَرَبِيِّ تُفَتِّشُ كَالنِّمْلَةِ عَنْ نَهْرٍ تَقْطَعُهُ.
وَجْهُكَ أتْعَسُ مِنْ مِقْبَرَةِ الفُقَراءِ وَلا يَظْهَرُ إلاّ في الماءِ الآسِنِ فَاذْهَبْ حَيْثُ تَراهُ سَأكْتُبُ في أوْراقِكَ أنَّكَ «سِيزيفْ».
- أُكْتُبْ أيْضًا انّ الصّخْرَةَ تُدْعى «سِيزيف».
كِلانا يَحْمِلُ بُؤْسَ الآخَرِ وَيُدَحْرِجُهُ أنّى سارْ.
أُقاتَلُ وَتُقاتَلُ، أُحْتَلُّ وَتُحْتَلُّ، أُطارَدُ وَتُطارَدْ.
أحْمِلُ فِيَّ الإبِلَ، وَتَحْمِلُ فِيها الرَّعْيْ.
أحْمِلُ فِيَّ الرَّبَّ، وَتَحْمِلُ فيها المِحْرَقَةَ... أنا البَعْلُ، هِيَ الكَرْمِلُ، أنْتُمْ حَطَبي البارِدُ، نَحْنُ العُقْمُ.. المَوْتُ... الخُسْرانُ إلى أبَدِ الدَّهْرْ.
- لَقَدْ جُنَّ نِهائِيّاً.
شُـــروح
(١) لبنان:
بَيْنَ أقْدامِ النَّواقيسِ الَّتي تَمْشي عَلى الأرْضِ
وَصَمْتِ المَجْزَرَة
وَدُخولِ الزَّمَنِ القَسْرِيِّ في السَّبْتِ
وَإفْساحِ المَجالْ
لِظُهورِ الطّائِرَة
دَخَلَتْ «بَيْروتُ» في هَنْدَسَةِ الصَّوْتِ
وَأخْطاءِ الحِسابْ
وَاخْتِلالِ الطَّقْسِ في الشّامِ وَفَوْقَ القاهِرَة.
بَيْنَ أقْدامِ النَّواقيسِ الَّتي نامَتْ،
تَمُرُّ الطّائِراتْ
تَقْصِفُ الوَقْتَ، وَأسْماءَ المَيادينِ
وَحُزْنَ الأُمَّهاتْ
وَثِيابَ المَجْزَرَة.
وَعلى طُولِ الإذاعاتِ، وَمِنْ بَيْتٍ لِبَيْتْ
عَبَرَتْ «بَيْروتُ» نَحْوَ الشَّرْقِ
لَمْ تَخْلَعْ ثِيابَ النَّوْمِ إلاّفي الكُوَيْتْ:
ما الذي ضاعَ سِوَى ساعَةِ عِشْقٍ وَانْتِظارْ
بَقِيَتْ خَلْفَ ثِيابِ العاهِرَة؟
ما الذي ضاعَ
سِوَى قَيْلولَةِ السِّيقانِ في المَخْدَعِ أثْناءَ النَّهارْ
وَاقْتِرابِ النّاصِرَة؟
ما الَّذي ضاعَ سِوَى الوَجْهِ القَبيحْ
لِلْفِلِسْطينِيِّ
وَالطِّفْلِ الَّذي كَذَّبَ دَعْوى الطّائِرَة؟
ما الَّذي ظلَّ سِواكْ؟
ما الَّذي ظلَّ سِواكْ؟
تُطْلِعينَ الوَقْتَ في مِزْوَلَةِ الذِّكْرى وَألْوانِ الفِراقْ
وَتَواريخِ الوَفاةْ
وَرُجوعِ السَّبْيِ مِنْ أرْضِ العِراقْ
وَابْتِعادِ النّاصِرَة؟
ما الَّذي ظلَّ سِواكْ؟
ما الَّذي ظلَّ سِواكْ؟
لا تَقولينَ سِوَى الصَّمْتِ وَلكِنِّي أراكْ
لُغَةً تَفْصِلُ بَيْنَ الصَّوْتِ وَالمَعْنى،
وَعَبْرَ الضَّفَّتَيْنْ
شارِعٌ يَمْتَدُّ مِنْ سِرْوالِكِ الوَرْدِيِّ حَتّى المِقْبَرَة:
(شَخْصٌ يُجَرْجِرُ زِيَّهُ الطَّبَقِيَّ نَحْوَ الفُرْنِ وَامْرَأةٌ مُسَطَّحَةٌ تُناوِلُ وَجْهَها لِلشَّمْسْ:
أَعَدْنا الماءَ لِلبَحْرِ، التُّرابَ إلى التُّرابْ
نَحْتاجُ لِلذِّكْرى
وَلِلفَرَحِ القَديمِ، وَلِلعَذابْ
ألوَقْتُ يُوجِعُ مِثْلَ صورَتِهِ
وَلكِنَّ السّرابَ هُوَ السّرابْ).
لِلْوَقْتِ هَيْئَتُهُ إذا دَخَلَ الخرابْ
ذاكَ الّذي يَتَفَقَّدُ الأبْوابَ في صَمْتٍ
وَيَقْرَأُ في كِتاباتِ الصَّدَأْ،
وَيُحَرِّكُ الألْوانَ
فَوْقَ قَوارِبِ الصَّيْدِ المُقيمَةِ في التُّرابْ.
ذاكَ الَّذي نَسِيَتْهُ «صَيْدا» عِنْدَ مِرْفَئِها الجَميلْ
مُتَسَكِّعًا، يُحْصي نُجومَ البَحْرِ
يَغْطِسُ مَعَ شِباكِ الصَّيْدِ
يَرْقُبُ قِطَّةً خَرَجَتْ لِتَهْرُشَ ساقَها
وَيُقيمُ في السّاحاتِ أَعْراسَ الذُّبابْ.
ذاكَ الَّذي دلَّ اللُّصوصَ عَلى المَحاراتِ الّتي انتَبَذَتْ لِتَحْضُنَ حُلْمَها البَحْرِيَّ،
د َلَّ عَلى الشَّبابيكِ الّتي عَشِقَتْ رُجوعَ المَوْجِ،
لكِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلى الشَّبابيكِ الّتي تَتَبادَلُ القُبُلاتِ مَعَ سُفُنِ الذِّئابْ.
عَبَثًا تَسْتَدْرِجينَ الكَلِماتْ.
كُلُّ ذِكْرى بِنَدَمْ.
لَيْسَ يَجْلو نَكْهَةَ الأحْرُفِ شَيْءٌ مِثْلُ أجْراسِ الألَمْ،
وَالتَّعاديدِ الّتي تَعْبَثُ بِالأجْسادِ...
مِنْ أرْنَبَةِ الأنْفِ إلى ظِلِّ القَدَمْ.
عَبَثًا تَسْتَدْرِجينَ الكَلِماتْ.
سَتَظَلُّ اللُّغَةُ البَلْهاءُ بَلْهاءَ، وَتَبْقى فارِغَة
قُبُلاتي مِنْ مَعانيها
لِأنَّ الأرْضَ لا تَلْمَسُ أصْواتَ النَّواقيسِ، وَبَعْدْ،
أخْبِريني!
سَقَطَتْ يافا مِنَ الشُّبّاكِ لكِنْ
كَيْفَ أسْقَطْتِ النَّدَمْ؟
أُهْدي العُيونَ الزُّرْقَ أحْزانًا عَلى عَدَدِ التُّرابْ
أهْدي العُيونَ الزُّرْقَ ماءَ البَحْرِ دَمْعًا
كُلَّ ما حَمَلَ السَّحابْ.
أُهْدي العُيونَ الزُّرْقَ
كُلَّ مَواسِمِ الحُزْنِ الّتي عَبَرَتْ
وَكُلَّ مَواسِمِ الحُزْنِ الّتي تَأْتي
وَما اخْتَرَعَ الخَيالُ مِنَ العَذابْ.
أُهْدي لِكُلِّ عَواصِمِ الغَرْبِ القَبيحَةِ فِطْرَها المَسْمومَ
أُهْدي القاهِرَة
فَقْرًا وَطاعونًا وَلَوّاطينَ مِنْ عَرَبِ الخَليجْ
أُهْدي لِعَمّانَ الذُّبابْ.
أُهْدي لِهذا العالَمِ المَعْتُوهِ أُغْنِيَةَ السُّكونْ
وَعُبورَهُ التّالي لِـمَمْلَكَةِ الغُرابْ.
أُهْديكِ أنْتِ سُقوطَكِ الهِجْرِيَّ في التّاريخِ
أُهْديكِ النَّدَمْ!
هَلْ تَعْرِفينَ الآنَ ما مَعْنى الخُروجِ إلى دُروبِ الآخَرينْ:
لَمْ يَعْرِفِ السَّـــبْيُ مِثْلي، ضاعَ أوَّلُهُ
وَفي الأَسـاطيرِ لَمْ يَعْثُرْ عَلى أحَـــدِ
فَرِحْتُ بِالقَيْدِ يُدْنيني لِـمُغْتَـصِبي
كَالثَّدْيِ يَرْبِــطُ بَيْنَ الأُمِّ وَالوَلَدِ
ما زالَ يُسْــلِمُني رابٍ لِصاحِبِهِ
حَتّى احْـتُلِلْتُ احْتِـلالَ الرُّوحِ لِلجَسَدِ
أنا الشَّقِيُّ بِأفْراحي، الذَّليلُ عَلى عَرْ
شِي، الـمُهاجِرُ في أهْلي وَفي بَلَدي
أُهْدي العُروبَةَ مَيِّتًا مَلِكًا، وَمَمْلَكَةً غُبارْ
أُنْثى مِنَ الإفْرَنْجِ تَحْكُمُهُمْ بِرِدْفَيْها وَمَجْدًا مُسْتَعارْ.
جاسوسَةً مِنْ أفْخَمِ الباراتِ تَعْشَقُ شَهْرَيارْ.
قِطّاً سِيامِيّاً عَلى عَرْشٍ مِنَ الأفْخاذِ
وَالوُزَراءُ مارِكَةُ الحِمارْ.
لا يَشْفَعُ الدُّولارُ لِلعَرَبِيِّ إنَّ العارَ عارْ
ثَوْبٌ بِمَدْرَسَةٍ وَ«كَلْسُونٌ» بِمُسْتَشْفى
وَشَعْبٌ تَحْتَ مائِدَةِ القِمارْ.
لا تُوقِظوهُ فَلَمْ يَحِنْ وَقْتُ الصَّلاة
لِلرَّهْزِ وَالتَّسْبيحِ وَقْتُهُما وَرائِحَةُ الطَّبيخْ
ما بَيْنَ مَكَّةَ وَالرَّباطْ
سَتُحَدِّدُ الوَقْتَ الـمُلائِمَ لِلنُّهوضْ.
أوْقِفي هذا الرَّحيلْ!
إنَّني أرْتابُ في الدِّرْبِ
وَفي وَجْهِ الدَّليلْ.
ما الّذي نَحْمِلُ مِنْ أرْضِ الجَليلْ
غَيْرَ دَعْوى العِشْقِ أثْناءَ غِيابِ الزَّوْجِ
وَالتَّسْبيحِ في المَخْدَعِ،
وَالخَوْفِ البَهيمِيِّ مِنَ الظِّلِّ الطَّويلْ؟
أوْقِفي هذا الرَّحيلْ!
إنَّني أرْتابُ في نَفْسي
وَفي كُلِّ الإشاعاتِ عَنِ الوَجْهِ النَّبيلْ
لِوَكيلِ المالِكِ الفِعْلِيِّ - رَسْمِيّاً - عَلى وَقْفِ الخَليلْ
أوْقِفي هذا الرَّحيلْ!
أيْنَ كُنّا قَبْلَ أنْ يَأتيَ رَبُّ الجُنْدِ مِنْ مِصْرَ عَلى الأقْدامِ
أوْ فَوْقَ ظُهورِ النّاسِ مِنْ أرْضِ النَّخيلْ؟
وَلِماذا نَزَعوا صُورَةَ كَنْعانَ عَنِ الحائِطِ
وَاسْتَوْلَوْا عَلى التّاريخِ في بَدْرٍ
وَكَنْسِ الحائِطِ الغَرّبِيِّ مِنْ جيلٍ لِجيلْ؟
أوْقِفي هذا الرَّحيلْ!
إنَّني أرْتابُ في حُزْنِكِ
في القُدْسِ
وَفي وَجْهِ القَتيلْ.
إنَّني لَنْ أبْدَأَ العَوْدَةَ مِنْ خَيْلِ شُرَحْبيلَ
إلى أرْضِ الجَليلْ:
مَتى البُكاءُ اسْألي في ساحَةِ البَلَدِ
أبْكي مِنَ الحُزْنِ أمْ أبْكي مِنَ الجَلَدِ
قَدْ كُنْتُ أصْرُخُ قَبْلَ اليَوْمِ يا بَلَدي
فَصِرْتُ أصْرُخُ بَعْدَ اليَوْمِ يا وَلَدي!
مِنْ بَدْرٍ الكُبْرى إلى «صَيْدا» نَعودْ
لَمْ نَبْرَحِ المَبْكى
وَلَمْ نَعْبَدْ سِوى رَبِّ الجُنودْ.
مِنْ بَدْرٍ الكُبْرى إلى «صَيْدا» ضَبابْ
وَمَصارِعُ الأبْطالِ...
عُتْبَةَ أوْ أُمَيَّةَ أوْ هِشامْ
كَالشَّمْسِ تُـمْعِنُ في الحُضورِ وَفي الغِيابْ:
لَقَدْ لامَني عِنْدَ القُبورِ عَلى البُكا
رَفيقي لِتَذْرافِ الدُّموعِ السَّوافِكِ
وَقالَ أَتَبْكي كُلَّ قَبْرٍ رَأَيْتَهُ
لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوَى فَالدَّكادِكِ
فَقُلْتُ لَهُ إنَّ الشَّجا يَبْعَثُ الشَّجا
فَدَعْني، فَهذا كُلُّهُ قَبْرُ مالِكِ
لا بَأْسَ سُدُّوا الأرْضَ، وَاسْتَوْلُوا عَلى كُلِّ الدِّماءْ.
ألأُمَّهاتُ خَلَعْنَ ألْقابَ الأُمومَةِ وَامْتَنَعْنَ عَنِ البُكاءْ.
لا فَرْقَ بَعْدَ اليَوْمِ،
كانَ الأمْرُ مُخْتَلَطًا
سَنَبْني عالَمًا مِنْ غَيْرِ أطْفالٍ وَلَنْ تَلِدَ النِّساءْ.
لا فَرْقَ، كانَ الأمْرُ مُخْتَلَطًا وَكُنّا أغْبِياءْ.
إنّا نُحَمِّلُ غَيْرَكُمْ دَمَنا وَنَحْمِلُهُ
نُعيدُ لَكُمْ سَباياكُمْ
دِماءَكُمُ الّتي تَهْتَزُّ كَالرّاياتِ فَوْقَ قُبورِ قَتْلاكُمْ
نُعيدُ لَكُمْ حِجارَتَكُمْ وَمَوْتاكُمْ.
نُشيرُ إلى دَمِ الطِّفْلِ الفِلِسْطينِيِّ أنْ يَهْدَأْ:
نَــــــمْ يا حَــــــبيبي نَــــمْ لا تُـــــوقِــــظِ العَــسْــكَـــرْ
أخـــوكَ في السَّـــــريـــرْ يُـــــريــــدُ أنْ يَــــكْــــبَــــرْ
نَــــــمْ يا حَــــــبيبي نَــــمْ ألخَــــــوْفُ لا يُـــجْــــدي
ألــــــقَــــــبْــــــرُ لِلأطْــــفــالْ وَالأرْضُ لِلجُــــنْــــدي
سَــــــــتُــــزْهِـــرُ الأيّــــــــــــــامْ فــــــي العــــالَمِ الــــذّابِـــلْ
وَنَــــتْــــبَـــعُ الـمَـــقْـــــتــــولْ حَــــتّى يَــــــدِ القــــــاتِــلْ
وَنُقيمُ حَتّى في الرَّحيلِ مُعَسْكَراتْ.
وَنُثيرُ دَهْشَتَكُمْ، وَنَسْكُنُ في رُجوعِ المُعْجِزاتْ.
لَمْ تَكْتُبوا التّاريخَ بَعْدُ
هُناكَ فصْلٌ غَيْرُ فَصْلِ الطّائِراتْ.
حَتّى حُدودِ الـمَوْتِ نَبْقى
وَالحَياةُ هِيَ الحَياةْ.
لا يَنْتَهي عَصْرٌ بِقُنْبُلَةٍ
وَلا شَعْبٌ بِمَذْبَحَةٍ
وَلكِنَّ الطُّغاةْ
هُمْ آخِرُ القَتْلى
وَيَبْدَأُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ جَديدْ
ألعُشْبُ، وَالأطْفالُ، وَالـمُدُنُ السَّعيدَةُ، وَالعَرائِسْ
وَالأُمَّهاتُ، وَفي مُروجِ الحُلْمِ تَمْتَدُّ الحَياهْ
قَمْحًا وَأعْيادًا، وَفي الوَرَشاتِ تَرْجِعُ لِلْحَديدْ
عاداتُهُ الأولى، وَيَدْخُلُ لِلبُيوتِ وَلِلمَدارِسْ
مِنْ بابِها الـمَفْتوحِ، وَالحُزْنُ الّذي سَكَنَ الجِباهْ
سََيَصيرُ تَجْرُبَةً وَشِعْرْ
وَمَساحَةً في الذّاتِ، لِلرَّسّامِ وَالفَنّانِ وَالشّاعِرْ
وَمَغْناةَ الفِلِسْطينيِّ عََبْرَ الـمَوْتِ وَالـمَنْفى
فَلا يَنْسَى
وَلا يَنْسَى
وَلا يَنْسى.
قُلْتُ: نِساءً يَبْكِينَ...
- ألَسْتَ تَرى؟
- بَحْرًا يَفْصِلُني عَنْها، وَمَراكِبَ فيها ناسٌ أعْرِفُهُمْ، تَمْتَدُّ يَدُ الماءِ إلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِ حِبالِ الأشْرِعَةِ، وَتَقْطِفُهُمْ كَالثَّمَرِ النّاضِجِ، وَتَظَلُّ المَركِبُ سالِـمَةً وَالتّاجِرْ.
قُلْ لي يا عَرّابُ! أيَعْرِفُنا المَوْجُ كَما تَعْرِفُنا السِّكّينْ؟
أمْ أنَّ المَرْكِبَ شَبَحٌ؟
- كَلِماتُكَ أبْوابٌ مُظْلِمَةٌ وَمَآتِمُ، عَيْناكَ عَلى فاجِعَةٍ لَسْتُ أَراها.
إنَّ الثَّوْرَةَ دَرْبٌ يَحْلُمُ بِالشَّمْسْ.
- آهٍ يا عَرّابُ لَوَ انَّ الشَّمْسَ تُبَدِّدُ كَلِماتي.
لَوْ أنَّ الثَّوْرَةَ تَمْحوني وَتَعيشْ.
هَلْ تَبْحَثُ أحْيانًا عَنْ لِحْيَتِكَ الشَّهْباءِ، وَهَلْ تَنْسى اسْمَكَ يا عَرّابُ فَأنْسى مَوْتي؟
سَأُحَدِّثُكَ عَنِ المَوْتِ قَليلاً...:
كَانَ كَرَجُلٍ عادِيِّ في لُبْنانَ لَهُ عُنْوانٌ تَــتَشابَهُ فيهِ الكَلِماتُ كَما تَــتَشابَهُ حَبّاتُ البَرَدِ، وَكانَ يَدُقُّ الأبْوابَ وَلا يَفْتَحُها.
قَـدَماهُ تَسلانِ عَلى الدَّرْبِ كَنَهْرٍ، عَيْناهُ كَنابَيْ أفْـعَى. وَلَهُ قُبَّعَةٌ.
كانَ بِهِ شَيْءٌ تَعْرِفُهُ الجِرْذانُ فَتَـتْبَعُهُ، وَالدُّورُ فَتَرْتَعِدُ...
يُصابُ بِبَرْدِ الشّامِ إذا هَبَطَ اللَّيْلُ فَيُرْسِلُ يَدَهُ عَبْرَ الشُّرْفَةِ كَالمِدْخَنَةِ إلى الأكْواخِ الخائِفَةِ وَيَسْتَلُّ مَناديلَ الوَرَقِ النّاعِمَةِ مِنَ النَّوْمِ، وَأثَرُ الأحْلامِ عَلَيْها أَبْيَضَ كَحَليبِ الأُمّ.
لَمْ ألْمَسْ يَدَهُ في اليَقْظَةِ لكِنّي أعْرِفُهُ الآنَ كَما أعْرِفُ وَجْهَكْ.
- عَفْوًا سَيِّدَتي!
هذا الرَّجُلُ مَريضٌ بِالوَهْمِ، يَرى مِنْ نافِذَةٍ في نْيويُورْكَ جِبالَ الألْبِ، وَيَشْهَدُ ما يَجْري في لُبْنانَ، كَأنَّ الحَرْبَ عَلى الطّاوِلَةِ، وَلا يَخْرُجُ مِنْ أفْلامِ الرُّعْبِ، وَيَحْسَبُ أنَّ العالَمَ يَتآمَرُ ضِدَّهْ!
- عَفْوًا سَيِّدَتي!
هذا الشَّيْءُ المَلَكِيُّ سَفيرٌ لِلفُقَراءِ وَلِلثَّوْرَةِ، يَفْقِدُ بَيْنَ الرَّقْصَةِ وَالرَّقْصَةِ جيلاً، وَيَخيطُ بِقَدَمَيْهِ رُخامَ الباحَةِ كَالشُّبّانِ، وَلكنَّ القَتْلَ بِتَلِّ الزَّعْتَرِ أسْرَعُ مِنْ قَدَمَيْهْ.
يَمْلِكُ مَتْجَرَ أحْذِيَةٍ يَتَجَوَّلُ مَعَهُ كَاسْمِ أبيهْ.
يَـكْسو وِرْكَيْ عاهِرَةٍ مَدْرَسَـةً وَالبَصْمَةُ تَبْحَثُ عَـنْـهُ لِتَقْتُلَهُ...
هذا الرَّجُلُ الذّابِلُ كَدِمَشْقَ يُقَلِّدُ سُفَراءَ الدُّوَلِ النَّفْطِيَّةِ لا يَظْهَرُ إلاّ مَعَهُ بِتْروامْرَأةٍ تُخْفي عِنَّتَهُ...
عَفْوًا سَيِّدَتي!
حينَ نَثورُ نَسُبُّ الدِّينَ أوِ المَرْأةَ إنَّ نَبِيّاً وَامْرَأةً قَتَلا شَعْبي.
- أُتْرُكْنا بَعْدْ!
لَنْ يُعْلِنَ سِكِّيرٌ ما تُخْفي الثَّوْرَةُ، أوْ أُلْقِيكَ إلى أيْدٍ تَحْمِلُ مَوْتَكْ.
- أُرقُصْ، أُرْقُصْ!
دَعْني أحْزِرُ ما تُخْفي الثَّوْرَةُ في امْرَأةٍ، ماذا... ماذا... قُلْ لي أَيْنَ تُخَبِّئُ فاتوراتِكَ يا مَلْعونْ؟!!
- مَجْنونٌ!
- وَمِلَفّاتِكَ، وَالتَّسْجيلاتِ السِّرّيَّةِ، وَطَوابِعَكَ وَمَخْطوطَ «حِمارِ الوَحْشِ» وَشَجَراتِ الأُسَرِ الثَّوْرِيَّـة؟
- مَجْنونٌ، مَجْنونٌ..
- وَفِلِسْطينَ، وَأشْعارَ «النّادِرُ في مَلَكوتِ التّاجِرِ» وَالثَّقَفِيَّ، وَتاريخَ شُيوخِ بَني حَمْدانَ، وَمَعْرَكَةَ اليَرْموكِ، وَجِسْرَ المَلِكِ حُسَيْنْ؟
- مَجْنونٌ، مَجْنونٌ، مَجْنونٌ...
- وَالسّاداتِ وَأُكْتوبَرْ؟
- مَجْنونٌ...
- وَالشَّيْءُ يُذَكِّرُ بِالشَّيْءِ...
- تَوَقَّفْ!
بَعْدَ قَليلٍ سَتَرى نَفْسَكَ أبْعَدَ مِمّا أنْتَ الآنَ، سَتَبْكي في دُنْياكَ عَلى دُنْياكَ، وَيَخْرُجُ مِنْكَ البُؤْسُ لِتَسْتَوْطِنَهُ...
هذا بَلَدٌ يَحْفِلُ بِاللَّذّاتِ، وَأنْتَ شَقِيٌّ بِالفِطْرَةِ كَالوَطَنِ العَرَبِيِّ تُفَتِّشُ كَالنِّمْلَةِ عَنْ نَهْرٍ تَقْطَعُهُ.
وَجْهُكَ أتْعَسُ مِنْ مِقْبَرَةِ الفُقَراءِ وَلا يَظْهَرُ إلاّ في الماءِ الآسِنِ فَاذْهَبْ حَيْثُ تَراهُ سَأكْتُبُ في أوْراقِكَ أنَّكَ «سِيزيفْ».
- أُكْتُبْ أيْضًا انّ الصّخْرَةَ تُدْعى «سِيزيف».
كِلانا يَحْمِلُ بُؤْسَ الآخَرِ وَيُدَحْرِجُهُ أنّى سارْ.
أُقاتَلُ وَتُقاتَلُ، أُحْتَلُّ وَتُحْتَلُّ، أُطارَدُ وَتُطارَدْ.
أحْمِلُ فِيَّ الإبِلَ، وَتَحْمِلُ فِيها الرَّعْيْ.
أحْمِلُ فِيَّ الرَّبَّ، وَتَحْمِلُ فيها المِحْرَقَةَ... أنا البَعْلُ، هِيَ الكَرْمِلُ، أنْتُمْ حَطَبي البارِدُ، نَحْنُ العُقْمُ.. المَوْتُ... الخُسْرانُ إلى أبَدِ الدَّهْرْ.
- لَقَدْ جُنَّ نِهائِيّاً.
شُـــروح
(١) لبنان:
بَيْنَ أقْدامِ النَّواقيسِ الَّتي تَمْشي عَلى الأرْضِ
وَصَمْتِ المَجْزَرَة
وَدُخولِ الزَّمَنِ القَسْرِيِّ في السَّبْتِ
وَإفْساحِ المَجالْ
لِظُهورِ الطّائِرَة
دَخَلَتْ «بَيْروتُ» في هَنْدَسَةِ الصَّوْتِ
وَأخْطاءِ الحِسابْ
وَاخْتِلالِ الطَّقْسِ في الشّامِ وَفَوْقَ القاهِرَة.
بَيْنَ أقْدامِ النَّواقيسِ الَّتي نامَتْ،
تَمُرُّ الطّائِراتْ
تَقْصِفُ الوَقْتَ، وَأسْماءَ المَيادينِ
وَحُزْنَ الأُمَّهاتْ
وَثِيابَ المَجْزَرَة.
وَعلى طُولِ الإذاعاتِ، وَمِنْ بَيْتٍ لِبَيْتْ
عَبَرَتْ «بَيْروتُ» نَحْوَ الشَّرْقِ
لَمْ تَخْلَعْ ثِيابَ النَّوْمِ إلاّفي الكُوَيْتْ:
ما الذي ضاعَ سِوَى ساعَةِ عِشْقٍ وَانْتِظارْ
بَقِيَتْ خَلْفَ ثِيابِ العاهِرَة؟
ما الذي ضاعَ
سِوَى قَيْلولَةِ السِّيقانِ في المَخْدَعِ أثْناءَ النَّهارْ
وَاقْتِرابِ النّاصِرَة؟
ما الَّذي ضاعَ سِوَى الوَجْهِ القَبيحْ
لِلْفِلِسْطينِيِّ
وَالطِّفْلِ الَّذي كَذَّبَ دَعْوى الطّائِرَة؟
ما الَّذي ظلَّ سِواكْ؟
ما الَّذي ظلَّ سِواكْ؟
تُطْلِعينَ الوَقْتَ في مِزْوَلَةِ الذِّكْرى وَألْوانِ الفِراقْ
وَتَواريخِ الوَفاةْ
وَرُجوعِ السَّبْيِ مِنْ أرْضِ العِراقْ
وَابْتِعادِ النّاصِرَة؟
ما الَّذي ظلَّ سِواكْ؟
ما الَّذي ظلَّ سِواكْ؟
لا تَقولينَ سِوَى الصَّمْتِ وَلكِنِّي أراكْ
لُغَةً تَفْصِلُ بَيْنَ الصَّوْتِ وَالمَعْنى،
وَعَبْرَ الضَّفَّتَيْنْ
شارِعٌ يَمْتَدُّ مِنْ سِرْوالِكِ الوَرْدِيِّ حَتّى المِقْبَرَة:
(شَخْصٌ يُجَرْجِرُ زِيَّهُ الطَّبَقِيَّ نَحْوَ الفُرْنِ وَامْرَأةٌ مُسَطَّحَةٌ تُناوِلُ وَجْهَها لِلشَّمْسْ:
أَعَدْنا الماءَ لِلبَحْرِ، التُّرابَ إلى التُّرابْ
نَحْتاجُ لِلذِّكْرى
وَلِلفَرَحِ القَديمِ، وَلِلعَذابْ
ألوَقْتُ يُوجِعُ مِثْلَ صورَتِهِ
وَلكِنَّ السّرابَ هُوَ السّرابْ).
لِلْوَقْتِ هَيْئَتُهُ إذا دَخَلَ الخرابْ
ذاكَ الّذي يَتَفَقَّدُ الأبْوابَ في صَمْتٍ
وَيَقْرَأُ في كِتاباتِ الصَّدَأْ،
وَيُحَرِّكُ الألْوانَ
فَوْقَ قَوارِبِ الصَّيْدِ المُقيمَةِ في التُّرابْ.
ذاكَ الَّذي نَسِيَتْهُ «صَيْدا» عِنْدَ مِرْفَئِها الجَميلْ
مُتَسَكِّعًا، يُحْصي نُجومَ البَحْرِ
يَغْطِسُ مَعَ شِباكِ الصَّيْدِ
يَرْقُبُ قِطَّةً خَرَجَتْ لِتَهْرُشَ ساقَها
وَيُقيمُ في السّاحاتِ أَعْراسَ الذُّبابْ.
ذاكَ الَّذي دلَّ اللُّصوصَ عَلى المَحاراتِ الّتي انتَبَذَتْ لِتَحْضُنَ حُلْمَها البَحْرِيَّ،
د َلَّ عَلى الشَّبابيكِ الّتي عَشِقَتْ رُجوعَ المَوْجِ،
لكِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلى الشَّبابيكِ الّتي تَتَبادَلُ القُبُلاتِ مَعَ سُفُنِ الذِّئابْ.
عَبَثًا تَسْتَدْرِجينَ الكَلِماتْ.
كُلُّ ذِكْرى بِنَدَمْ.
لَيْسَ يَجْلو نَكْهَةَ الأحْرُفِ شَيْءٌ مِثْلُ أجْراسِ الألَمْ،
وَالتَّعاديدِ الّتي تَعْبَثُ بِالأجْسادِ...
مِنْ أرْنَبَةِ الأنْفِ إلى ظِلِّ القَدَمْ.
عَبَثًا تَسْتَدْرِجينَ الكَلِماتْ.
سَتَظَلُّ اللُّغَةُ البَلْهاءُ بَلْهاءَ، وَتَبْقى فارِغَة
قُبُلاتي مِنْ مَعانيها
لِأنَّ الأرْضَ لا تَلْمَسُ أصْواتَ النَّواقيسِ، وَبَعْدْ،
أخْبِريني!
سَقَطَتْ يافا مِنَ الشُّبّاكِ لكِنْ
كَيْفَ أسْقَطْتِ النَّدَمْ؟
أُهْدي العُيونَ الزُّرْقَ أحْزانًا عَلى عَدَدِ التُّرابْ
أهْدي العُيونَ الزُّرْقَ ماءَ البَحْرِ دَمْعًا
كُلَّ ما حَمَلَ السَّحابْ.
أُهْدي العُيونَ الزُّرْقَ
كُلَّ مَواسِمِ الحُزْنِ الّتي عَبَرَتْ
وَكُلَّ مَواسِمِ الحُزْنِ الّتي تَأْتي
وَما اخْتَرَعَ الخَيالُ مِنَ العَذابْ.
أُهْدي لِكُلِّ عَواصِمِ الغَرْبِ القَبيحَةِ فِطْرَها المَسْمومَ
أُهْدي القاهِرَة
فَقْرًا وَطاعونًا وَلَوّاطينَ مِنْ عَرَبِ الخَليجْ
أُهْدي لِعَمّانَ الذُّبابْ.
أُهْدي لِهذا العالَمِ المَعْتُوهِ أُغْنِيَةَ السُّكونْ
وَعُبورَهُ التّالي لِـمَمْلَكَةِ الغُرابْ.
أُهْديكِ أنْتِ سُقوطَكِ الهِجْرِيَّ في التّاريخِ
أُهْديكِ النَّدَمْ!
هَلْ تَعْرِفينَ الآنَ ما مَعْنى الخُروجِ إلى دُروبِ الآخَرينْ:
لَمْ يَعْرِفِ السَّـــبْيُ مِثْلي، ضاعَ أوَّلُهُ
وَفي الأَسـاطيرِ لَمْ يَعْثُرْ عَلى أحَـــدِ
فَرِحْتُ بِالقَيْدِ يُدْنيني لِـمُغْتَـصِبي
كَالثَّدْيِ يَرْبِــطُ بَيْنَ الأُمِّ وَالوَلَدِ
ما زالَ يُسْــلِمُني رابٍ لِصاحِبِهِ
حَتّى احْـتُلِلْتُ احْتِـلالَ الرُّوحِ لِلجَسَدِ
أنا الشَّقِيُّ بِأفْراحي، الذَّليلُ عَلى عَرْ
شِي، الـمُهاجِرُ في أهْلي وَفي بَلَدي
أُهْدي العُروبَةَ مَيِّتًا مَلِكًا، وَمَمْلَكَةً غُبارْ
أُنْثى مِنَ الإفْرَنْجِ تَحْكُمُهُمْ بِرِدْفَيْها وَمَجْدًا مُسْتَعارْ.
جاسوسَةً مِنْ أفْخَمِ الباراتِ تَعْشَقُ شَهْرَيارْ.
قِطّاً سِيامِيّاً عَلى عَرْشٍ مِنَ الأفْخاذِ
وَالوُزَراءُ مارِكَةُ الحِمارْ.
لا يَشْفَعُ الدُّولارُ لِلعَرَبِيِّ إنَّ العارَ عارْ
ثَوْبٌ بِمَدْرَسَةٍ وَ«كَلْسُونٌ» بِمُسْتَشْفى
وَشَعْبٌ تَحْتَ مائِدَةِ القِمارْ.
لا تُوقِظوهُ فَلَمْ يَحِنْ وَقْتُ الصَّلاة
لِلرَّهْزِ وَالتَّسْبيحِ وَقْتُهُما وَرائِحَةُ الطَّبيخْ
ما بَيْنَ مَكَّةَ وَالرَّباطْ
سَتُحَدِّدُ الوَقْتَ الـمُلائِمَ لِلنُّهوضْ.
أوْقِفي هذا الرَّحيلْ!
إنَّني أرْتابُ في الدِّرْبِ
وَفي وَجْهِ الدَّليلْ.
ما الّذي نَحْمِلُ مِنْ أرْضِ الجَليلْ
غَيْرَ دَعْوى العِشْقِ أثْناءَ غِيابِ الزَّوْجِ
وَالتَّسْبيحِ في المَخْدَعِ،
وَالخَوْفِ البَهيمِيِّ مِنَ الظِّلِّ الطَّويلْ؟
أوْقِفي هذا الرَّحيلْ!
إنَّني أرْتابُ في نَفْسي
وَفي كُلِّ الإشاعاتِ عَنِ الوَجْهِ النَّبيلْ
لِوَكيلِ المالِكِ الفِعْلِيِّ - رَسْمِيّاً - عَلى وَقْفِ الخَليلْ
أوْقِفي هذا الرَّحيلْ!
أيْنَ كُنّا قَبْلَ أنْ يَأتيَ رَبُّ الجُنْدِ مِنْ مِصْرَ عَلى الأقْدامِ
أوْ فَوْقَ ظُهورِ النّاسِ مِنْ أرْضِ النَّخيلْ؟
وَلِماذا نَزَعوا صُورَةَ كَنْعانَ عَنِ الحائِطِ
وَاسْتَوْلَوْا عَلى التّاريخِ في بَدْرٍ
وَكَنْسِ الحائِطِ الغَرّبِيِّ مِنْ جيلٍ لِجيلْ؟
أوْقِفي هذا الرَّحيلْ!
إنَّني أرْتابُ في حُزْنِكِ
في القُدْسِ
وَفي وَجْهِ القَتيلْ.
إنَّني لَنْ أبْدَأَ العَوْدَةَ مِنْ خَيْلِ شُرَحْبيلَ
إلى أرْضِ الجَليلْ:
مَتى البُكاءُ اسْألي في ساحَةِ البَلَدِ
أبْكي مِنَ الحُزْنِ أمْ أبْكي مِنَ الجَلَدِ
قَدْ كُنْتُ أصْرُخُ قَبْلَ اليَوْمِ يا بَلَدي
فَصِرْتُ أصْرُخُ بَعْدَ اليَوْمِ يا وَلَدي!
مِنْ بَدْرٍ الكُبْرى إلى «صَيْدا» نَعودْ
لَمْ نَبْرَحِ المَبْكى
وَلَمْ نَعْبَدْ سِوى رَبِّ الجُنودْ.
مِنْ بَدْرٍ الكُبْرى إلى «صَيْدا» ضَبابْ
وَمَصارِعُ الأبْطالِ...
عُتْبَةَ أوْ أُمَيَّةَ أوْ هِشامْ
كَالشَّمْسِ تُـمْعِنُ في الحُضورِ وَفي الغِيابْ:
لَقَدْ لامَني عِنْدَ القُبورِ عَلى البُكا
رَفيقي لِتَذْرافِ الدُّموعِ السَّوافِكِ
وَقالَ أَتَبْكي كُلَّ قَبْرٍ رَأَيْتَهُ
لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوَى فَالدَّكادِكِ
فَقُلْتُ لَهُ إنَّ الشَّجا يَبْعَثُ الشَّجا
فَدَعْني، فَهذا كُلُّهُ قَبْرُ مالِكِ
لا بَأْسَ سُدُّوا الأرْضَ، وَاسْتَوْلُوا عَلى كُلِّ الدِّماءْ.
ألأُمَّهاتُ خَلَعْنَ ألْقابَ الأُمومَةِ وَامْتَنَعْنَ عَنِ البُكاءْ.
لا فَرْقَ بَعْدَ اليَوْمِ،
كانَ الأمْرُ مُخْتَلَطًا
سَنَبْني عالَمًا مِنْ غَيْرِ أطْفالٍ وَلَنْ تَلِدَ النِّساءْ.
لا فَرْقَ، كانَ الأمْرُ مُخْتَلَطًا وَكُنّا أغْبِياءْ.
إنّا نُحَمِّلُ غَيْرَكُمْ دَمَنا وَنَحْمِلُهُ
نُعيدُ لَكُمْ سَباياكُمْ
دِماءَكُمُ الّتي تَهْتَزُّ كَالرّاياتِ فَوْقَ قُبورِ قَتْلاكُمْ
نُعيدُ لَكُمْ حِجارَتَكُمْ وَمَوْتاكُمْ.
نُشيرُ إلى دَمِ الطِّفْلِ الفِلِسْطينِيِّ أنْ يَهْدَأْ:
نَــــــمْ يا حَــــــبيبي نَــــمْ لا تُـــــوقِــــظِ العَــسْــكَـــرْ
أخـــوكَ في السَّـــــريـــرْ يُـــــريــــدُ أنْ يَــــكْــــبَــــرْ
نَــــــمْ يا حَــــــبيبي نَــــمْ ألخَــــــوْفُ لا يُـــجْــــدي
ألــــــقَــــــبْــــــرُ لِلأطْــــفــالْ وَالأرْضُ لِلجُــــنْــــدي
سَــــــــتُــــزْهِـــرُ الأيّــــــــــــــامْ فــــــي العــــالَمِ الــــذّابِـــلْ
وَنَــــتْــــبَـــعُ الـمَـــقْـــــتــــولْ حَــــتّى يَــــــدِ القــــــاتِــلْ
وَنُقيمُ حَتّى في الرَّحيلِ مُعَسْكَراتْ.
وَنُثيرُ دَهْشَتَكُمْ، وَنَسْكُنُ في رُجوعِ المُعْجِزاتْ.
لَمْ تَكْتُبوا التّاريخَ بَعْدُ
هُناكَ فصْلٌ غَيْرُ فَصْلِ الطّائِراتْ.
حَتّى حُدودِ الـمَوْتِ نَبْقى
وَالحَياةُ هِيَ الحَياةْ.
لا يَنْتَهي عَصْرٌ بِقُنْبُلَةٍ
وَلا شَعْبٌ بِمَذْبَحَةٍ
وَلكِنَّ الطُّغاةْ
هُمْ آخِرُ القَتْلى
وَيَبْدَأُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ جَديدْ
ألعُشْبُ، وَالأطْفالُ، وَالـمُدُنُ السَّعيدَةُ، وَالعَرائِسْ
وَالأُمَّهاتُ، وَفي مُروجِ الحُلْمِ تَمْتَدُّ الحَياهْ
قَمْحًا وَأعْيادًا، وَفي الوَرَشاتِ تَرْجِعُ لِلْحَديدْ
عاداتُهُ الأولى، وَيَدْخُلُ لِلبُيوتِ وَلِلمَدارِسْ
مِنْ بابِها الـمَفْتوحِ، وَالحُزْنُ الّذي سَكَنَ الجِباهْ
سََيَصيرُ تَجْرُبَةً وَشِعْرْ
وَمَساحَةً في الذّاتِ، لِلرَّسّامِ وَالفَنّانِ وَالشّاعِرْ
وَمَغْناةَ الفِلِسْطينيِّ عََبْرَ الـمَوْتِ وَالـمَنْفى
فَلا يَنْسَى
وَلا يَنْسَى
وَلا يَنْسى.