أجراس / أحمد حسين / شعر
من سيحمي هذا العالم من السَّلام؟ أحمد حسين
جرس جالاتِيا
لم أشأْ أن ألمسَكْ
أنت افتريْتَ على يَدِي باللّمسِ كى تَتحسّسكْ
حاولتُ لمسكَ كي أرى
هل أنت من حجرٍ كما تبدو أو انّكَ من ورقْ
ووجدتُ أنكَ من غبارْ.
طارتْ ذراعُكَ عن يدِي
كحمامةٍ عمياءَ بعْثرَتِ المكانَ لتختفي فيهِ
وبعثرها المكانْ
في صدفةِ النسماتِ،
لم أقصدْ سوى أن استريحَ على انتظارِكَ
طُولَ ساقِ النّرجِسَه،
وُلد انتظاري ميتاً
لم يبقَ لي إلا العبورُ على خُطايَ إلى خطايْ
لا شيءَ إلا ما وقفتُ لأسالكْ:
هل أنت مثلي نزوةٌ ليدٍ ومطرقةٌ لِحزنْ
صخبٌ ترابيٌ له معنىً ستخرج منه اسماءٌ وأسئلةٌ
وارواحٌ تطارد نفسها بعويلها لتقولَ ’’هل….؟‘‘
وتموتَ فوقَ حضورِها
كى لا يُقال بأنها ماتتْ وعادت في السؤالْ.
كم مرةً خلعتْ ملابسها الشهورُ على السفوح الميّته
لتُعيدَ تزويجَ التراب بعشبِها وتصيرَ روحاً للمكانْ،
كم مرة مدّوا العبورَ إلى زمانٍ فوقهمْ،
وتهيّأوا بالأغنيات ليصعدوا دَرَجَ السماءْ،
ولكم نسيناهم على طرف السياج ليختفوا فيهِ،
ولكن حينما وقفَ السياجُ بنا، فعَلنا مثلما فَعلوا.
والآن لا يكفي جناح واحد لتطيرَ عبر وقوفك الأزليِّ
أو لتزورَ موقع قبلةٍ شاخَت على شفتيكَ،
لا يكفي الغبارُ لتقتفي أثَرَ العناق بنظرتيكَ
وتقرعَ الأبوابَ في الدُّورِ التي ترتادُها النزواتُ،
لا يكفي جناحٌ واحدٌ لتطيرَ نحو خميلةٍ ليليةٍ،
فقدتْ أنوثَتها العناصرُ فيكَ إن الروحَ أُنثى،
والماء يخترع السحابة كي يواصلَ صخرةً
أو ساقَ نرجسةٍ على عَرْشِ التلالِ،
يزورُ مخدَعها سقوطاً كلما سقطَ المطرْ،
إن الهديلَ الأُنثويَّ هو الخميلةُ كلها،
لا الكأسُ تدري ما تديرُ
ولا السحابةُ ماؤها خمرٌ
ولكن كلما ارتعشَ الوترْ
هرَعَتْ يماماتُ الصّدورِ إلى الهديلِ على نوافذها
ومال بنا المساءُ سفينةً ربّانُها امرأةٌ على وقتِ الوداعِ
ونحن في سَفَرِ الوقوفِ مودِّعونَ وراحلونَ وأشرعَه.
نم في غبارك حكمةً ألقى بها الفنانُ
كي يهجو بَريقَكَ في النساءِ ويهجرَكْ
هل أنتَ إلا صوتَ مطرقةِ الثواني فوق إزميلِ العذاب على حَجَرْ؟
سيظل ينظر عبر مرآة الشُرودِ إلى السماءِ ليخلقكْ
ويعيد قتلكَ، ثم تقتله الحكايةُ عند ناصيةِ امرأه
في شارعٍ تسعى به أفعى المكانِ لتقتلَه.
كتبتْ يدُ النحاّت ما شاءتْ
لتتلوَ أنتَ ما كتبتْ عليه يدُ الحكايةِ
حين أدركهُ المَساءْ،
فإلى متى تسقي السُّكارى العابرينَ الخمرَ من كأس ِالسكارى الغابرينْ؟
كل الذي في الحانِ سُكْرٌ واحدٌ
والخمرةُ الأولى عبورُ الشاربينْ
ليلاً على الدرب القديمِ
مغادرين كقادمينَ، وقادمينَ كراحلينْ
لم يفقدوا في نشوة التحليقِ إلا ما أرادوا،
وقفوا السرابَ على الصّدى،
وبكوا أحبتهم بلا سببٍ، وعادوا،
فإلامَ تركضُ في وقوفك كالشراعِ
وتوقظ الأمواتَ في الأحياءِ
كي يَلِجوا زقاقَ الوقت منّا؟
هل أودع النحات فيك جنونَهُ
شغفاً من السِّحر الذي سكنَ النساءَ كأنه وَحْيٌ
لتسجنك الحكايةُ كالصّدى في بَهْوِها.
من أين جئتَ بوجهها؟
خالسْتَني زمناً لأنساها فلمْ …..
هلا رجعت مع الصدى لأُخالسَكْ
أبحَرْتَ في وَجعي لتعرفَ ما أرى
لا شيءَ إلا ما رأيتَ فأغرقَكْ
لما تَضاحكَ ثغرُها مما رأتْ
نظَرتْ، فقلتُ ضحِكْتُ مما أضحكَكْ
البُعدُ خاتمةُ الحكاية عندهُمْ
لم يعلموا أنّي ابتعدتُ لأعشقَكْ.
ماذا يريد القلب من عبث الظنون ِ
ولا ضفاف لها على بحرٍ ولا رملٍ
سوى ما تزعمُ الأوهام من عُشبٍ لعصفورِ السرائرْ؟
ولسوف يطردُني الخفاءُ عن ابتسامتيَ الأخيرةِ
لم أكَدْ أُلقي التحيةَ منذ جئتُ هنا على كل الذينَ أحبهمْ
لم أمشِ في كل الدروبِ
ولم أشاهد غير أزهار الحديقه.
جئنا إلى الدنيا، كما زعم الخفاءُ لكي نكون َفلا نكونْ،
يُرمى بنا من زورق الشهوات في كوخٍ
ينادمُ ظِلَّه كالمزْوَله،
تلهو الظلالُ بنا ونلهو بالظلالِ
إلى غيابِ الشمس عن طرَفِ العباءةِ
ثم ندخل في الذي لا بابَ لَهْ.
ماذا يريد بنا الخَفاء كأنه نَزْلٌ على زمنِ العبورِ
يُعلِّقُ النزلاء من أسمائهم في الوقتِ
ثم يُعيد ترتيبَ الأَسِرّةِ في مضاجعهم
ليطردهم على حتم الرحيل بلا رجوعْ؟
في الوقت مُتّسعٌ لتحملنا الدروبُ
إلى مواعيد الفصولِ على سفوحٍ
لا يُحلِّقُ نَحْلُها إلا على أسمائِها.
ولنا بلادُ اللوزِ والحَسراتِ
تنزلقُ الكرومُ كأنها وهْمُ الكُرومِ
على سفوحِ الصيفِ في أيّارَ:
مملكةُ الشهور تزور مملكةَ الدهورِ
لتزرع الأوجاعَ في الخمر التي نضجتْ
على وقتِ الغصونِ المُهمَله،
تتساقط الأوراق في الزمنِ الذي لا وقتَ لَهْ
مثل انزلاقِ وقوفك الصّخريِّ عن إزميلِ بجماليونَ
يبحث فيك عن معنىً فيسقط في سريرِ المهزله
ويقول أن العيشَ وَحْشَةُ شارعٍ في الليلِ
يَهرعُ نحو باب المقبره.
والفنُّ حزنٌ عاشقٌ
تَتألّه ُالنزوات في أوجاعه شغفاً
يظنّ الروحَ سُكْراً في كؤوس الذاكرَه.
كم مرةً ألقيتَ ظِلّك في دمي تَعباً
لتُخبرني بأن الدربَ قد ألغى مواعيدَ الذينَ
تجاوزوا سِنَّ الرجوعِ إلى الديارْ
وتقولُ لي:
لا. لن يعود الميتون إلى منازلهم على زمن الحكايةِ
فالحكايةُ لا مكانَ لها سوى في القلبِ
لكنَّ الأماكنَ لا تعود القهقرى.
من أين جاءتك الرسائلُ كي تقول لنا
بأن الروح تسكُن شامَة ً صخْريَّةً فوقَ الجبينِ
تصيرُ عاشقةً إذا شاءتْ
ونَدخُل ظِلَّها باباً إلى أرواحِنا؟
لم نعرفِ الأبواب إلا ما صنعناهُ بأيدينا
فإن الأرض تصنعُنا لنصنعَ روحها مِنّا،
سَكَنّاها وتسكُننا،
معاً نمضى على وَلَهٍ نُسمّيهِ الحياةَ
وحين يُحزننا السؤالُ
نُجيبه بالحبِّ،
يُصبحُ شامةً سوداءَ من شَغفٍ على خَدِّ الحكايةِ
شمعةً أعلى من القُدّاسِ ترُسل ضوءها العُلويَّ
سيدةُ السماءِ لكي تُبدِّدَ حُزننا.
في الوقت مُتّسًعٌ لنرجعَ في القرونِ
فإن آلاف الجداول لم تزلْ تجري
على أسمائها منذ ابتداء الماءِ،
والأنهارُ قبل الناسِ،
لكنْ كيفَ نعرفُ ما تخبؤه تضاريسُ السَّحابةِ
في جذور الكستناءْ؟
لِمَ ينتهي وقتُ الزيارةِ ثم تقتُلنا مواعيدُ الغموضِ،
وفي حديقةِ بيتِنا شجرٌ زرعناهُ بأيدينا،
يُجَدِّدُ نفسَهُ من نفسِهِ؟
أم أنّه الإنسانُ لؤلؤةُ النهايةِ
لا يليق به التلكؤُ في متاهاتِ البدايةِ كالشجرْ؟
ألعينُ تدري ما ترى والروحُ تدرك ما يكونْ
والشيءُ وقتُ الشيءِ
تبتديء القيامةُ حينما تمشي على وجَناتِها الأنهارُ
كي ترتادها الألوانُ روحاً للبداياتِ الجديدةِ
ثم نمشي في الحكاية تحت خَصْرِ الذاكره،
وجداً يخامرُنا إلى وجدٍ يؤلفهُ صَفيرُ القاطره،
وَلَهٌ كأغنيةِ البنفسجِ
كلما أفضَتْ إلى شَجَنٍ
رمانا الياسمين بعطره طَرباً
وأعْلَتْ نارها نِعناعَةُ الآهاتِ
تشهقُ في أصيصِ القلبِ:
يا ليلَ الحكايةِ ! ما الحكايَه؟
لا حُزنَ غيرَك في ضواحي القلبِ،
هذي الأرضُ موعدُ عاشقينِ على الصَّدى،
ألقلب ُيسرحُ في ارتباكِ العطر بين خميلتينِ
وأنتَ أغنيةُ الغُرابِ على الصَّدى.
ماذا تريدُ
وليس عندي غير ذاكرةٍ على وجَعِ الصُّدودِ
وليس لي فرحٌ سوى أني حزينٌ، واسمُها،
وغيابُها أجراسُ أمسيةٍ على دربِ الحريرِ
إذا طواها الصمتُ، دثّرني الحريرُ بهمسِها
ماذا تريدُ من ارتباك العطر فى النسماتِ
حين تُقلِّبُ الأزهارُ ذاكرةً
رمتها نسمةٌ مجهولةٌ في حِضنِها؟
الناسُ أسماءٌ على حجرٍ له روحٌ
وأنتَ صهيلُ ذاكرةٍ على باب النزوحِ
إذا نسيناها
أعارَتْنا القبورُ صهيلَها.
ألموتُ مَيْتٌ،
لا مكان له على زمنٍ ولا شجرٍ ولا حجرٍ
ونحن سقوط أجسادٍ على اجسادِها.
ستظلُّ تسكننا حكايتُنا على أبَدِ الرجوعِ
نمرُّ من شغفٍ إلى شغفٍ
على دربِ الوضوحِ المُستبدِّ
مواسماً وحدائقاً ومقاعداً خشبية ً وشوارعاً أو
أرصفَه،
لا موتَ بعد اليومِ
غادرَ صوتَهُ الجرسُ القديمُ،
روى حكايةَ موتِهِ لا موتِنا
ومضى يغادرُ عاشقاً او شاعراً
في شارعٍ أو ساحة ٍ أو مدرسه،
للحُبِّ دربٌ لا يمرُّ بهِ
سوى السِّحرِ الذي جعلَ المكانَ أمومةً ثَكلى،
وعلَّمَ روحنا التوقَ الرؤومَ، لتحرسَه.
إن الحياة مؤسَّسه.
لها
ستُطِلُّ منكِ حمامتان على صباح المدرسه
وتحط واحدةٌ على كتفي وتهدلُ: لا تَمُتْ !
إن الوجوهَ ظلالُ أمكنةٍ وأسماءٍ
إذا انصرفتْ مشينا في الشوارع ميتينْ
حيفا زمان لم يعُدْ يأتي
لها جرسٌ ترددهُ الأماكنُ كلما عبَرتْ بنا،
ترتادُنا أسماؤهم عبرَ الرجوعِ صدىً إلى أسمائِنا
فتُعيدُ ذاكرةُ الرنينِ زمانَنا لمكانِنا.
فلمن يخبؤكِ الرنينُ، أنا هنا،
ما زِلتُ أمشي في الرجوعِ
إلى صباحٍ لن يعودَ لأنه ظِلٌ
على ثوبِ المكانِ
يغيبُ، لكن لا تغيبُ الأمكِنه،
تَبقى على حَتْمِ الحضورِ، وراءَنا وأمامَنا،
لم نـأتِ في عبث الزيارة مرغمين،إ لى الحكايةِ
كي تَعيشَ زمانَنا بزمانِها،
لهواً، كعارضةٍ تُمارس أمْسَها ضَجراً،
فتكشِفُ ساقَها وتَلمُّها.
جئنا على حتم الولادة من مواعيد التراب
مع المطرْ،
إن الحياةَ مدىً لكل حكايةٍ
لكنّها أمٌ تُربّي طفلَها فى عقلها
ليكون نجماً في حكايتهِ يؤلفُ روحَها
من روحه ويعيشُها،
شغفاً يراوده كموسيقى يُرَدِّدُ صمتُها:
الروحُ موسيقى الترابٍ وعِشقُهُ
والأرضُ تمزِجُ روحَها بتُرابِها.
جرس المدرسة الأخير
تَبادَلْنا نوافذَ الحُزنِ الأولِ
نافذةً نافذه،
رأينا لأول مرةٍ
كيف تنتعفُ أسرابُ الطيور النائمةِ
من أحضان الشجرةِ الوَثيرةِ
عندما يقرع الغموضُ جرسَه فجأةً،
وكيف تسقط ُ طمأنينةُ الطفلِ
حين تسقط من فمه زجاجةُ الحليبْ.
هكذا خرجْنا إلى الأدغال الكثيفةِ
نسأل أين ذهبتْ الشوارعُ الأنيقةُ
المُصَفَّفةُ الشعورِ
والأزقةُ المُشعَّثةُ بالأبواب والأطفالِ
ورائحةِ الثوم والبصلْ.
اين الحساسينُ التي ربيناها
في أقفاصنا الصدريةِ
لتصدح أمام هذهِ الأبواب
بأغنية من ريفِ القلبِ
كصلاةٍ عشبيةٍ أدمنتِ البكاءَ
على حافيات الصدورِ
يقرأنَ على عارياتِ الجداولِ فاتحةَ الشغفِ،
ويُواعِدْنَ الجِرارَ ماءً آخر:
أيتها الشجرة العظيمةُ
التي تسرقُ الماءَ من الأرضِ
أعطنا ماءً لصيفٍ واحدٍ فقط !
سنخلعُ ثيابَ العُرسِ في اليوم التالي
ونمضي إلى زماننا الجديدِ
أيدينا في أيديهم
نبحثُ عن حقول جديدةٍ في صيفٍ آخرْ.
” لم يـأتِ القمح ُ
وعاد الصيف من حيث أتى.”
تقولُ الأغنية العُشبية وتمضي
لا تنتظرُ جواباً من أحد.
” لا تسألوا أبداً “
قال جرس المدرسةِ الأخير:
وجَدْنا كلَّ شيء كما هوَ
نحن لعبة الأيادي الخفيّةِ
والغِيابُ جِنيّةٌ تكبر باستمرار ٍ
على نوافذَ مقفلةِ المواعيدِ
عليها أناسٌ أغبياءُ
يسألون بدون توقفٍ
ليزدادوا حزناً.
العينانِ نافذةٌ العَمى
تبحثان كالنحلةِ الغبيّة عن أجمل الأزهار.
من قال أن النرجسَ أجملُ من الياسمين
وبحارُ الألوان في سُهوبِ الثلجِ
أجمل من سوسنةٍ كرملية ٍ
نامت على خدّ كنعانية ٍعجوزٍ
نسيتْ كم كان شَعرُها جميلا؟
الجمال هو الشجرةُ العظيمةُ
التي تتسلقُها الصفاتُ،
هو الحديقةُ كلّها،
والأزهارُ تنام على صِفاتِها
لكي تراها الأعينُ العمياءُ
كما يشاءُ العَمَى.
قال الجرس:
أخطِئوا كثيرا لكى لا تقودكم الأسئلةُ
إلى مداخل الكهوف التي فخَّخَتْها الأيدي الخفيةُ
لتلعقَ خمرة الفرح عن شفاهكمْ،
أعِدّوا الفرحَ والحزنَ في بيوتكم كما تُعِدّون القهوة
وتناولوه عن موائدكم
لن يناولكَ أحدٌ الماءَ سوى امرأةٍ تُحِبُّكَ
والآخرونَ سيناولونكَ العطشْ.
أخرُجوا بدون ترددٍ،
دعوا فوهاتِ المصيرِ
تُعَربِدُ في وجوهكم كما تشاءُ
ولا تخافوا !
الخوفُ شَرَطِيٌ على الورقْ
كلمةٌ تُحِبّ نفسَها وتكرهُ الآخرين،
ولكن لا شيء بالمجّانِ
الكراهيةُ نصف الخوفِ
والحُبُّ نِصفُهُ الآخرُ،
والأرضُ التي تخاف البحرَ
تُقدِّمُ كلّ جداولها العذبَةِ قرابينَ لسفينةِ نوحٍ،
لا تفعلوا هذا أبدا،
لا تقدِّموا شيئا للخوف ِ
كاهنُ الرذيلة هوَ
هيكلُه من حجارة ِالسقوطِ
وفِناءُ روحه قيلولةٌ للشياطين.
أنا حارسُ روحِكم.
قال الجرسُ الأخيرُ للمدرسةِ:
تَذكَّروا عتباتِ الصُّعود الرخيمةِ إلى شُرفةِ الفرَحِ
مَجِّدوا خطواتكم على عَتبَةِ الفراقِ
ولا تنظروا إلى الخلفِ،
كل الأبواب ستكون مفتوحةً لعبوركم
عدا الأبواب التي خلفكم.
أَكمِلوا دربَ اليَراعَةِ واحتَرِقوا
لا تنطفئوا أبداً.
من احترقَ لم يمُتْ
ومن انطفأَ لم يَعِشْ.
جرس الحكاية الأول
كانتَ هناكَ… أنا التفاتي
والمكانُ غيابُها،
أمشي مدىً خلفَ المكانِ
على طريقٍ لا يسيرُ به سوايْ.
أنا لهفتي لأظلَّ طيفاً في الحكايةِ
حين تخلعُني على حجرٍ
وتدخل فيه عاريةً من الآتي
وأدخلُ في الصدى شَغفاً كظِلِّ الأغنيه،
تَتَزاورُ الأصداءُ أحياناً
فتنثرها الرياحُ على وُجومِ الأوديَه
ونظلُّ أوديةً إلى بحرِ الوجومِ
فليس من معنى لهذا الموتِ أو سببٍ،
فأين هو السّببْ؟
تدنو عصافيرُ الحضورِ كأنها لم تأتِ
إلاّ كي تناولنا الغيابَ وتختفي
خلفَ التفاتتنا،
وتمعنُ في الغياب وفي الحضورْ.
ماذا تريدُ بنا الحكاية ُ كي تُبَدِّدَنا الطريقُ سُدىً على وقتِ العبورِ إلى العبورْ؟
في الوقت مُتسعٌ وأيامٌ بلا عددٍ لنَحياها،
وابوابٌ مهيأة لنطرُقَها بأجنحةِ القدومِ،
نمرُّ كالشفتينِ من عبَثِ الفراقِ إلى الوصالْ،
لكنّ خاتمةَ الحكايةِ لا تفارقُ وقتَنا.
كم كنت أعرفُ أنّني وقتُ الحكايةِ
سوف تفعلُ ما تُريدُ بوقتِها،
وأنا بوقتي سوف أفعلُ ما أُريدْ:
وصلٌ غيابُكِ لا يغيبُ فكلما
صهلَ الغيابُ على الوجوهِ
رأيتُ وجهَك في غيابِ الآخرين.
وصلٌ غيابُكِ لا يغيبُ،
فهل ذَكَرْتِ
متى ذكَرتِ..؟
وهل نسيتُ…
متى نسيتْ؟
هاتي غيابك ّ مرّتين ِ
لكي يُضاعفَني الحضورُ
على غيابكِ مرّتينْ،
وأرى صُدود الياسمينِ
على حضوركِ مرتينْ
فأضمَّ صدَّكِ نحو صدري مرتينْ.
وصلٌ غيابُك لا يغيبْ.
طارت عصافيرُ الحكايةِ في صباحِ العاصفه
لم يبقَ في وجَعِ الحضورِ سوى المكانْ
وأنا جناحا صخرةٍ
حَطّتْ على وصْلِ المكوثِ
تضمُّ جِنحيها وتخشى أن تطيرْ
وَصْلٌ غيابُكِ لا يغيبْ.
جرس الحكاية الثاني
دائما كُنا وحدنا
أنا، وانتُما معاً
هي تعطيكِ الشجرَ والنرجسَ والينابيعَ والعطرَ والمطرَ والسماءْ،
وأنت تُعطينها الأسماءَ والأجراس َوالنوافذَ والعُشّاقْ،
تُعطينها صلواتِ الإبتسامةِ على شفتيكِ
لتكبُرَ الإبتسامة ُعلى شفتيها،
وتُطَيّرينَ على نسماتِها مناديلَ الحزنِ والفرحِ
لتسقيَكِ رحيقها المُرَّ على صخرة النسيانِ التي نَخَرَ صمتُها وقعَ أقداميَ الحافيةِ على ذبولِ الأرصِفَه.
حبيبتي !
أنيقة ٌوطيبةٌ انتِ كَحبّةٍ من اللؤلؤ
تحاول العودة إلى البحر في سفينة للقراصنة.
لا بأس يا حبيبتي
قد يكون الغيابُ نافذة ًمغلقة
أو محارةً في قاع البحر
أو امرأةً في هُوَّةِ الصدودِ،
ولكنَّ في هوّة القلب يسكن الغائبون
الذين لا يمكنهم الغيابُ أبدا.
والإنسان عصفور الغابة الأصغر
عليه أن يسقط من جناحيه ليطيرَ
لأن السماء لا تطيقُ كبرياءَ الأجنحةِ،
تُعطي العصفورَ جناحين من الماءِ
لتُعيده الشمس ُ
إلى الجدول الذي تتوضّأُ فيه الطحالب؟
اللعنة عليَّ كم أُحبُّكِ !
انا الذي يرتاح في تعبه كل مساءٍ
يفتشُ في حديقة حزنه اليوميّ عنكِ
ليجد بين أشواك الوَحْشةِ المعتمةِ
التي غَرسَها بيديه بين ثياب الخميلةِ
زهرةً يعجز حتى الآن عن تخيُّلها.
كيف يمكن لزهرةٍ أن تَليقَ بها؟
تقول الأشواكُ التي زَرَعَتْها السماء:
من بين كل الأشياء الجميلة
خُلِق الحبُّ وحيداً
كذلك الزهرةُ التي تليقُ به.
لكنني في المساء
حينما استظِلُّ ثيابَ نسماته العَسَليّة
أظن أنني لمحتُ يداً كيدكِ
تحمل زهرةً بلون عسل النحل
سَيّدُ كل الألوان في عيدها،
ومن البعيدِ البعيد
يهمس الصدى ترانيم عذارى ” عناة”
وألمحُ صخرةً كرمليةً تُشبِهُ جواداً أشهب
يُقَلِّبُ صهيله على سفح رابيةٍ مسائية
كأنه جرسٌ يدعو عرائسَ المروج.
لها
للصَّمتِ مئذنةٌ على باب الوجومِ
تؤمُّها في الليل أشرعةُ الصدى المُرتدِّ
لكنّ النوافذَ قد أدارتْ للشوارع ظهرَها،
مَنْ يقتفي أثَرَ الهديلِ علي الستائرِ
حين يكشفُ عاشقٌ أسراره للنافذه:
يؤلمني الليلُ ضعفَ النهارِ
عرفتُ صداها نهاراً
فما جاءنى الليل إلا غدوتُ غريباً
إلى أن يعود الصباحْ.
يجيءُ الصدى من مَحارِ الحكايةِ
ترسو السفينة في رملها كي تنامَ،
وتنعفُ أنّاتها للرياحْ.
دعيني أغنّي السماءَ التي أمطرتْني
صباحاً،على عشبها وسقتْني العطشْ
فماذا يفيد جذوري الأنينُ
بأرض رَوَتْ صخرَها بالدموعِ
ليفرحَ في حزنها الأنبياءْ؟
سأملأُ من وحشةِ الحُب كأسي
وأشرب في غابة الكبرياءْ
نبيذ انتظارِكِ في الكأسِ خمراً
لأن كُرومَ غيابكِ
حزنُ الصباحِ
وسُكْرُ المساءْ.
جرس اللعبة الأول
حينما استدارتْ المِرآةُ
المعلّقة ُعلى شرفة المدينة الريفيةِ،
اختفى كل شيء ما عدا وجهَها
وبقايا أُمسيةٍ رَعَوية ٍعلى قرميد الأبنيةِ اللاتينيةِ
التي ما تزالُ شاخصةً نحو الشمالْ.
ومن أعماق الأجمةِ التي تُؤوي المتعبينَ
تنبعث ُأصابعٌ حجرية ٌشاهقةٌ
تُشيرُ إلى السماءِ كأنها الصُّوى،
على الطرق التي عَبَّدتْها أقدامُ الطيورِ المُقْعده.
المعابدُ لا تعرف الصلاةَ
تقرأُ بريدَ السماءِ على رُوّادِها
الذين جاءوا ليشاهدوا راحةَ نفوسهم الأزليةِ
على الضفة الأخرى لمَلَكوتِ الأرصفة.
يرفعون النداءَ ويقرعونَ الأجراسَ
ويشُدّون آذانَ الأغنياءِ في الصّلاة حتى تَحمَرَّ،
بينما يُسرع الفقراء في الخروج من المعبدِ
ليستبدلوا أحذيتهم المهترئة بأحذية الأغنياء،
ثم يواصلونَ شُكْرَ السماء على كَرَمِها.
اما الذين كانوا يمتطون ظهورَ الصلواتِ
التي ما زالتْ في طريقها إلى الله
فيُسرجون خيولَ الصَّيد
إلى شوارع الغَداءِ الفارغة من الناس،
لاقتسام حقول الظهيرة بالتَساوي
بين تَبادُلِ الشتائم، وملاحقة الشياطين
في بيوتِ الفقراء.
لا أحدَ لا يعرفُ من أين تأتيهم الرسائل،
هل يَحبسُ الناسَ في عُلَبِ الكلام
ويَحبسُ الأرضَ في عُلَبِ الحجارةِ
سواهم؟
من غيرَهم يقول أن الناسَ الذين يُولدونَ،
يحضرون فقط ليمارسوا الجِنسَ والتجارةَ
لأنَّهما لعبة السماءِ المفضَّلة.
يقتلون الأنبياءَ ويرتدون أصواتهم
ليقولوا أنَّ السماءَ خَلقتِ الفقرَ لتعشقَ الفقراءْ،
صَنعَتِ الجوعَ لكي تُربِّتَ على وجناتِ الأطفالِ
الجائعينَ وتزرعَ في جراحهم النازفةِ سَوْسَنة الرّحمة.
السماء تعشق الشفقة َ وتعطيها لدموعها لا ليَدِها
لكي يتعلم الفقراءُ الحُبَّ بالحِرمان.
يقولون هذا، ثم يخترعون السّلالم الباهظةَ الثّمن
ليُبعدوا الفقراءَ عن يدِ السماء.
أيها المُهرِّجون !
ألعابُ السماء لا تَجري على السلالمْ
وإذا كنتم تُحبّون الله كما تدَّعون َ
فلماذا لا تحلمون بعد الِغداءِ
إلا بفاكهةِ الشياطينِ وحلوى النساءِ
وتلعنون حُبَّنا في بيتِ أبينا؟
جرس اللعبة الثاني
بعد انصرافها
لم يعد لديَّ ما يكفي من الأمكنة على اليابسه.
صنعتُ لي بحراً آوي إليه في النهارِ وكتبت ُ الشعر في الليلْ.
سألتُ عنّي مرَّةً، فرأيْتُني نوتياً أحمقَ يُبحِرُ في سفينتهِ الرّمليةِ نحو مرافيء العتمةِ ليريحَ ذراعيه من التجديفِ،
قلتُ: لماذا لا تنتظرُ الليل هنا لترتاحَ
فقالَ هازئاً:
مِمَّ سأرتاحُ عندَها؟
نحن أوراق اللعبةِ جعلونا موائدَ للجوعِ والتعبِ، نأكلُ لنجوعَ ونرتاحَ لنتعبْ،
ندفع ثمن خلاصنا منِ الحياة مراتٍ لا تُعدُّ مثلَ إبرةِ آلةِ الخِياطةِ، التي لن تتوقّفَ إلا حينما ينتهي الخيط.
قلتُ: أو تنكسرَ.
قالَ: الإنكسارُ ليسَ خلاصاً
تستطيعُ أن تنكسرَ متى شئتَ وتنتهيَ في سلةِ النفاياتْ.
– ما هو الخلاصُ إذن؟
هو ما لا يستطيع أحدٌ أن يُريَهُ لكَ، إنه أنتَ.
– قد يكون هذا لعبةً أخرى تظنُها خلاصا !
– نعمْ. الخلاصُ هو أن تلعبَ لعبةً أخرى
من يمشي ليس كمن يُساقُ، ومن يَرْوي ليس كمن يَستمعُ، وعلى الجداول أن تعصيَ ماءَها،
تهجرُ مجاريَها التى اختارها المنحدرُ َولا تجيبُ على
أسئلة الصخور
تقولُ لها اتبعيني إذا شئتِ
أنا شراع رحلتي إليَّ، سأكتُبُني على السفحِ بألوانِ الشغفِ مثلَ لوحةٍ جداريةٍ مُوقَّعًةٍ، لتعرفَ سيدةُ النّرجسِ من رَسَمَها.
إنَّ التعاسةَ أوسعُ الأبوابِ تستقبلُ كلّ الناسِ على موائدها. منْ أكل من خبزها شبع جوعا، ومن شربَ من مائها ارتوى عطشا. أَحِبَّ الموتً ولن تعرفَ المرضَ ! هل تحبُّ الموتْ؟
– الموتُ دوْرةٌ أخرى في المكانِ، وأنا لولاها هيَ ما أحببتُ هذا المكانَ
أبداً.
إياكَ أن تسألني عنها فهيَ تُحِبُّ الغيابَ كغابة الكستناءِ،
تلتفُّ بجمالها كالحورية النائمة.
– سألتُكَ إن كنتَ تحبُّ الموت؟
– ولماذا علىَّ أن أعرفَ الآن؟ فما دامتْ هيَ هنا فلن أموت.
قالَ: لا يسقطُ المجانين عن أقدامهم إلا في الحُفرِ، ولا يقفونَ إلا على أبوابِ النوافذِ المغلقة؟
– ليس لك روحٌ تُريكَ الفرقَ بين الحبِ والثرثرة ِ، تظلُّ تطوفُ كالنحلةِ حولَ شفتيكَ إلى أن يلتقطكَ طائرُ الحكايةِ الأعمى.
أنا أنتَ وأنتَ أنا، ولكنْ لا روحَ لك.
قال: أغاني الرمالِ في صحاري الجسدِ ليستْ روحاً، يَكتُبنا وجَعُ العُزلةِ بمخالبهِ على جدرانِ الوهمِ في أزِقَّةِ الجسدِ، ويصنعُ الألمُ روحَ السفينةِ من أنينِ الخشبِ واستغاثةِ الصاري وتَمزُّقِ الأشرعةِ ومن يأسِ البحّارةِ ودهشةِ الفراقِ في رسائلِ الوداعِ القصيرةِ،
الروحُ هي قشعريرةُ الجسدِ العابرةُ حينما يرَى الشظايا.
– كلا، هذه ليستِ الروح
هذا هو الخوف.
في مكانٍ مّا من الجسد همسةٌ ترابيةٌ أخيرةٌ، مثل منديلِ السوسنة …
امرأة ٌمّا تشبه الأبتسامةَ تنشرُ عليك ارتعاشاتِ فرحٍ من سمائها فتقولُ:
شكرا لمن ألقتْ علي عناقَهَا
وتمضي بدون وداعٍ
كأنك ستراها غداً.
أجراس الآه
-1-
’’يا شرطيَّ اللهِ هل سَلختَ ساعدي
لِترقَعَ السواعدَ التي مزَّقها سوايْ‘‘... راشد حسين
كيف يمكن أن تجمع كل هذه النار
في لفافة تبغ واحدة
ولا تحترق !
لقد أَحزنتَ أُمَّكَ كثيراً
حاولث أن أجعلها تبكي
فتعجَّبَتْ:
إذا كان كل قبر على تلك الرابية ِ
له امرأة تبكيهِ
فمن سيبكي الأحياء إذن !
ماذا تخافُ الأمُّ على ابنها الذي مات؟
-2-
أيتها الآه
يا رخيمةَ الصدى
أنيري شموعك عند أقدامهم.
تركوا أيامهم معلقةً في الحقولِ،
ونظراتِهم ما تزالُ تقلِّبُ العابرين
على أرصفةِ الشوارع كما تقلّبُ الثياب.
أما النساءُ فعلقوهنَّ في الليالي الباردةِ
وقالوا لهنَّ تدفأنَ بالإنتظارْ،
الحَطبُ ما زال يملأ الطرقاتِ
ونحن سنعودُ كما جئنا أول مرة.
حَوِّلنَ أبوابَ الخيام ِإلى السّقوف ِ
لكي يراها الميتونَ،
حيثُ تتربّع أجيال المواسم العارية ِ،
تنتظرُ الأشجارَ التي ستنبُتُ على سجّادةِ الغيومِ
ليُكمل الموت عبورهُ فيهمْ
بدون أن يَرى أحداً منهم.
ثم شَدّوا قاماتِهمِ المُنتصِبةِ كالصّواري
وأقاموا أصابعَهم الوسْطَى للمُودِّعين وقالوا:
خذوا أيها السفلة !
حينما أتينا كُنا مثلكًمْ
لم نعرفْ من نحنُ
أو ماذا يُوجد هنا،
ولماذا حقولٌ أوسعُ من حقول
وبيوتٌ أكبر من بيوت
ونساءٌ أجمل من نساء.
ولكنّا عرفنا عندما لسعَتْنا السياط،
أنّ الذين يركبون العربات
لا يجرّونها،
وأن الذين يجرّونها
هم الذين يحملون السياط على ظهورهم،
يسوقُ الحوذيُّ العربةَ ملوحاً بسوطه ِ
لكن السيِّد الجالس في مؤخرةِ العربةِ
هو وحده الذي يعرف متى يُكلّمُ الحوذيَّ بعينيه
لِيضعَ السوطَ على ظهوركم.
أنتم يأسُ العالم الذي لا يموت.
-3-
أيتها الهِنْدِيَّةُ المحمّلةُ بالتوابل
إلى عُرس أختها الصغيرة،
أيتها العانس التي خانها الحظ ُّ،
تحملُ على كاهلها
أفراحَ العائلة وأحزانها،
قولي آه.
أيتها العنيدةُ كطعم الزنجبيل،
إن التوابل تُريح القلبَ كالذكريات،
تمسح الحزنَ، وتوقظ ُ الأوجاع الصديقة
التي تعيد للوجه ملامحه القديمة
وللأزهار المحنية الرؤوس ضِعفَ عطرها.
قولي آه
ودَعي الصّدى
يُعلِقُ قبلةً من حِنّاءِ الغضبِ
وراء نهدكِ الأيسرْ.
’’لماذا يعلقون القناديل
من الجهة التي تأتي منها الريح ‘‘
شكراً لميشيل حداد.
-4-
أيتها الآه
أنت خميلة الصحراء التي محاها المطرُ
وعروسُ القبائلِ التي اشترتْ بِحَيْضِها
بِشارةً لليلةِ السّبْي،
أميرة ُالغناء أنتِ في مآتم الشّعرِ
وكتابُ النسيان على مقعدِ الذاكرة.
يا رشيقةَ الخُطى
لو عرفتُ قبلك ما يصنعُ الصّدى
لعلّقتُ ابتسامَتكِ على موضع التقبيل من شَفتيّ
كما فعلتِ العانسُ الهنديةُ
في عرس اختها الصغيرةِ.
علقتْ ضِعفَ ابتسامتِها
في زينةِ العُرسِ
وما تبقّي من الحب في تابوتِ الإنتظار.
لو كنتُ مكانها
لجعلتُ الحبَّ أصغرَ من التابوتِ
والإبتسامةَ أصغرَ من الشفتين.
الصِّغارُ أقربُ إلى الشفقةِ
وأبعدُ عن الذاكرةِ في ليليّاتِ
الحقد الجماعية،
لكنَّ الشفقةُ خَمرةُ الوَضيع
يصعد السلالمَ على أقدام الموتى،
وفي آخر الليل يتقيأ على شَفقتهِ.
لو أشفقَتْ نفسي عليَّ لقتلتُها
أما النِسيانُ فلا علاقة له بالمَيْتِ
إنه النعاس الذي يُعيد الوضيعَ
إلى حضنِ أُمِّهِ الوَثيرْ.
يأكل خبزها ويشكرُ الخَبَّاز
’’أنا لو عصرتُ رغيف خبزيَ في يَدي
لرأيتُ منه دمي يَسيلُ على يدي.‘‘ راشد حسين
أجراس الصهيل
البارحةَ
صمت الصهيل فجأةً،
وحطت رائحة الحنطة على ثياب المساء،
وعلى الباب الذي خرجت منه الشمس
أنزل الأفق ستارته العسلية الناعمة
وبدأت فرقة عرائس المروج
رقصها المُذهَّبِ على مسرح عناة.
صارَ الرقصُ فاختفتِ الأجساد،
لا هويةَ للرقص الكنعانيّ
لأنه ذاكرةٌ على حضورِ الجسد.
هذا هو النسيان.
سوف ألمس روحك بشفتيَّ يا غائبةَ الشفتين،
لتوقظَ صخور كنعان جيادَها النائمة
فتشرئبَّ أعناقُها الخمريةُ من مخادع الصخر
وتردّ على الصهيل.
لولا الصمتُ لم يكنِ الصهيل
غيومُ الصّمتِ هي التي تُمطر فقط
والسفوح تدحرج صهيلها إلى الأودية
فتتدفق الأودية بالغناءْ،
ألقممُ وحدَها تظل صامتة ً كالقبور
لتظل معلقة ً في السقوط.
جرس المَسْخ
دخلوا الكلامَ حكايةً مما يريدُ القلبُ
لا مِمّا يرددهُ الخفاءُ، على بحارٍ
ماؤها سفرٌ إلى سفرٍ موانئهُ سفرْ:
كنعانُ مملكةُ العبور من السماءِ إلى السماءِ،
ومن حقولِ الأرضِ تبتديءُ السماءُ حقولَها
وعُبورَها.
ولربما دخَلَ الحكايةَ عابرٌ من بابِها الخلفيِّ
واقتحمَ الكلامَ إلى الكلام ِ فصار من روادها،
كيف استفقنا راحلين على مدىً
لم تمش فيهِ ركابُنا، وحكايةٍ ليست لنا
هذا المكانُ مكانُنا
مذ لا زمانَ سوى لنا،
والناصريّ عبورُنا نحو السماءِ
لأنها غرَسَتْه إذ غَرسَتْه في بُستانِنا
عمْداَ، ليصبح إبنَ كنعانية مِنّا
ويُصبح في السماء سليلَها وسليلنَاَ
صَعد العلاءُ إلى العلاءِ وقَبْلَها
كم مرّ عبرَ حقولنا مشياً على
عشبِ الحقولِ وسارَ في حاراتِنا.
كيف استدار زمانُنا ومكانُنا
فينا لنفقدَ أرضَنا وسماءَنا
ونصيرَ صوتاً في حكاية عابرٍ
يروي صدى النّاي التي صَدحَتْ بها
ساحاتُنا ورعاتُنا وسفوحُنا،
وقلوبنا تُصغي وتكتم بَوْحَها
فاللَّحْنُ منها والكلامُ كلامُنا،
كنعان مُتَّكأُ السماءِ ورحلةُ الزمنِ الشّهيدِ
قوامها نَخلٌ ونايٌ علّقَتْها الريح في وَثَباتِها
كانتْ …
فصارتْ لا غِناءَ سوى الصدى
يُملى قصائدَها على ناياتهِ
لتصيرَ من ناياتِها،
والحزن يوجِعُ،
والصدى حانُ الغريبِ وخمرُهُ،
هو كأسُها، وكرومُهُ نُدمانهُ
والغائبون عن الحكايةِ أهلُها
دمُهمْ ورحلتهمْ وشارعُ موتِهمْ
منها وأشلاءُ القصائدِ موتُها.
إن لم نكنْ بابَ الحكايةِ من نكونُ
وليس بين الدار والمنفى سوانا
البابُ كلُّ الدارِ والمفتاحُ صاحبُها
ونحن مواسمُ السِرِّ التي أفضى الترابُ بها
إلى كنعانَ ينظرُ عبْرَ نافذةِ التريُّثِ في الّصّباحِ
وعبرَ نافذةِ التَوَثُبِ حين ينتصف النهارُ،
تَدافُعَ الأشياءِ في وَهَجِ الحضورِ على جهاتِ
الأرض مثل السَّابِلَه.
تمشي الحقولُ على الحقولِ
وتُولَد الأروأحُ في روضِ الحكايةِ
من غموض ِالدرب تعزفُ لحنها فينا الملاحمُ
بعدَ أن عَبرتْ طُفولتُنا سياجَ الأسئله.
كنعانُ مملكة ُالعبورِ البِكْرِ
من شمسٍ إلى شمسٍ،
هنا كَتبتْ وصاياها الحياةُ
وخبأتْ أسرارَها أرضُ القيامةِ:
كلُّ أمسٍ قادمٌ من أمسِهِ طفلٌ
على اليوم الجديدِ
ولا يرى إلا طفولتَه الجديدةَ
وهي تعدو في ابتسامتها
على دربِ الوَسامه.
كلُّ العصور أتتْ إلى عُمَّادها
في نهرنا أو بحرنا أو برِّنا
والأرضُ تكبرُ حول عُشِّ الروحِ في يدِنا
نربي فيه أسرابَ الحمام الزَّاجِله
طيري،
هنا وُلِدَ السّلامُ فَبلِّغي الدنيا السلامْ.
دربُ السماءِ طويلةٌ لكنها دربُ السماءْ
ولقد مشينا في مكائدها إلى دمنا،
كَبَوْنا مثلما يَكبو الرَّضيعُ على الرضيعِ
كأننا مَسْخٌ على مَسْخٍ
يُكدِّسُنا الهباءُ على الهباءْ.
كنعان غادرت الصدى
حُزناً
فصار الحزنُ سيدَ روحِها
يلهو به الوترُ المهاجرُ في الصدى
يلوي اراجيحَ الهُيام بصوته ِ
عنها، ويعطي صمتَها نزواتِهِ
شَغَفاً تُبادلهُ القصائدُ عارَهُ بحروفِها
جرس القيامة
وسفينةٍ شبَحٍ تنازعها الرياحُ شراعَها،
حطَّ الوصول بها على أحزان سيدةِ العُلى
تستل من دمها العَلِيِّ صَلاتَها
وتضيء في ليل المدينةِ شمعةً
من ذاته ألقى بها في ذاتِها
وقفوا على الصمت الحزين ليزرعوا
صلواتهم في صمتها وترابها
ألماً لتسمعه يمامات العزاءِ
تَرِفُّ مثل الضوءِ في قسماتها.
يا أمَنا …..!
(من يزرعون حقولهم حطباً
فماذا يحصدون ْ؟
تَتَألمونَ وتَفرحونَ وتَعرفونْ
أن الحكاية لم تكن نَصّاً على
عَظْمِ الصلاة يقوله قَسٌ وبائي
يُراوِدُ نفسَهُ عن نفسِهِ
أو كان عجلاً من عجولِ الفقهِ
يُخفي شرّهُ في خيرهِ
يَلِجُ الصلاةَ إلى الصِّلاتِ مُقَرْفِصا في بطنهِ،
كانت صباحَ الرّوح في جسدِ الحقيقةِ
فاتْبَعوا دربَ الحقيقةِ
لا دواء لها سواه !
ألحُبَّ حادثةُ الحياةِ بنصّها الأزليِّ
والكونُ الجميلُ هو التولد من عناء الذاتِ
يلقيها الوضوح، على غموض التجربه.
إن العزاء لمن رمَتْ
كفُّ المشيئة حتمَها في دربهِ
لتقود أرواحَ الترابِ إلى فِناء الآلهه
وتقولَ أن الحُبَّ معجزةُ القيامةِ
والقيامةُ لا مكان لها على غير الترابِ،
ولا عزاء لكُم
سوى أن تُولدوا مما وُلِدتُم مرةً أخرى
على حتمِ الإرادةِ، كي تكونوا. )
كم أنتَ سيّدُ روحِنا !
من جاء يطرقُ باب سيّدهِ فلن يخشى الطريقَ
لأنها وصْلٌ على ألَمِ الوصولِ يصيرُ فيه الحزنُ مرثيةً لمن شربوا بهِ خمرَ المحبةِ من كؤوسِ المَعصِيَه.
أنت الطريقُ إليكَ، كل محبةٍ وصلٌ ولكن الفداءْ
روحُ القرابين التي جاءت لتفديَ روحها بالكبرياءْ
ممن أقاموا في أقاصي الروحِ يبنون المعابدَ للحجاره،
لنكون عُشباً في الحقول لخَيْلهم
أو مورداً للماءِ في بئر الكهانَه،
ونكون عهداً للسيوفِ على الدماءْ،
ومآدباً للموتِ تحرسُها الذئابُ من الكلابْ.
لسنا نريدَكَ أن تعلِّمَنا الذي عَلَّمْتنا
لكن في أجسادنا برقٌ تخبؤهُ
مواعيدُ الترابِ مع السحابْ،
تأبى الأمومةُ أن يموتَ وليدُها
ولكلِّ أمٍ صَدْحةٌ مكنونةٌ تلِدُ المطرْ
في غير موعدهِ،
تعيد إلى الحكاية رُشدَها.
صدحتْ أهازيج السيوف على ضفاف النهرِ
فاستدعت مذابحَنا الدروبُ
وعَلَّقونا في الفصولِ على مواعيدِ القِطافِ
كأننا ثمرٌ يناوله الشجرْ
لسِلالِهم غصباً بأيدينا
وأنت ترى، ولكن لا ترانا؟
ها هنا كنا ابتدأنا الحقلَ واكتشفوا مرايا الماءِ
كي يتسللوا منها على مطر السراب إلى السحابْ
ها هنا كنا ابتدأنا الحبَّ واسماً واحداً للناسِ
وابتدأوا الخرائطَ والقبائلَ والمنازلَ والعقائدَ والعقودْ
وتسوَّروا جهةَ السماءِ لكي يكونَ سجودُنا
عند الصلاة لهمْ ونسجد في مداهم لا مَدانا،
ونريدُ درباً لا يسير بنا إلى أحدٍ سوانا،
سنجيء في دمنا لنولدَ منه بين يديكَ ثانيةً
على زمن يريدُ كما نريدُ،
فأعطنا الدربَ الذي هو أنتَ
واملأ مشيَنا تعباً
وعزةَ روحِنا ندماً لنعرفهُ.
أنت الذي أعطيتنا نصفَ الحقيقةِ مثلهمْ
لم تُعطهم أو تعطِنا كل الحقيقةِ
لا خيارَ مع الحقيقةِ كُلِها
غيرَ التَّدحرُجِ كالحجارةِ من يديكَ على انعدام السفحِ
في عَدَمِ الحكايه،
من أنتَ إلا ما نُريدُ ونحنُ إلا ما تُريدْ؟
الأرضُ ترفُضنا
لقد سئِمَتْ مبادلةَ الترابِ بمثله فينا
وأعلنَتِ السرابْ
لنُقيمَ فيه إمارةً الموتى ليفْهمَ سرَّها الإحياءُ
إن الأرضَ تكتبُ روحها بحروفها.
نمتدُّ مِنّا كالجُسورِ إلى مرورِ القادمين
من الضباب إلى الضبابْ،
يَلِدُ الغموضُ وجوهَهم من وجهِهِ
وعلى الوضوح تصدُّنا أسماؤنا
عن نفسِها،ويكاد يُنكرنا الغيابْ.
السيفُ يصنعُ روحَهُ والروح تعرفُ سيفَها،
وُلِد الجميعُ على فراشِ الماءِ من حُبٍّ وطينْ
لكننا مُتْنا كما شاؤوا على بابِ الحديقة ِ
ثم قمنا في ثياب الدهشةِ الأولى نُفَتِّشُ عن طريقْ.
والآن يكتملُ النِّصابُ كما أراد بنا غيابُكْ.
تقف الحياةُ أمامَ بابكَ مرةً أخرى
وتحجبها صلاةُ السيفِ،
يبتعدونَ عنكَ إليكَ كي يقفوا بباب الإعتذارِ
فأعطنا إن شئتَ معصيةَ القدومِ إليكَ
واملأ كأسَنا ندماً
لنُهرِقَهُ على دمِنا الذي لم تَحْمِهِ مِنّا،
فإن الرّوحُ مفتاحُ الحقيقةِ، والجسدْ
كأسٌ لخمرتِها ودربْ،
وغداً سيحملنا القدومُ إليكَ
يا ملكَ القيامةِ كي تقولَ لنا
هل كل نرجسةٍ تموتُ لكي تَموتَ؟
فأين نذهبُ في المكانِ
ولا مكانَ سوى السّياجِ وراء هذا السًجنِ
يا ملكَ القيامةِ،
هل نجيءُ لكي نموتْ؟
(الجسد يعرفُ، والروحُ هي التي تفهمُ السِّرْ
حين تعودونَ خذوا بأيدي الحقولِ المُهمَلَةِ
ونواصي الشجرِ وأسقوا عطشَها،
رويداً رويداً تتعلمونَ الحُبّ.
إذا أحَبَّ الإنسانُ حقلَه وافتداهُ بدمِه عرفَهُ
لأن الأرضَ حقلُ الإنسانِ، والحُب جنّتُه الوحيدةُ
لا تخافوا الموتَ إنه عَربَةُ البريدِ ووقفةٌ لوداعِ الأَحِبَّه
فَدعوا الوقوفَ على سفوحِ الأضرحةِ للتائهين وواصلوا الحبَّ،
بعد موتِكم تَصِلونْ )
تركوا السفينة َخلفهم ْ،
ومشَوْا على الماء المقدّس خلفهُ،
حتى لآخرِ قطرةٍ في الكأسِ من دمِهم
يُحبونَ الحياه.
(أيها الروح المتجسّدةُ حُبّاً وتراباً
أنتَ الأرضُ والناسُ والمعرِفه
وهو وحدَه الكلّ
وانت المُريدُ به قيامةَ الإنسان
لأنه وحده المشيئةُ والدربْ
خذنا إليه على دمنا !)
أحمد حسين
12/6/2016
نقلاً عن ساحة التحرير