أسطورة ياموت
أُسْطورَةُ «ياموت»
في زَمَنٍ كانَ، اقْتَسَمَ الرَّبُّ «يَهومانُ» العالَمَ مَعَ زَوْجَتِهِ.
قالَتْ «عَيْناتُ»: سَأخْتارُ الشُّعَراءَ لِمَمْلَكتي.
قالَ «يَهومانُ»: أنا أخْتارُ البَزّازينْ.
خُذي البَحْرَ وَأعْطيني السُّفُنَ، خُذي الدَّرْبَ وَأعطيني الأرْصِفَةَ، وَلا يَدخُلُ مَمْلَكَتي الشُّعَراءْ.
قالَتْ «عَيْناتُ»: خُذِ الأشْرِعَةَ وَهاتِ الرِّيحَ، خُذِ الذَّهَبَ وَهاتِ الرَّعْيَ، وَلا يَدْخُلُ مَمْلَكَتي البَزّازونْ.
قالَ: لَكِ الزَّيْتونُ لِيَ الزَّيْتُ، لَكِ الفُقَراءُ لِيَ الخَدَمُ، لَكِ الرَّقْصُ لِيَ السّاحاتْ.
قالَتْ: وَلِيَ الخَشَبُ لَكَ الأَبْوابُ، لِيَ التَّعَبُ لَكَ الضَّجَرُ،
لِيَ القَمْحُ لَكَ الخُبْزْ.
- أُسَيِّجُ مَمْلَكَتي بِالجُنْدْ.
- أُسَيِّجُ مَمْلَكَتي بِالثُّوّارْ.
- لِيَ السَّوْطُ...
- لِيَ الغَضَبُ...
- لِيَ القَتْلُ...
- لِيَ الأزْمِنَةُ...
- وَآخُذُ «ياهوتَ» كَبيرَ السَّحَرَةِ...
- آخُذُ «ياموتَ» كَبيرَ الشُّعَراءْ.
تَجْلِسُ «عَيْناتُ» على «دَرَجِ الحورِيَّةِ» فَوْقَ سُجودِ الماءِ، تُلاعِبُ بِخَواطِرِها البَحْرْ.
يَخْرُجُ مِنْها الزَّمَنُ إلى أرْبَعِ جَنَباتِ الأرْضِ يُلَمْلِمُ وَيُبَعْثِرُ كَالطِّفْلْ.
فَإذا شاءَتْ ضَلَّتْ سُفُنُ البَزَّازينَ، وَإنْ شاءَتْ غَرِقَتْ.
تَعْبَثُ بِالزَّمَنِ فَتَرْتَدُّ الأَشْرِعَةُ إلى ريحِ الأَمْسِ، يَصيرُ الحاضِرُ حُلُمًا...
فَيُجَنُّ الرُّبّانُ، وَيُبْحِرُ بِسَفينَتِهِ نَحْوَ بِلادِ الشُّعَراءْ.
يَنْبُتُ لِلرَّبَّةِ إذْ ذاكَ جَناحانِ مِنَ الفَرَحِ وَتَمْتَدُّ الأَعْيادُ مِنَ الأُفُقِ إلى الأُفُقِ، وَيَمْضي الرُّبّانُ بِخَشَبِ المَرْكِبِ لا يَحْمِلُ لِلْبَزّازينَ سِوى دَهْشَتِهِ...
ذلِكَ وَعَلى السَّفْحِ الأخْضَرِ «ياموتُ» جَوادًا مِنْ مَرْمَرْ.
يَنْطِقُ عِشْقُ الرَّبَّةِ في شَفَتَـيْهِ، فَيَنْـبُتُ زَغَبُ الرِّقَّةِ في الصَّخْرِ، وَفي ساقَيْهِ، فَيَنْفَتِـحُ كَبابِ الحِصْنِ كَأنَّ خُيولاً تَخْرُجُ
مِنْـهُ، وَتُخْفي الرَّبَّـةُ وَجْهَ العالَمِ بِالنَّوْمِ لِئَلّا يَسْمَعَ شَيْءٌ آهَتَها.
نَقَصَ الطِّيبُ بِآنِيَةِ الرَّبِّ، وَضَجَّ البَزّازونَ أمامَ الهَيْكَلِ بِتَرانيمِ الحَسْرَةِ...
قالَ لـ«ياهوتَ»: لِماذا اخْتَرْتُكْ؟
قالَ: لِتَعْبُرَ فِيَّ إلى النّاسْ.
قالَ بِغَضَبٍ: أوْ أرْسِلَكَ إلَيْهِمْ.
قالَ بِذُلٍّ: أوْ تُرْسِلَني.
قالَ: فَهَلْ أرْسِلُكَ لِتَحْرِقَ مُدُنَ الشُّعَراءْ؟
قالَ: إذا شِئْتَ، وَلكنَّ أولئِكَ غَنَمٌ تَرْعى في حَقْلِ الرَّبَّةِ، لا يَمْلِكُ أحَدٌ مِنْهُمْ إلاّ فَرْحَتَهُ...
تَأتي السُّفُنُ إلَيْهِمْ بِمَشيئَتِها.
قالَ: أَغيظُ بِهِمْ «عَيْناتْ».
قالَ: إذا شِئتَ! وَلكِنَّ الأجْمَلَ أدْعَى لِلْحُزْنِ إذا ضاعَ، وَإنَّ الدُّرَّةَ «ياموتْ».
قالَ: ولكِنَّ الرَّبَّةَ أعْطَتْهُ خُلودَ الآلِهَةِ، سَقَتْهُ بِكَأسي، وَأباحَتْهُ سَريري.
قالَ: ألا أخْطِفُهُ؟!
قالَ: يَعودُ عَلى طَرَفِ مَشيئَتِها.
تومِئُ لِلزَّمَنِ فَيَرْتَدُّ، وَيُصْبِحُ ما كانَ كَأنْ لَمْ يَأْتِ، فَإنَّ الرَّبَّةَ تَتَحَكَّمُ في الأزْمِنَةِ وَلا أتَحَكَّمُ فيها.
قالَ وَلَمْ تَنْطِقْ شَفَتاهُ: أخافُكَ، لكِنَّ ألاعيبَ الآلِهَةِ مُدَوَّرَةٌ يَكْثُرُ فيها الإحْكامُ كَما يَكْثُرُ فيها التَّمْويهْ.
لَعَلَّ العالَمَ يَرْسو كَالمَرْكِبِ في دَعْوى القُدْرَةِ، لا يَتَحَكَّمُ
فيهِ سِوى هَدْهَدَةُ المَوْجِ وَريحُ الصُّدْفَةِ، وَالآلِهَةُ عَلى الشَّطِّ تُراقِبُ وَتَدورُ مَعَ الرِّيحِ لِنَحْسِبَ أنَّ الرِّيحَ تَدورُ مَعَ الآلِهَةِ فَنُؤْمِنُ بِالغَيْبْ!
قالَ «يَهومانُ»: تُجَدِّفُ بَيْنَ يَدَيَّ! سَأرْميكَ وَراءَ الأزْمِنَةِ، فَلا تَقْدِرُ حَتّى الرَّبَّةُ أنْ تَسْتَرْجِعَكَ، أعَذِّبُكَ عَذابَ الضِّدَّيْنِ فَلَيْسَ تَعيشُ وَلَيْسَ تَموتُ، وَلا يَعْبُرُ جَسَدَكَ إلاّ الضَّجَرُ الخالِصُ، وَهَوامُ الصَّمْتِ الأزَلِيّ.
قالَ: وَهَلْ يوجَدُ في الكَوْنِ مَكانٌ لا يَحْويهِ الزَّمَنُ، وَلا تَتَحَكَّمُ فيهِ الأرْبابْ؟
قالَ: فُقاعَةُ صَخْرٍ تَحْتَ قَوائِمِ عَرْشِ الرَّبَّةِ، بِذْرَةُ عَدَمٍ سَوْداءَ، عَلى فُوهَتِها يَتَوَقَّفُ ماءُ البَحْرِ بِلا سَبَبٍ، وَالرِّيحُ تَجيءُ وَتَرْتَدُّ، وَضَوْءُ الشَّمْسِ يَموتُ كَهَمْهَمَةٍ، وَضَجيجُ الكَوْنْ.
قالَ: هُنالِكَ فَاحْبِسْ «ياموتَ» إذَنْ!
قالَ: لِذاكَ اخْتَرْتُكْ!
لَيْسَ يَشُقُّ غِلافَ الزَّمَنِ سِوى السِّحْرِ، وَلا يَدْخُلُ ذاكَ الكَهْفَ وَلا يَخْرُجُ مِنْهُ سِوى السَّحَرَةِ، فَافْعَلْ!
قالَ: وَهَلْ أعْدَدْتَ لِغَضَبِ الرَّبَّةِ؟...
لَنْ تَتَّسِعَ بِلادُ البَزّازينَ لِصَيْحَةِ ثَأرٍ واحِدَةٍ.
قالَ: سَيَشْغَلُها الحُزْنُ عَنِ التَّدْبيرِ، وَتَعْبَثُ أنْتَ بِأَخْيِلَةِ الشُّعَراءِ، تُمَوِّهُ فيهِمْ ألْفاظَ العِشْقِ، فَلا يَذْكُرُها غَيْرُ الهَجْرِ، وَتَفْرَحُ بِالنِّسْيانْ.
تَرْتَدُّ قَرابينُ الشِّعْرِ إلَيَّ لِأنَّكَ سَتُزَيِّفُ صَلَواتِ الشُّعَراءِ، فَيَسْكُتَ في الرَّبَّةِ حُبُّ الخَلْقِ، وَحُبُّ الثَّأرِ، وَلا تُبْدِعُ غَيْرَ الحُزْنْ.
قالَ: سَأسْقي الشُّعَراءَ بِكَأسٍ فيها أسْرارُ المَوْتِ جَميعًا. أغْزوهُمْ بِالخَوْفِ وَبِالتَّسْليمِ، وَأزْعُمُ أنَّكَ مَلِكَ الكَنْعانِيّينَ، وَبانيَ أوروشَليمَ وَرَبَّ الفِرْدَوْسِ الشَّفَقِيّ.
أزَوِّجُهُمْ بِالعُقْمِ، أبادِلُهُمْ طينَ الأرْضِ بِأوْهامِ الفُقَراءِ، وَأغْنيهُمْ بِالجوعْ.
لَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ الكَنْعانِيِّ الغَضَبُ وَلَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ التَّسْليمْ.
آخُذُ مِنْهُ سَريرَتَهُ.
أطْرُدُ مِنْها النَّشْوَةَ وَصَهيلَ الخَيْلِ وَأمْلَأُها بِرُغاءِ الإبِلِ وَأسْماءِ الشَّهَواتْ.
أُلْقيهِ بِبِئْرِ السَّجْدَةِ حَتّى تُدْمِنَ جَبْهَتُهُ الأرْضَ وَعَوْرَتُهُ الآفاقْ.
يَسْتَوْطِنُهُ مَجْدُكَ، تَهْجوهُ بِشَفَتَـيْهِ، وَتَأسُرُهُ بِيَدَيْهْ.
- فَإذا انْقَطَعَ السِّحْرْ؟!
- يَكونُ انْقَطَعَ الوَصْلُ، وَأدْمَنَ مَجْراهُ النَّهْرُ، وَمُدُنُ السّاحِلِ غَيْبَتَها.
ماذا تَصْنَعُ أيّامُ الوَجْدِ بِزَمَنٍ كَالشّادوفِ، إذا عادَتْ عَكّا لَمْ يَعُدِ البَحْرُ، وَإنْ عادَ البَحْرُ امْتَنَعَتْ مُدُنُ السّاحِلِ، أوْ يَلتَئِمَ الوَصْلُ، وَتَغْتَسِلَ المُدُنُ الكَنْعانِيَّةُ مِنْ أثَرِ الغَزْوِ، وَيَجِدَ الزَّمَنُ الكَنْعانِيُّ مَدينَتَهُ.
- هَلْ يَلْتَئِمُ الوَصْلُ؟
- إذا جاءَ الرَّجُلُ الأغْلَفْ.
- وَيَجيءْ؟
- لا يَعْرِفُ ذلِكَ أحَدٌ، لكِنِّي أحْكَمْتُ العُقْدَةَ: لا يَأتي الرَّجُلُ الأغْلَفُ إلاّ إنْ بَطُلَ السِّحْرُ، وَلا يَبْطُلُ إلاّ إنْ غادَرَ
«ياموتُ» السِّجْنْ.
- وَكَيْفَ يُغادِرُهُ؟!
- يَسْتَيْقِظُ في الرَّبَّةِ حُبُّ الكَشْفِ، وَتَشْتاقُ قَرابينَ الشِّعْرِ، فَتَمْشي في الشُّعَراءِ وَلا تَعْثُرُ إلاّ بِالشَّحّاذينْ.
- تَشْتاقُ لِتَرْنيمَةِ عِشْقٍ لَمْ تَلْمَسْهُ الرِّيبَةُ كَلَيالي العُرْسْ.
تَنْشُرُ أصْداءَ الرَّغْبَةِ، مِثْلَ شِباكِ الصَّيْدِ، عَلى الطُّرُقاتِ، وَتومِئُ لِبَناتِ البَعْلِ، بِأنَّ زَمانَ الصُّدْفَةِ قَدْ حَلَّ، اهْبِطْنَ إلى صَهَواتِ الصَّخْرِ العائِمِ في نَبَراتِ الأرْضِ، سَيَأتي الرَّجُلُ الصُّدْفَةُ مِنْ كُلِّ الأبْوابِ المُغْلَقَةِ، رَشيقًا كَالسِّرِّ، خَفيفًا كالنَّظَراتِ شَجِيّاً كَتَباريحِ «النّاياتِ المَشْدودَةِ في أعْناقِ جِيادِ الرِّيحْ».٭
(أشْتاقُ لِصَوْتٍ لَمْ تَخْدِشْهُ الكَلِماتُ، مَليئًا بِظُنونِ الحُبِّ، وَعَبَثِ الأطْفالِ... لِتَرْنيمَةِ عِشْقٍ فيها مِنْ «قُنْدولِ الكَرْمِلِ، مِنْ سَرِّيسِ الشّاغورِ، وَغارِ الجَرْمَقِ، وَحَنينِ جُذورِ الصَّفْصافِ إلى الأعْماقِ»٭٭).
فَإذا جاءَ الرَّجُلُ الصُّدْفَةُ، مَنَحَ الرَّبَّةَ قُرْبانَ الشِّعْرِ، وَأيْقَظَ فيها حُبَّ الخَلْقِ، وَأعْطى قُرْبانَ الجَسَدِ لِـ«ياموتَ» فَأقْبَلَ يَعْدو في زَمَنِ الغَيْبَةِ كَالنَّسْرِ، وَجاءَ الزَّمَنُ المُبْصِرْ.
- لكنْ هَلْ يَأتي؟
- إنَّ الصُّدْفَةَ سَيِّدَةُ الكَوْنِ، وَلا تَفْتَحُ بابًا لِلظَّنِّ، وَقَدْ يَأتي الرَّجُلُ الصُّدْفَةُ أوْ لا يَأتي الرَّجُلُ الصُّدْفَةُ، ذلِكَ أمْرٌ مَتْروكٌ لِلصُّدْفَةِ، لا يَعْرِفُهُ...
- أُصْمُتْ!
إنَّ الصُّدْفَةَ لا تَدْخُلُ مَلَكوتَ المَوْتى!
فَإذا أحْكَمْتَ التَّبْديدَ وَطالَ زَمَنُ الغَيْبَةِ، ضاعَتْ كُلُّ دُروبِ الوَصْلِ وَحَلَّ الزَّمَنُ الأعْمى.
إذْهَبْ!
(- ماذا تَصْنَعُ في زَمَنِ المَوْتى؟
- لا يوجَدُ لِلْمَوْتى زَمَنٌ.
هَلْ يولَدُ أحَدٌ في المَوْتِ، وَهَلْ يَخْرُجُ مَقْتولٌ مِنْ حاضِرِهِ..؟
- نَحْنُ زَمانُ المَوْتى!
يَمْضونَ كَما الطَّيْرُ، وَتَبْقى الأعْشاشُ الفارِغَةُ تُفَتِّشُ فينا عَنْ نَظَراتِ الحُزْنِ، تُفاجِئُنا كَالعَثَراتِ عَلى الدَّرْبِ، فَتَنْكَسِرُ الخُطُواتُ وَنَسْقُطُ في شَرَكِ الأمْسْ.
نَتَلَكَّأُ في الأيّامِ نُفَتِّشُ عَنْ أصْدافٍ تُبْرِقُ كَالخِدْعَةِ، خَرَجَتْ مِنْها السّاعاتُ، نُقيمُ لَها أفْراحَ الشِّعْرِ، فَيُصْبِحَ أمْسُ هُوَ اليَوْمُ، وَلا نَخْرُجُ مِنْهُ إلى شَيْءٍ غَيْرِ السّاحاتِ الخَلْفِيَّةِ، وَفَنادِقَ تَسْكُنُها غُرَفُ النَّوْمِ الأزَلِيّ.
ذاكَ هُوَ المَوْتْ!
- وَذاكَ هُوَ الحُلْمْ!
دَرَجٌ يَمْشي فيهِ الصّاعِدُ وَالنّازِلُ، يُشْبِهُ دَرَجَ الحورِيَّةِ، كُلُّ زَمانٍ فيهِ لَهُ زَمَنٌ، لكِنْ لا يَخْرُجُ مِنْهُ سِوى المُسْتَقْبَلِ، وَيَظَلُّ الحاضِرُ وَالماضي لُغَةً في وَجْهِ الطِّفْلِ وَموسيقى في ألْوانِ الظَّنِّ وَأخْيِلَةِ الشُّعَراءْ.
هَلْ تَحْيا الضَّفَّةُ إلاّ في زَمَنِ النَّهْرِ المُتَدَفِّقِ بَيْنَ المَنْبَعِ
وَالبَحْرْ؟
مَنْ بَدَأَ الكَوْنَ الأَوَّلَ غَيْرُ الحُلُمِ المُتَلَهِّفِ لِدُخولِ الأيّامْ؟
- ألحُلُمُ هُوَ النَّوْمْ!
- ألحُلْمُ هُوَ الضّاحِيَةُ، هُوَ النَّوْرَسُ، زَمَنٌ قَبْلَ البُرْعُمِ، يَبْدَأُ مِنْهُ الثَّمَرُ وَأبْوابُ المُدُنِ وَأسْماءُ الشُّطْآنْ.
- لَوْ عَرَفَ النّائِمُ مَعْنى اليَقْظَةِ ضاعَ الحُلُمُ،فَكَيْفَ يَكونُ هُوَ البابْ؟
كَيْفَ يَكونُ المُسْتَقْبَلُ دَرْبَ العَوْدَةِ، وَالأيّامُ القادِمَةُ هِيَ البُعْدُ القادِمْ؟
أتَعودُ بِسُفُنٍ تُمْعِنُ في الهَجْرِ، إذا أمْعَنْتَ النَّظَرَ إلى الشّاطِئْ؟
ذلِكَ وَهْمْ!
إنَّ البَحْرَ حَقيقِيٌّ لا تَقْطَعُهُ السُّفُنُ الأشْباحُ، وَهذي المَرْكِبُ غَرَقٌ.
لا تُوغِلْ في الوَهْمِ فَيُفْلِتْ مِنْكَ الشّاطِئُ، تَخْطِفْكَ الزُّرْقَةُ، وَالأعْماقُ المُفْتَرِسَةُ وَهُدوءُ القاعْ!
- مَنْ لا يَفْهَمُ حُلُمي لا يَفْهَمُ لُغَتي.
كَيْفَ يَعودُ النَّهْرُ إلى مَجْراهُ، وَيَسْتَرْجِعُهُ البَحْرُ مِنَ الصَّحْراءِ إذا لَمْ يَنْهَدِمِ السَّدّ؟
لا بُدَّ مِنَ الرِّدَّةِ حَتّى نَسْتَرْجِعَ أبْوابَ مَدينَتِنا.
إنَّ الحاضِرَ شَرَكٌ في مُنْتَصَفِ الدَّرْبِ الكَنْعانِيِّ، وَلَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ سِوَى المُرْتَدّ.
لَنْ يَنْبُتَ في الطِّينِ الهِجْرِيِّ سِوى الطُّحْلُبِ، وَالقَصَبِ المَتَضَوِّرِ، وَفَراغاتِ اليَأسِ النّاعِمِ، وَطَنينِ الشُّبُهاتْ.
ماذا نَفْعَلُ في الزَّمَنِ المُسْتَنْقَعِ حَيْثُ يُرَبِّى الشَّيْءُ الهِجْريُّ كَدودَةِ قَزٍّ، يَدْخُلُ فيهِ العالَمُ مِنْ ثُقْبٍ كَيْ يَخْرُجَ مِنْ ثُقْبٍ آخَرْ؟
يَتَحَرَّكُ بِخَفايا الغَيْرِ، فَلا يُدْرِكُ حَتّى دونِيَّتَهُ في الخَلْقِ، لِأنَّ العَقْلَ المُتَضائِلَ يَخْرُجُ مِنْهُ مَعَ الوَقْتِ وَيَبْقى الفِكْرُ الجاهِزُ كَطَعامِ الكَلْبِ يُزَوِّرُ قِرْدِيَّتَهُ...
يُؤْمِنُ بِالذُّلِّ كَما يُؤْمِنُ بِاللّهِ، وَيُؤْمِنُ بِاللّهِ كَما يُؤْمِنُ بِالذُّلّ.
- إبْكِ إذا شِئْتَ، وَلكِنْ لا تَطْلُبْ أنْ تَسْتَرْجِعَ مَوْتاكَ، وَلا أنْ تُولَدَ ثانِيَةً في الأرْضْ.
لا يَعْرِفُ أحَدٌ كَيْفَ اسْتَوْلى السَّمَكُ عَلى البَحْرِ، وَلكِنْ لا تَخْرُجُ أشْواقُ السَّمَكِ مِنَ البَحْرْ.
كَذلِكَ أنْتْ!
- مَنْ لا يَفْهَمُ حُلُمي لا يَفْهَمُ لُغَتي.
لا يَعْرِفُ أحَدٌ كَيْفَ اسْتَوْلى السَّمَكُ عَلى البَحْرِ، لِأنَّ السَّمَكَ اخْتارَ البَحْرَ، وَلَوْ شاءَ ارْتَدّ.
لَوْ خَرَجَتْ أشْواقُ السَّمَكِ مِنَ البَحْرِ، وَدَخَلَتْ في الحُلُمِ، لَحَلَّقَ بِجَناحَيْنِ إذا شاءَ، وَلَوْ شاءَ عَلى الأرْضِ لَسارْ.
تَخْتارُ الطَّيْرُ أغانيها، وَالأشْجارُ غَلائِلَها، وَالذِّئْبُ مَخالِبَهُ... وَأنا أطْرُدُ أشْواقي عَنْ بابِ العالَمِ، أدْخُلُ حُلُمي كَيْ أخْتارْ.
ماذا أصْنَعُ بِزَمانٍ بَيْتي فيهِ الهَرَبُ، وَوَجْهي فيهِ المِرْآةُ، وَأمْجادي فيهِ العارْ.
يُشْنَقُ فيهِ العُصْفورُ، وَيُجْلَدُ فيهِ الشَّجَرُ، يَبيضُ الطّائِرُ في
الفَخِّ، وَتَلِدُ الكَنْعانِيَّةُ في النّارْ.
يُطْرَدُ فيهِ الثَّدْيُ عَنِ الطِّفْلِ، الحُزْنُ عَنِ المَيْتِ، المَيْتُ عَنِ القَبْرِ، الشِّعْرُ عَنِ الشّاعِرِ، وَالمُحْتَضَرُ عَلى أطْرافِ الغُرْبَةِ عَنِ اسْمِ الدّارْ؟
ماذا أصْنَعُ في هذا الشَّرَكِ السّافِلِ بَيْنَ القُطْبَيْنِ، يُمَيِّزُ أسْماءَ الطَّيْرِ، وَيَخْتارْ.
- لا أفْهَمُ هذا الحُلُمَ، وَلكِنِّي أفْهَمُ هذي النّارْ.
لَوْلا أنَّ الشِّعْرَ دَنيءٌ أيْضًا، لَرَثَيْتُكَ بِكَلامٍ يَفْهَمُهُ الطّائِرُ في القَفَصِ، وَجِلْدُ الشّاةِ عَلى الحائِطِ، وَدَمُ الأشْياخِ بِبَدْرٍ، وَسَبايا طُرْوادَةَ في الإبْحارْ.
هذا وَجْهُكَ لَنْ يَحْمِلَهُ غَيْرُكَ، هذا حُزْنُكَ لا يَنْبُتُ إلاّ فيكَ، وَهذا حُلْمُكَ لا يَعْرِفُ مَعْنى البَحْرِ سِوى البَحّارْ.
أيْنَ تُفَتِّشُ عَنْ شِعْرٍ يُشْبِهُ حُزْنَكَ إنَّ الكَوْنَ فَقيرٌ بِالأشْعارْ.
- إنَّ الكَوْنَ غَنِيٌّ بِالأشْعارْ.
لكِنَّ فُصولَ البَهْجَةِ لا تُولَدُ إلاّ في التَّذْكارْ.
لا تَدْخُلُ إلاّ مِنْ نافِذَةِ الحُزْنِ المُبْعَدِ، بَيْنَ الغُصْنِ الذّابِلِ وَنَوايا الزَّهْرِ القادِمِ في الأشْجارْ.
إنَّ الكَوْنَ غَنِيٌّ بِالأشْعارْ.
لكِنَّ عَناقيدَ الكَرْمَةِ تَخْزِنُ فَرْحَتَها في الحاناتِ، وَلا تُفْتَحُ أبْوابُ القَلْبِ نَهارًا، وَالعِشْقُ تُغَلِّفُهُ الأسْرارْ.
ما زالَ السِّحْرُ يُقاوِمُ أفْراحَ الأرْضِ وَيَغْمِسُ إصْبَعَهُ المَوْبوءَةَ في الأنْهارْ.
فإذا أقْبَلَ «ياموتُ» وَباحَ الكَوْنُ بِما فيهِ، انْطَفَأَ السِّحْرُ،
وَخَرَجَ الشِّعْرُ إلى النّاسِ يُعانِقُهُمْ، وَتَحَدَّثَتِ الأزْهارْ.
- ما أجْمَلَ هذا لَوْ أنَّ العالَمَ يَخْرُجُ مِنْ شَفَتَيْكْ!
لَوْ أنَّكَ تَمْلِكُ في هذا العالَمِ غَيْرَ النّارْ.
- أمْلِكُ أيْضًا هذي الأشْعارْ.
- إقْرَأْها حينَ أغيبُ. وَألْقِ بِها في البَحْرِ، لِيَعْرِفَني حينَ أعود،ُ وَيَكْتَمِلَ المِشْوارْ.)
جَلَسْتُ عَلى صَخْرٍ يَتَضَوَّعُ بِأحاديثِ رُعاةِ الغَنَمِ وَأسْماءِ الزَّمَنِ الحُسْنى.
وَسَمِعْتُ سُكوتَ النّاياتِ نَشازًا يَتَرَدَّدُ في موسيقى الصَّمْتِ، وَشاهَدْتُ الرِّيحَ تُبَعْثِرُ ألْوانَ ثِيابِ القَرَوِيّاتِ عَلى السَّفْحْ.
أُغْنِيَةٌ تَطْرُقُ بابَ الظَّنِّ، تُذَكِّرُ بِالحُبِّ الأوَّلِ، وَنِداءاتٌ تَعْدو عِنْدَ سِياجِ الأُفُقِ كَأنَّ الصَّمْتَ يُطارِدُها.
أشْباحٌ تَدْخُلُ لَوْنَ الطِّينِ وَتَخْرُجُ مِنْه.
وَقْتٌ كَالشَّفَقِ المُرْتَدِّ إلى الأعْيُنِ، تَخُفُقُ فيهِ عَباءاتُ اللَّوْنِ الغامِضَةُ، لَهُ ظِلٌّ تَتْبَعُهُ العَيْنُ إلى أطْرافِ المَوْجِ، إذا دَخَلَ البَحْرَ اهْتَزَّ كَما يَهْتَزُّ القارِبُ، وَتُحَرِّكُهُ الرِّيحُ كَأطْرافِ الثَّوْبِ، فَيَكْشِفُ ساقَ الزَّمَنِ، المَهْزولَةِ كَالنَّصْلْ.
ألْقَيْتُ عَلَيْهِِ الشِّعْرَ فَهامَتْ فيهِ الكَلِماتُ كَأسْرابِ الطَّيْرْ.
أوْمَأْتُ لِشَدْوانَ فَأقْبَلَ في هَيْئَةِ طِفْلٍ يَقْطُرُ مِنْهُ البَحْرْ:
سَألْقي كَلِماتِكَ في النّاسِ لِتَرْجِعَ في ميراثِ الحُلُمِ وَتَعْزِفَكَ النّاياتُ المَوْعودَةُ عِنْدَ شَبابيكِ الدُّورِ القادِمَةِ، نَشيدًا يَفْرَحُ فيهِ الدَّمْعُ، يُذَكِّرُ بِالسَّبْيْ.
آمَنْتُ بِخَوْفِكَ، هذا زَمَنُ الكَنْعانِيِّ التّائِهِ، يَتَآمَرُ فيهِ الدَّرْبُ،
تَخونُ بِهِ السّاعاتُ وَلا يَصْلُحُ لِلْعَوْدَةِ، نَدَمٌ فيهِ الحُبُّ، سُقوطٌ فيهِ الوَصْلْ.
بِاسْمِكَ أفْتَحُ بابَ النَّدَمِ لِمَنْ شاءَ، وَبابَ الحُلُمِ لِمَنْ شاءْ، فَلا يَصْعَدُ مِنْ «يَثْرِبَ» إلاّ النّادِمُ، أوْ يَدْخُلُ «مَكَّةَ» إلاّ الحالِمُ، فإذا خَلَعَتْ شَمْسُ الكَنْعانِيِّينَ عَباءَتَها السَّوْداءَ، تَسَلَّقَ ماءُ الصُّبْحِ وُجوهَ المُدُنِ الذّابِلَةِ وَأسْماءَ فُصولِ السَّنَةِ اللاهِجْرِيَّةِ، وَبَدَأْنا الطَّرْقَ عَلى أبْوابِ مَدينَتِنا.
بِاسْمِكَ اللّهُمَّ، نَعودُ لِدَهْشَتِنا.
نَخْرُجُ مِنْ ظَمَأِ المُحْتَضَرينَ بِبَدْرٍ، وَنُعيدُ السَّيْفَ إلى عُنُقِ المَقْتولْ.
٭ من قصيدة للشاعر حنا أبو حنا.
٭٭ مقتبسة عن المصدرالسابق.