السمكة
قالت السمكة لابنتها:
- اذهبي! أنت حرّة الآن!
وقبل أن تبتعد الأمّ، استطاعت السمكة الصغيرة أن تسأل:
- ما هي الحرية؟
وتوقفت الأمّ، ونظرت إلى ابنتها بعينين يبدو فيهما الأسف وقالت:
- الحرية هي القوّة!
وقبل أن تتابع الأمّ طريقها في الماء، انقضّت عليها سمكة أكبر منها وابتلعتها. ثم انقضّت على السمكة الصغيرة تحاول ابتلاعها هي الأخرى. ولكن الصغيرة استطاعت أن تقذف نفسها في الوقت المناسب داخل حضن من الشعب المرجانية وتختبئ فيه. وبدأت السمكة الكبيرة تدور حولها محاولة الوصول إليها، ولكن حجمها الكبير لم يمكّنها من ذلك. وقبل أن تتعب من المحاولة ويدركها اليأس أدركتها سمكة قرش صغيرة وابتلعتها هي الأخرى.
وقالت السمكة الصغيرة لنفسها:
- سمكة القرش الصغيرة هي الحرّة الآن!
وسارت السمكة الصغيرة بحذر شديد في الماء، منتقلة من شعبة مرجانية إلى أخرى، ومن طحلبة إلى طحلبة. وكان أكثر ما يضايقها لونها الأحمر الذي كان يجذب عيون الأسماك إليها، ولكنها استطاعت أن تصل أخيرًا إلى شاطئ حيفا.
اختبأت السمكة الصغيرة في الماء الضحل تحت أقدام أعلى صخرة على شاطئ الكرمل، وهناك أخذت تفكر بهدوء وأمان.
وقالت السمكة لنفسها:
"إذا كانت الحرية هي القوّة فليس هناك حرية على الإطلاق. كلّ سمكة كبيرة يوجد في مكان ما سمكة أخرى أكبر منها، والسمكة الأكبر لا يمكن أن توجد أبدًا، فالبحر يضع أسماكًا كلّ لحظة، ولا تدري أية سمكة إذا كانت هي الأكبر فعلاً أم أن هناك سمكة أو أسماك أخرى أكبر منها. لا حرية أبدًا في البحر".
وقررت السمكة الصغيرة أن تبقى في مكانها قريبًا من الشاطئ. ولكنها مع ذلك لم تتوقف عن التفكير، وفجأة خطر لها أن السمكة الأقوى هي التي تستطيع ابتلاع البحر.
وخيّلت لها طفولتها أنها قد اكتشفت السر الذي لم يعرفه أحد. وبدأت تبتلع البحر.
وما أن فتحت شدقيها الصغيرين حتى تدفق الماء إلى جوفها بقوّة وكاد أن يخنقها.
وحزنت السمكة الصغيرة حزنًا شديدًا، وكاد يصيبها اليأس، ولكنها عادت وقالت لنفسها:
"إنني لن أستطيع ابتلاع البحر من المرّة الأولى. يجب أن أتمرّن على الابتلاع قبل ذلك وأن أنتظر إلى أن يتسع شدقاي ويكبر جوفي".
وفكرت السمكة في شيء تستطيع ابتلاعه فلم تجد غير الصخرة. وفتحت شدقيها الحمراوين وانقضّت على الصخرة وبدأت بابتلاعها.
ومرّ وقت غير قصير وهي تدور حول الصخرة وتنهشها مرّة من هنا ومرّة من هناك، إلى أن أدمت شدقيها. وهنا ضحكت الصخرة وقالت بتسامح واستعلاء:
- أيتها الصغيرة الحمقاء! إذا كان البحر الذي قذفك لم يستطع ابتلاعي فكيف تستطيعين أنت ذلك؟
وفهمت السمكة.
ليس أنها لن تستطيع ابتلاع الصخرة فقط، بل وأنها لن تستطيع التفكير أيضًا في ابتلاع البحر. وبكت بكاءً مرًا فأشفقت الصخرة عليها وسألت:
- لماذا تبكين؟
وقالت السمكة الصغيرة:
- كنت أفكر بابتلاع البحر، ولكنني أعرف الآن أنني لا أستطيع.
وتعجّبت الصخرة:
- ولماذا كنت تريدين ابتلاع البحر؟
فقالت السمكة وهي تشهق بعنف:
- لقد قالت أمّي إن الحرية هي القوّة، وقد عرفت أن السمكة الأقوى هي التي تبتلع البحر.
وقالت الصخرة:
- لقد كذبت أمّك عليك. الحرية ليست القوّة.
وسألت السمكة مستغربة:
- ما هي إذن؟
فقالت الصخرة بصوت مفكر وهادئ:
- الحرية هي البحر.
- البحر!!
وتابعت الصخرة كلامها:
- لو استطعتِ أن تبتلعي البحر فسوف تصبحين أقوى من نفسك، وستفقدين حرّيتك لأنك لن تجدي مكانًا تعيشين فيه.
وصرخت السمكة الصغيرة:
- ولكن ماذا أفعل!
فأجابت الصخرة بهدوء:
- إذهبي إلى البحر وابتلعي سمكة أصغر منك.
وهتفت السمكة برعب:
- والسمك الأكبر! إنه سيبتلعني!
وقالت الصخرة:
- هكذا هو البحر. وأنت مثل كلّ الأسماك الأخرى، فحتى السمك الكبير سيبتلعه السمك الأكبر فلماذا لا ترضين بقانون البحر؟
وفكرت السمكة بما قالته الصخرة فلم يعجبها، ولكنها لم تجد ما تفعله غير العمل بنصيحتها. لو بقيت هنا قرب الشاطئ فسوف تموت من الجوع، وإذا عادت إلى المياه العميقة فربّما ساعدها الحظ واستطاعت أن تنجو من الأسماك الكبيرة كلّ مرّة، كما نجت منها أول مرّة. إنها لن تستطيع الوصول إلى القوة، ولكنها قد تستطيع النجاة بالحيلة والحظ، فلتكن الحرية منذ الآن هي الحظ، والحيلة. وصرخت السمكة الصغيرة وهي تغوص في المياه العميقة:
- تعال أيها الحظ، واسعفيني أيتها الحيلة!
ولم يسمعها الحظ، ولم تجد الوقت للحيلة، فقد كانت إحدى الأسماك الكبيرة تنتظرها قريبًا من الشاطئ، فلم تع نفسها إلاّ وهي في جوف السمكة الأخرى.
كان جوف السمكة واسعًا كالبحر نفسه، وهناك وجدت فيه سمكة أخرى أكبر منها أيضًا، وبكت من الغضب والحزن معًا. ولكن السمكة لم تمهلها لتستنفد حزنها أو غضبها. انقضّت عليها وابتلعتها.
وكان جوف السمكة الأخرى واسعًا أيضًا بالنسبة لها. ولكن ما الفائدة! فإن سوء الحظ يلازمها. وكان السمكة التي وجدتها هناك أكبر منها أيضًا فابتلعتها.
وفي هذه المرّة لم يكن جوف السمكة كبيرًا جدًا ولكنه كان واسعًا أيضًا بما فيه الكفاية. وليس هذا فقط، فقد كان فيه سمكة صغيرة، أصغر منها هي. وأحسّت ببهجة شديدة تغمرها في هذا البحر الصغير الذي كانت هي فيه أقوى الأسماك جميعًا، وانقضّت على السمكة الصغيرة وفتحت شدقيها اللذين ظهرا لها الآن كبيران عاتيان، وصرخت وهي تبتلع السمكة الصغيرة:
- الآن تحرّرت!