مع فوزي البكري "شاعر القدس" في ديوانه:
قناديل على السور الحزين
بقلم رزق صفوري عضو المجمع العلمي للابحاث- القدس
فوزي البكري في سطور
· ولد وما زال يقطن في أحد أزقة القدس – سنة 1946م.
· متزوج وأب لستة أبناء.
· حصل على الثانوية العامة سنة 1965م.
· درس الأدب العربي سنة جامعية واحدة ولكن ظروف حرب 1967 حالت دون مواصلته الدراسة.
· تتلمذ على والده المناضل الفلسطيني المرحوم الشيخ ياسين البكري، ثم تولى تثقيف نفسه بنفسه وصقل موهبته حتى أصبح شاعراً مرموقاً.
· عمل في التدريس بضع سنوات ثم عمل صحفياً ومحرراً في عدد من الصحف المحلية.
· يعمل حالياً محرراًً ومدققاً للمطبوعات في جمعية الدراسات العربية.
· صدرت مجموعته الشعرية الأولى تحت عنوان "صعلوك من القدس القديمة" في أواسط الثمانينات عن دار الصوت للنشر في الناصرة.
· أصدرت له "جمعية الدراسات" في سنة 1987 كراسة شعرية تضم ثلاث قصائد للقدس بعنوان "شدي حيلك يا بلد".
صفاته
في شعره فيض من نفسه الثائرة وتصوير لهذه النفس، آلامها وآمالها في عبارات تتميز بعمق الإحساس، وجدة التفكير وصدق الكلمة والتعبير.. ينتزعها من صميم الواقع المؤلم والمعاناة التي تعيشها أمته العربية.
ومن المؤسف أنه رغم الإنجازات الأدبية لشاعرنا.. ورغم أن الجوائز والرتب والألقاب الأدبية تمنح "للي يسوا واللي ما يسواش".. رغم هذا كله أواسط أعلامنا لم تتطرق الى أدبه إلا فيما ندر، والنادر ليس له حكم لا لشيء إلا لأنه ليس من أدعياء الأدب والمعرفة، وليس من أولئك الذين "يلقحون جثتهم" على أبواب دور الأعلام ومؤسساتها لنشر إنتاجهم..!!
والسمات البارزة في علاقة شاعرنا البكري بمجتمعه أنه صريح في قول الحقيقة إلى أبعد حدود الصراحة. وصراحته هذه جاءت في عصر يكره فيه معظم الناس من يبصرهم بسلبياتهم,, فهو من الذين لا يقولون للأعور" يا أعور فحسب بل يحدد له "عوره" يقوله" يا أعور يمين أو يا أعور شمال".
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن الحقيقة إذا ما اختمرت في مخيلته فإنه يلقيها سافرة، هادرة بلا نقوش أو رتوش أو مراعاة، وهو إذ يفعل ذلك لا يخشى لومة لائم.
ورغم أنه من ذوي الألسن السليطة – كمن سبقه من شعرائنا الأوائل كبشار بن برد والأخطل التغلبي في حدة هجائمهما، إلا أن سلاطة شاعرنا البكري تستند دائماً إلى حقائق وبينات لا يرقى إليها الشك.. فالحقيقة في رأيه هي الحقيقة رغم مرها وحلوها، ورغم اللغة أو اللهجة أو الأسلوب الذي يجب أن تقال به ومن هنا انطبق عليه قول "جان دارك روسو": كلما ارتفع الإنسان في كشفه الحقيقة، كلما تكاتفت حوله غيوم الأخطار والمحن.
شاعريته ولغته
يحتل شاعرنا، حول أصول ألوان والقافية كأساس للشعر – بين الشعراء المعاصرين مكانة خاصة.. فهو أولاً وأخيراً بارع، حاذق، عارف بأسرار اللغة وخفاياها معرفة اللغوي الشاعر.. وعلى هذا الأساس يعتبر فوزي البكري من حيث التألق بأسرار اللغة والإيحاءات والصور مؤشراً للقصيدة الحديثة وشاعر القدس.
وبالنسبة إلى شعره فهو أكثر من مشاعر وانطباعات عبر عنها بأسلوب مجازي، إنه نظام دقيق تحدد في سياق لغوي مكثف، وتعود أهمية السياق اللغوي إلى كونه يرى ويفسر ويعبر عن موقف الإنسان بكافة مراحله..
ومن حيث وقوعه على هامش نظام البيت والتفعيلة فإنه يرتبط بالماضي التقليدي، فالبكري شاعر يقف بين مرحلتين، حاملاً بين يديه علامتين، علامة اسمها الأصالة، بكل ما في هذه الكلمة من دلالات، وعلامة أخرى اسمها الحداثة.
ولغة القصيدة لديه أشد بنيانية من اللغة خارج القصيدة، فاللغة هي المحور والأساس في الكتابة الأدبية.. بحيث يتعذر وجود الأدب بمعزل عن وظيفة اللغة.. فاللغة هي أساس الثقافة، وهي أيضاً القاعدة الأثبت والأشد تنظيماً لكل ثقافة، بمعنى أن اللغة جوهر ليس فقط في الأدب، هي إمكان خلق التصور أي أنها جهاز خلق التصور، والإنسان قادر على خلق التصور واللغة تساعده على القيام بذلك.
الديوان
يقع ديوان "قناديل على السور الحزين" في 123 صفحة من القطع المتوسط، رسم لوحة الغلاف واللوحات الداخلية الفنان الفلسطيني عدنان الزبيدي، وأهدى شاعرنا ديوانه إلى: "أرواح شهدائنا البررة، وروح والده، وإلى أبناء الشعب الفلسطيني.
كتب المقدمة الأديب الفلسطيني أحمد حسين.. وقد جاء في نهاية الفقرة الأخيرة منها: "هذا الديوان استفزازي إلى حد بعيد، إنه – حتى في أسوأ حالاته – مساحة خالصة من الشعر – تستفزك فيه الشاعرية الطليقة – ويستفزك أحياناً الإهمال الذي تتعرض له من جانب صاحبها.. وفوزي – كما أزعم – هو أهم شعراء الأرض المحتلة حتى مع إهماله، ولكنها في حالته أهمية إبداعية لم تترجم إلى إنجاز إعلامي."
ومن المؤكد أنه كلما جاء الوعي أو التقديم من رجال الفكر كان له أكبر الأثر في نفوس الناس.. فكلمة المثقف الإيجابية الصادقة لهي الكلمة التي تصدر من القلب إلى القلب ومن الضمير إلى الضمير.
يشتمل الديوان على ثلاثين قصيدة، نذكر منها "قناديل على سور المدينة.. يا قدس لا تنتظري.. زغاريد في غرس النابق.. وسيبقى المسجد الأقصى.. أوثان يقبلها جميع الأنبياء.. شرارة تحت القمة البيضاء.. مسافرون في الوهم.. وقصائد أخرى".
أما بصدد تلك القصائد العاطفية التي وردت في ذيل الديوان تحت عنوان "زقزقة على كرز الحرملك" فمن الواضح جد الوضوح أنها انبثقت عن تذوق الشاعر للجمال لا عن قلب شفه الوجد، أي أنها جاءت من فيض الخاطر لا من اكتوائه بنار الحب.. ومن هذا المنطلق اتسمت برقة وروعة الوصف اللغوي أكثر مما اتسمت بالجوى و"وجع القلب"، وهذا لا يعني أن شاعرنا لا عاطفة له أو أن عاطفته "مجمدة" لا، فالعاطفة هي أسمى ما لدى الشاعر من أحاسيس ومشاعر.. إلا أن عاطفته توهجت في جوانب أخرى، حبه لوطنه وأسرته وشعبه وقضيته، دون أن يغفل المرأة كضرورة لتعديل مزاج التجربة الإنسانية وكملهمة للشعراء منذ كان الشعر.
كان بودي أن أستعرض بعض قصائد الديوان، لولا قناعتي – وقد أكون على خطأ – إن هذه المهمة – مهمة الحكم على أي أنتاج أدبي – يجب أن تأتي أولاً وقبل كل شيء من قبل آراء الجمهور الكريم، لا من قبل رأي واحد تربطه بالشاعر رابطة الصداقة والجوار.. مع إيماني الشديد بأن "إرضاء الناس غاية لا تدرك".
ولعل من الإنصاف القول أنه ديوان جاد في نقده كلسعة السوط، كالإعصار المدمر، كالبركان الثائر.. رهيب في صراحته ومصداقية نقده.. لا يضع فيه الشاعر النقاط على الحروف فحسب بل يشكلها حينا "ويقلع عينيها" أحياناً. وباختصار انه ثورة "ثورة الحق على الباطل" جدير بالمطالعة "والبحلقة" أيضاً.
لقد أوقف شاعرنا على مدينة القدس شعره كما ملأت عليه حياته وكيف لا وقد أنشأه والده- المناضل الفلسطيني الكبير الشيخ ياسين البكري – على حب هذه المدينة المقدسة منذ الصغر.
وفي هذا الإطار – هو شاعر القدس وعاشقها وأمير صعاليكها.
كلمة لا بد منها
لعل أبرز ما يميز العقائد والنظريات القومية، هو حيويتها وقدرتها على التعبير عن نفسها بتطبيعات واضحة المعالم والقسمات.. وفي الصراع الفكري تبقى الغلبة للفكر الذي يطرح نفسه بتعبيرات حية مائلة على أرض الواقع.. في حين يكون التراجع من نصيب الأفكار التي تعتمد المساجلات الكلامية والمناقشات الفكرية ولكن دونما حصاد على بيدر المصداقية والتطبيق، أو دونما نبت يانع يعد بقطف الثمار, وتظل الأرض التي ينثر فيها بذور هذا الفكر جدباء مقفرة، بسبب أن بذور هذا الفكر لم تكن بالأساس وليدة غرسها، أو أن البذور ذاتها – أي الفكر نفسه – حتى وان كان من عطاء الأرض لا يحتوي على مقومات النضج والنماء.
ومن هذا المنطلق تكونت في أذهان الجماهير، وفي أذهان الكثير من العاملين في حقول الفكر والثقافة قناعات مفادها بأن المحك الأساسي للأفكار هو نجاحها في المصداقية والتطبيق..!
آخر الكلام
تحية للشاعر البكري على هذا النفس الشعري المتميز.. وعلى هذه الشاعرية الطليقة التي نتمنى أن تواصل وهجها لكي تظل قنديلاً يضيء في ليل القدس حتى تشرق شمسها.