قراءات في ساحة الاعدام
عادَتْ إلَيَّ حَمامَةُ القَلْبِ الّتي سَقطَتْ مِنَ الشُّبّاكِ بَيْنَ تَتابُعِ الطَّلَقاتِ يَوْمَ اسْتَوْقَفَ الجُنْدُ المَدينَة.
وَأَشارَ لي دَمُها يُوَدِّعُني، فَلَمْ أَحْفِلْ،
لَقَدْ بَلِيَتْ عَليَّ مَعاطِفُ الرَّغَباتِ، لا بَرٌّ يُطاوِعُني إلى حَيْفا وَلا بَحْرٌ يُناوِلُني سَفينَة.
- لَمْ يَقْتُلوكِ إذَنْ؟
- لَقَدْ فَعَلوا!
وَلكِنّي أَعودُ إلى دَمي شَبَحًا، أُغادِرُ قاعَةَ الأَسْماءِ كَالمِنْديلِ، أَبْحَثُ عَنْكَ في القَتْلى وَفي الشُّعَراءْ...
لَمْ يَقْتُلوكَ إذَنْ؟
- لَقَدْ فَعَلوا!
أَداروني عَلى جُنْدِ العَدُوِّ كَما تُدارُ الكَأْسُ،
لكِنّي احْتَضَنْتُ ثُمالَتي حَتّى سَقَطْتُ عَلى حُدودِ الغَيْمَةِ السَّوْداءِ،
ثُمَّ صَحَوْتُ، ثُمَّ سَقَطْتُ، ثُمَّ صَحَوْتُ في جَسدٍ يُخافتُ في احْتِمالاتِ الوُجودِ،
أُحِسُّ أشْـياءً تُغادرُني عَلى عَجَلٍ،
وَأنّي شارِعٌ في اللَّيلِ لكِنْ أَخْتَفي إنْ مَرَّ بي أَحَدٌ،
وَلَوْلا الحُزْنُ قُلْتُ بِأنّني شَبَحٌ.
- أَلا تَدْري بِأنَّ اللّهَ ذاكِرَةٌ حَزينَة؟
لا تُفْلِتُ الأَشْجارُ زينَتَها بِلا سَبَبٍ،
وَلا تُعْطي صِغارَ ثِمارِها لِلدّودِ إلّا كَيْ يَراها اللّهْ.
وَالأَنْهارُ تَقْتُلُ ماءَها في البحْرِ مِثْلَ مُخَيَّمِ اليَرْموكِ لِلذِّكرى وَلِلشُّعَراءْ.
فَقَدِّمْ ما تَيَسَّرَ مِنْ أَنينِكَ وَاعْتَصِمْ بِالحُزْنِ فَهُوَ مَسَرَّةُ الشُّعَراءِ، إنَّ مَذابِحَ الأطْفالِ ذاكرَةٌ كَبيْتِ الشِّعْرِ،
عَلِّقْها عَلى عَلَمٍ، عَلى سَفَرٍ، عَلى شَجَرٍ، مُفكِّرَةً وَزينَة.
- أَنا لَيْسَ لي عَلَمٌ، وَلا سَفَرٌ، وَلا شَجَرٌ أُعَلّقُ زينَةَ الأَحْزانِ فيهِ، ولا أَنا شيءٌ سِوى ما يَحْسِبُ السَّجّانُ،
فَاعْتَرِفي بِأنَّكِ مُتِّ، وَانْصَرفي!
سَأكْتُبُ ما تَيَسَّرَ مِنْ عَناوينِ القُبورِ بِدَفتَرِ الأَوْقاتِ، إنَّ القَبْرَ أَشْجى مِنْ مُعَلَّقَةٍ، وَأَبْقى مِنْ مَدينَة.
لَنْ يَعْرِفوا حَيْفا إذا رَجَعوا،
فَكَيْفَ يَدُلّهُمْ شِعْري إذا لَمْ يَنْظُروا في مُعْجَم النَّكَباتِ،
هذي الأََرْضُ لا تَأْتي إلى أَحَدٍ،
وَتَقْتَرِبُ المَنافي في مَساحاتِ الفِراقِ كَأنَّها وَطَنٌ،
وَفي الأَيّامِ تَخْتبئُ المَواعيدُ الّتي تَتَحيَّنُ الأَقْدامَ وَالطُّرُقُ الهَجينَة.
لا بُدَّ مِنْ مَبْكًى لِنَعْرِفَ وَجْهَنا بِالدَّمْعِ،
إنَّ أَصابِعَ الأَيّامِ لا تُبْقي عَلى وَجْهٍ،
فكيْفَ نَعودُ مِنْ سَببِ البُكاءِ إلى مَعارِكِنا، ومِنْ سَبَبِ الرَّحيلِ إلى مَنازِلِنا؟
سَنَقولُ لِلطِّفْلِ الفِلسْطينِيِّ عن سِرِّ اليَراعَةِ في احْتِضانِ النارِ،
وَالطّيْرِ الذي يتعَقَّبُ الصَّيّادَ،
وَالأَرْضِ السَّجينَة.
- وَلَدَتْكَ أُمُّكَ حَيْثُ أَنْتَ، وَهذهِ حَيْفا تَنامُ عَلى وَسامَتِها كَلُؤلُؤَةٍ رَماها البَحْرُ بَيْنَ يَدَيْكَ،
إنَّ السَّبْيَ عارُكَ أَنْتَ، لَيْسَ السَّبْيُ عارَ مَواسِمِ التُّفّاحِ،
فَاصْفَحْ عَنْ مَفاتِنِها، وَخَلِّ الشِّعْرَ يَحْسَبُ أنَّها وَطَنٌ.
- وَطَنٌ يُطِلُّ عَليَّ مِنْ فَرَحِ «الفَلاشا» لا أُريدُهْ.
وَطَنٌ يُطِلُّ عَليَّ مِنْ صَخْرٍ مِنَ القَفْقاسِ، مِنْ عَيْنَيْنِ مِثْلِ الغابَةِ البَيْضاءِ، تَهْرُبُ مِنْهُما البَجَعاتْ، أَثْمَنُ مِنْهُ أَحْزاني،
لِيَمْضِ إلى خَرائطِهِمْ فَإنّي لا أُريدُهْ.
وَطَنٌ يَسيرُ عَلى خُطى السَّجّانِ، يَسْقُطُ في أَقاليمِ الرَّحيلِ بِدونِ إذْني، لا أُريدُهْ.
وَطَنٌ يُناديني بِغَيْرِ اسْمي وَيُطلِقُ حَوْلَ وَجْهي الشّائِعاتِ، أَحَقُّ مِنْهُ قَصيدَتي بِدَمي،
خُذوهُ إلى جَهَنَّمَ، لا أُريدُهْ.
وَطَني، أَنا وَطَني، لَهُمْ بَرٌّ وَلي بَرٌّ، لَهُمْ بَحْرٌ وَلي بَحْرٌ،
لَهُمْ زَمَنٌ سَيَقْتُلُني وَلي زَمَنٌ سَيَحْمِلُني بَعيدُهْ.
وَغَدًا سَيَقْتُلُني فَلاشِيٌّ لأنَّ مَلامِحي انْدَفَعَتْ إلى حَمّامِهِ الشَّمْسِيّ...
يا امْرَأةً لِكُلِّ النّاسِ خَلّيني أُزاحِمُ مِثْلَ غَيْري.
فَمَتى وَصَلْتُ إلى سَريرِكِ؟
آخِرُ العُشّاقِ في طَشْقَنْدَ وَالقَوّادُ يَصْرُخُ فَوْقَ ظَهْري:
- ا إهْدَأْ!
بِلادُ اللّهِ أوْسَعُ مِنْ بِلادِكَ، وَالتَّشَرّدُ حينَ تَجْعَلُهُ سِياحِيًا سَتَنْسَى مِنْ سُرورِكَ أيْنَ تَجْري.
- أَدْري،
لِذلِكَ لَسْتُ أَجْري.
وَلِذاكَ سَوْفَ أَعيشُ قُرْبَ مَنِيَّتي وَأُحِبُّ قَهْري.
وَأُباركُ الرّيحَ الّتي كَشَفَتْ ثِيابَ الفارِسِ البَدَوِيِّ وَاسْتَوْلَتْ عَلى بَرّي وَبَحْري.
لَوْلا وُصولُ مَواكِبِ العُشّاقِ مِنْ طَشْقَنْدَ لَمْ أَعْرِفْ بِأنّي كُنْتُ غَيْري.
لَوْلا وُصولُ مَواكبِ العُشّاقِ لَمْ أَعْرِفْ بِأنّي كُنْتُ ذاكِرَةَ التَّسَرّي.
وَغَدًا سَيَقْتُلُني فَلاشِيٌّ لأنَّ مَلامِحي انْدَفَعَتْ إلى حَمّامِهِ الشَّمْسِيّ...
يا امْرَأةً لِكُلِّ النّاسِ شُدّيني لِوَصْلِكِ مِنْ عَذاباتي وَخَلّيني بَعيدا.
واصَلْتِني بالغَزْوِ، لمْ أَعرِفْ سِوى ألَمِ العِناقِ، فَأَعْطِني أَلمًا جَديدا.
أَشْكو إلَيْكِ أَبي، يُمَجِّدُ أَبْشَعَ الغَزَواتِ، يُوصيني بِهِمْ وبِحائِطِ المَبْكى، وَيَطْلُبُ أَنْ أُقاتِلَهُمْ وَيَتْرُكُني وَحيدا.
أَشْكو إلَيْكِ أَخي يُلاحِقُ مَوْتَهُ ما بَيْنَ مِحْرَقَةٍ ومِحْرَقَةٍ، وَيَسْتَعْدي اليَهودَ عَلى اليَهودِ، وَحينَما سَقَطَ القِناعُ رَمى إلَيَّ بِموْتِهِ، وَعَدا، وَخَلاّني وَحيدا.
أَشْكو إلَيْكِ يَدي الّتي سَقَطَتْ لِأنَّ السَّيْفَ شاهَدَها، وَأَشْعاري الّتي انْقَلَبَتْ عَلَيّ.
أَشْكو إلَيْكِ دَمي الّذي يَتَبادَلُ النَّظَراتِ مَعْ أَشْباحِ نافِذَتي وَيوشِكُ أنْ يَجودا.
وَغَدًا سَيَقْتُلُني فَلاشِيٌّ لأنَّ مَلامِحي انْدَفَعَتْ إلى حَمّامِهِ الشَّمْسِيّ...
أَلْوقْتُ مُلْتَفٌّ عَلى جِذْعِ الخُرافَةِ كَالسُّكوتْ.
تَتَكَرَّرُ الغَزَواتُ وَالسّاحاتُ مِنْ بَدْرٍ إلى بَدْرٍ،
وَبَدْرٌ لا تَفوتْ.
صَنَعوا المَكانَ لِكَيْ أُحِبَّكِ وَالزَّمانَ لِكَيْ أَموتْ.
وَغَدًا سَيَقْتُلُني فَلاشِيٌّ لأنَّ مَلامِحي انْدَفَعَتْ إلى حَمّامِهِ الشَّمْسِيّ...
أَهْدَيْتُها شَجَرًا وَأَطْفالاً فَأَهْدَتْني مَشانِقْ.
أَهْدَيْتُها شِعْرًا وَأَعْراسًا فَأَهْدَتْني ثَكالى.
لَوْ كُنْتُ أقْدِرُ أنْ أُفارِقَ، كَيْفَ أَقْدِرُ أنْ أُفارِقْ؟
هَلْ فارَقَتْ يافا الجَنوبَ وَفارَقَتْ حَيْفا الشَّمالا؟
وَغَدًا سَيَقْتُلُني فَلاشِيٌّ لأنَّ مَلامِحي انْدَفَعَتْ إلى حَمّامِهِ الشَّمْسِيّ...
طِفْلٌ يُبادِلُني حِكايَتهُ الصَّغيرَةَ بِالبُكاءْ
أَعْطَيْتُهُ طاقِيَّةَ الإخْفاءِ دَلَّتْهُمْ عَلَيْهِ مَلامِحي الثَّكْلى وَرائِحَةُ الدِّماءْ،
أَلْقَى حِكايَتَهُ الصَّغيرَةَ وَاحْتَمى بِمَلابِسي،
أَلأُمُّ أَقْسى الكائِناتِ وَأَظْلَمُ النّاسِ النِّساءْ.
وَغَدًا سَيَقْتُلُني فَلاشِيٌّ لأنَّ مَلامِحي انْدَفَعَتْ إلى حَمّامِهِ الشَّمْسِيّ...
مَتى يا سَيِّدَ الأَوْقاتِ تَنْساني وَتَأْخُذُ سَيْفَكَ الخَشَبِيَّ مِنْ صَدْري وَتَبْدَأُ لُعْبَةً أُخْرى؟
تَوَقَّفْ يا بُنَيَّ فَلَسْتُ قاتِلَكَ الوَحيدَ. اذْهَبْ!
صَهيلُ جَوادِكَ الحَجَرِيِّ يَدْعو مِنْ وَراءِ السّورِ،
هذي ساعَةُ التَّعْدادِ، وَالأَحْجارُ لا تَنْسى.
مَتى يا سَيِّدَ الأَوْقاتِ تُدْرِكُ سِرَّ هذا النَّوْمِ في وَضَحِ النَّهارِ،
مَتى سَتُدرِكُ أنَّ هذا المَخْدَعَ الحَجَريَّ لَمْ تَصْنَعْهُ أُمُّكْ...؟
وَغَدًا سَيَقْتُلُني فَلاشِيٌّ لأنَّ مَلامِحي انْدَفَعَتْ إلى حَمّامِهِ الشَّمْسِيّ...
تَعِبْنا مِنْ رُكوبِ المَوْجِ يُبْعِدُنا وَيُدْنينا
وَحيْفا عِنْدَ مَرْمى الآهِ،
تُشْرِقُ في لَياليهِمْ
وَتَغْرُبُ في أَضاحينا.
تُخَبِّئُ في مَدارِسِهِمْ
مَدارِسَنا
وَفي أبْهى شَوارِعِهمْ حَوارينا.
وَخَلْفَ لُغاتِهِمْ صَوْتٌ
إذا سَكَتوا يُنادينا.
تَعِبْنا مِنْ رُكوبِ المَوْجِ،
عاصِفَةً فَتُغْرِقُنا
أَوْ المينا!
وَغَدًا سَيَقْتُلُني فَلاشِيٌّ لأنَّ مَلامِحي انْدَفَعَتْ إلى حَمّامِهِ الشَّمْسِيّ...
بِحِضْنِكِ يَقْرَأُ المينا دَفاتِرَهُ وَيَرْتَعِدُ
لماذا يَهْجُرُ الصَّيّادُ مَرْكِبَهُ وَيَبْتَعِدُ
بِلا سَبَبٍ،
وَكَيْفَ انْسَلَّ مِنْ أَجْراسِهِ الأَحَدُ؟
وَكَيْفَ يُهاجِرُ الأطْفالُ مِنْ جيلٍ إلى جيلٍ وَما وُلِدوا؟
بِحِضْنِكِ يَكتُبُ المينا بِدَفْتَرِهِ وَيَرْتَعِدُ:
بِهذا الشاطِئِ المَسْحورِ،
لا أَرْضٌ، وَلا ناسٌ، وَلا بَلَدُ.
وَهذي الأرْضُ هاجِسَةٌ
فَلا يَجْتازُها أَحَدٌ
وَلا يَبْقى بِها أَحَدُ،
رَمى كَنْعانُ شَيْخُ البَحْرِ
قُبَّعَةً
وَطَوَّفَ حَوْلَها الزَّبَدُ.
وَغَدًا سَيَقْتُلُني فَلاشِيٌّ لأنَّ مَلامِحي انْدَفَعَتْ إلى حَمّامِهِ الشَّمْسِيّ...
وَيَمْضي ذلِكَ الطِّفْلُ الّذي وَلَدَتْهُ حَيْفا وَهِيَ هارِبَةٌ
مِنَ العَسْكَرْ
كَما تَرَكَتْهُ عِنْدَ الشَّطِّ مَطْروحًا عَلى السّاعاتِ، رَخْوًا عارِيًا أَسْمَرْ.
خُذوهُ لِغُرْفَةِ المَوْتى!!!
أَنا الهِجْريُّ!
أَنا الهِجْريُّ أَكْذَبُ مِنْ زَئيرِ النَّمْلِ،
كُلُّ دُوَيْبَةٍ في الأَرْضِ مِنْ قَوْمي أعَزُّ ومِنْ يَدي أقْدَرْ.
أَنا الهِجْريُّ، صَيْدُ البَرِّ، صَيْدُ البَحْرِ، أَعْدو في شِباكِ الصَّيْدِ مِنْ بَدْرٍ لأُكْتوبَرْ.
أَنا الهِجْريُّ،
رَبَّتْني الدَّسيسَةُ عِنْدَ حَدِّ السَّيْفِ، أكْنُسُ ساحَةَ الإعْدامِ، أَمْتَشِقُ السُّيوفَ لِقاتِليَّ وَأَخْدِمُ العَسْكَرْ.
أَنا لَوْنُ الدَّمِ المَسْفوحِ لا أَكْثَرْ.
خُذيني عَنْ حِرابِ الجُنْدِ لِلرُّمّانِ، أَخْرُجُ مِنْ بِداياتِ الفُصولِ لِلَوْنِيَ الأخْضَرْ.
أَعودُ النَّشْأةَ الأُولى، إذِ العِبْرِيُّ خَلْفَ النَّهْرِ، لَمْ يَعْبُرْ.
أَذودُ الرَّمْلَ عَنْ أَقْدامِهِ وَأَصيحُ مِلْءَ مَسامِعِ الوِدْيانِ:
- لَنْ تَعْبُرْ!
وَحَقَّ الماءِ وَالأَسْماءِ لَنْ تَصِلوا إلى بَدْرٍ عَلى خَيْلي،
وَلَنْ تَتَسَلّلوا لدِمَشْقَ عَبْرَ مَلامِحي،
ما دامَ في كَنْعانَ أيّامٌ وَأطْفالٌ، وَفوْقَ سُفوحِها زَعْتَرْ.
أَنا العَرَبيُّ مَرْكبَةُ الحَضاراتِ، ابْتِداءُ الظَّنِّ في الإنْسانِ، بادِرَةُ اقْتِحامِ الكَوْنِ بِالصَّبَواتِ، بَوْحُ تَجَلِّياتِ العَقْلِ بيْنَ الحَرْفِ وَالدَّفْتَرْ.
أَنا الشُّعَراءُ وَالعُلَماءُ وَالثُّوّارُ وَالعَسْكَرْ.
أَنا الرُّبّانُ أَشْرِعَتي عَلى كُلِّ النّوافِذِ مِثلُ ضُوءِ الشَّمْسِ، تَنْبُتُ في يَدي البُلْدانُ كَالدُّفْلى، وَأَكْتُبُ رِحْلَتي في النّاسِ وَالمَرْمَرْ.
وَحَوْلَ سَفينَتي الهِنْديُّ وَالصّينِيُّ وَالزِّنْجيُّ وَالأشْقَرْ...
«تَوَقَّفْ أيُّها البَحْرِيُّ،
كَيْفَ تُحَوِّلونَ الماءَ آنِيَةً لِشُرْبِ الماءِ
كَيْفَ تُدَجِّنونَ النَّحْلَ وَالأزْهارَ،
وَالألْوانُ تَخْرُجُ مِنْ خُــيوطِ الشَّمْسِ تَدْخُلُ في رِداءِ العُرْسِ وَالمِئْزَرْ؟
وَهَلْ ما زالَ جَلْجاميشُ يومِضُ سَيْفُهُ كَالبَرْقِ فوْقَ جِبالِكُمْ، فتَفِرُّ رَبّاتُ الخَريفِ، وَتَهْرَعُ الألْوانُ حافيَةً إلَيْهِ وَينْبُتُ العَرْعَرْ؟».
أَقولُ لَكُمْ:
«أَنا الوَجْهُ الّذي عَثَرَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أوَّلَ صُدْفَةٍ،
يَنْسَلُّ مِثْلَ الظِّلِّ خارِجَ وِحْدَةِ الأشْياءِ،
يَدْخُلُ كَهْفَهُ زَمَنًا،
وَيَخْرُجُ حامِلاً بِيَدَيْهِ أسْماءً وَأسْئِلَةً وَلَوْحًا يُشْبِهُ الدَّفْتَرْ.
وَكانَ بِجانبي شَبَحٌ بِلا صَوْتٍ يُعَلِّمُني،
فَقُلْتُ: اللّهُ؟ قالَ: كَما تَشاءُ،
تَعالَ نَصْنَعُ عالَمًا مِنْ هذهِ الأشْياءِ ثُمَّ نَرى.
وَعَلَّمَني رُكوبَ البَحْرِ، أَلْقَى صَخْرةً في الماءِ، ثُمَّ عَصًا، وَغادَرَني.
تَبِعْتُ عَصايَ حَتّى البَحْرِ، ثُمَّ صَنَعْتُها سُفُنًا لآتيَكُمْ.
خُذوا مِنّي فُصولَ مَحَبَّتي، عَسَلاً ومَعْرِفَةً وَرَبّوا فيهِما الأَطْفالَ، إنَّ البَحْرَ يَكْرَهُني،
وَوَقْتُ الماءِ مِثْلُ دُروبِهِ مِنْ وَقْتِنا أَقْصَرْ.
«وَيَأتي بَعْدَكَ القُرْصانُ»، قالَ مُعَلِّمي لمّا الْتَقيْنا مَرَّةً أُخْرى، وَكُنْتُ بِجَيْشِ هانيبالَ، وَهُوَ عَلى سُفوحِ الأَلْبِ مُنْهَمِكٌ يُعَلِّمُ نَبْتَةًَ كَالأُقْحُوانَةِ كَيْفَ تُخْفي بُرْعُمًا في الثَّلجِ قَبْلَ النَّوْمِ، يَحْضُنُ حُلْمَها الأَخْضَرْ.
«وَيَأتي بَعْدَكَ القُرْصانُ، يَحْمِلُ في سَفينَتِهِ الغُروبَ فَتََحْسَبُ الشُّطْآنُ أنَّ الشَّمْسَ تُشْرقُ مِنْ سَفينَتِهِ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، وَتُغادِرُ الأَيّامُ طَلْعَتَها، وَتَحْتَلُّ التَّواريخُ القَديمَةُ آخِرَ الأَنْباءِ، وَالقُرْصانُ يَبْتَدئُ الحَضاراتِ الّتي ابْتَدَأَتْ،
يُضيفُ الصَّفْحَةَ الأولى وَخاتَمَهُ، فيَخْرُجُ مِنْ بِلادٍ لَمْ يَكُنْ فيها إلى مُدُنٍ مُدَلَّهَةٍ بِحُبِّ السَّيْفِ يَدْعو وَجْهُها العَسْكَرْ.
وَأَنتَ سَحابَةٌ في الظـَّنِّ كَالمِنْديلِ، لا تُلْقي عَلى الأَشْياءِ غَيْرَ شُحوبِها البَحْريِّ، سَوْفَ تَجِفُّ أوْ تُمْطِرْ.»
وَقالَ مُعَلِّمي:
«أَلْوَقْتُ مَذْبَحَةٌ، وَكُلُّ سَفينَةٍ قَبْرٌ لِرِحْلَتِها، وَأَيُّ سَفينَةٍ مِنْ بَحْرِها أَكْـبَرْ؟
هُوَ النِّسْيانُ ذاكِرَةُ الخُرافةِ، خَبِّئوا في الطِّفْلِ قائمَةً بِأَسْماءِ الرِّجالِ، تَهَيَّأوا لِلبَحْرِ بِالرّاياتِ، ماذا يَتْرُكُ المِجْدافُ فَوْقَ الماءِ، ماذا تَتْرُكُ الأَقْدامُ في سَجّادَةِ المَرْمَرْ؟»
كَأنَّ الوَقْتَ مَذْبَحَةٌ،
لماذا أَفْلَتَتْ قَسَماتُ وَجْهِكِ مِنْ بَقايا الضّوءِ، وَاسْتَعْصى عَليَّ المَوْجُ، أَطْيافٌ تُغيرُ عَلى مُخَيِّلَتي القَديمَةِ، حَيْثُ خَبَّأْتُ المَراكِبَ وَالمَواسِمَ وَالقُرى؟
أَلوَقْتُ مَذْبَحَةٌ، لِماذا أَقْفَرَتْ رُوحي مِنَ الصَّهَواتِ، وَاسْتَوْلى عَلى دَرْبي خُفوتُ اللَّوْنِ في الوِدْيانِ، تَنْسَحِبُ انْفِعالاتي إلى أَوْكارِها السَّوْداءِ مُتْعَبَةً، وَتَنْطَفِئُ الكُوى؟
ألموْتُ في الخَمْسينَ مَضْيَعَةٌ،
وَلكِنَّ الفِلِسْطينِيَّ ضِعْفُ زَمانِهِ، لا الوَصْلُ يُفْلِتُهُ وَلا الهِجْرانُ يُفْلِتُهُ، يَعودُ عَلى الرَّحيلِ كَأنّهُ يُدْنيهِ مِنْكِ مَدًى وَيُبْعِدُهُ مَدى.
أَلموْتُ في الخَمْسينَ مَضْيَعَةٌ،
وَلكِنّي أَموتُ لِكَيْ أُغادِرَ أَعْيُنَ الأطْفالِ، تَسْأَلُني، وَأَعْرِفُ أنَّهُمْ وُلِدوا سُدى.
- لا تَلْمَسوا زَمَني، لَعَلَّ زَمانَكُمْ ما زالَ في مُستَوْدَعِ الأَوْقاتِ فانْتَظِروهُ في مَوْتي، لَعَـلَّ زَمانَكُمْ يَأْتي إذا زَمَني مَضى.
أَلوَقْتُ مَذْبَحَةٌ، وَبي شَوْقٌ لِهاوِيَتي وَأَشْواقٌ إلَيْكْ.
لَكِ ضَجْعَةٌ كَالسَّيْفِ بَيْنَ الماءِ وَالصَّحْراءِ، لا يَدْري مُحِبُّكِ أَيَّ يَوْمَيْهِ لَدَيْكْ.
في وَجْنَتَيْكِ الصَّدُّ وَالتَّقْبيلُ،
لَيْسَ الصَّدُّ يُبْعِدُني وَلا التَّقْبيلُ يُدْنيني، فَبابُ القَلْبِ مُنْغَلِقٌ عَليْكْ.
لَوْ كانَ حُبُّكِ قُبْلَةً بِفَمِ الأَفاعي ما تَرَكْتُكِ لِلشِّفاهِ، وَلا هَجَرْتُ النّارَ إنْ كانَ احْتِراقيَ في يَدَيْكْ.
أَوْ كُنْتِ رَمْلاً ما عَشِقْتُ سِوَى الصَّحاري، أَوْ مَدًى في اللَّيْلِ غادَرْتُ النَّهارَ إلى سَوادِ جَديلَتَيْكْ.
أَلوَقْتُ مَذْبَحَةٌ،
وَبي شَوْقٌ لِهاوِيَتي، وَأَقْدامي يُناديها الرَّحيلْ.
خَلْفَ امْتِناعِكِ لَحْظَةٌ لا تَنْتَهي أبَدًا، وَأَرْضٌ لا حُدودَ لَها، وَساحاتٌ بِلا عَرَبٍ، وَقَلْبٌ لا يَصُدُّ وَلا يَميلْ.
وَأَنا تَعِبْتُ مِنَ السُّقوطِ عَلى مَواعيدِ السُّيوفِ كَأنَّني عُنُقٌ،
وَمِنْ مُدُنٍ كَآثارِ النِّعالِ طَريحَةٍ في رُقْيَةِ الحاخامِ، مِثْلَ الكَلْبِ يَحْرُسُ ظِلَّهُ،
وَتَعِبْتُ مِنْ.... وَتَعِبْتُ مِنْ.... وتَعِبْتُ مِنْ تَعَبي الطَّويلْ.
وَأُريدُ بابًا لِلرَّحيلْ.
لا شَيْءَ يوجِعُ كَانْتِظارِ رَصاصَةٍ في ساحَةِ الإعْدامِ، إلاّ وَجْهُ بَغْدادَ الـمُلَوَّثُ بِالبِشارَةِ وَهِيَ عاكِفَةٌ عَلى تَعْريبِ «خوزَسْتا» وَتَهْويدِ الجَليلْ.
لَوْ كانَتِ الأشْجارُ تَبْكي حَسْرَةً لَبَكَى النَّخيلْ.
لَوْ حُزْنُ دِجْلَةَ ماؤُهُ لَمْ تَشْتَكِ الصَّحْراءُ مِنْ عَطَشٍ، وَلازْدَحَمَتْ مَواسِمُها عَلى الشَّطَّيْنِ وَالْتَقَتِ الفُصولْ.
يا حُزْنَ هذا الصّامِتَ الأزَليَّ، أُشْبِهُهُ، وَلكِنّي أَقولُ وَلا يَقولْ.
أتَلَمَّسُ الذِّكْرى عَلى الشَّطَّيْنِ،
هَلْ كانَ العِراقُ سَحابَةً مَرَّتْ وَبابِلُ ظِلُّها،
آشورُ مَرْكَبَةً رَمَتْها الخَيْلُ في الصَّحْراءِ،
هذا النَّهْرُ خاطِرَةً بِلَوْنِ الماءِ لا تَسْقي الضِّفافَ وَلا تَسيلْ؟
لَوْ كانَتِ الأَشْجارُ تَبْكي حَسْرَةً لَبَكَى النَّخيلْ.
أَلخَيْلُ ذاتُ الخَيْلِ، وَالفُرْسانُ مِنْ عرَبِ الجَزيرَةِ،
غَيْرَ أنَّهُمُ عَلى صَهَواتِها قَتْلى، كَأنَّ السِّحْرَ مَرَّ بِهِمْ فَأَعْطاهُمْ مَصارِعَهُمْ وَراياتِ العَدُوِّ،
لَوْ كانَتِ الأَشْجارُ تَبكي حَسْرَةً لَبَكى النَّخيلْ.
وَأُريدُ بابًا لِلرَّحيلْ!
خَرَجَتْ «حَلَبْتْشا» مِنْ بُيوتِ الطِّينِ وَاسْتََوْلَتْ عَلى قِمَمِ الجِبالْ.
رَكَضَتْ عَلى الأَوْقاتِ عارِيةً سِوى مِنْ شاشَةِ التِّلْفازِ، تَتْبَعُها الفَراشاتُ الّتي أَلْقَى بِها الأَطْفالُ حينَ اسْتَسْلَموا لِلنَّوْمِ تَحْتَ عَباءَةِ الخَفّاشْ،
أَيُّها المَقْتولُ عَنْ عَمْدٍ عَلى فَرَحي بِأَطْفالِ الحِجارَة،
عُدْ لِيَوْمِ العُرْسِ، أَوْ شُبّابَةِ الكُرْدِيِّ، أَوْ حُلُمِ الصَّبايا بِالرِّجالْ.
ما الَّذي يُبْقيكَ حَيّاً مَيِّتًا مِثْلَ المَحارَة،
صَخْرَةً في ساحَةِ القَلْبِ، وَعُصْفورًا مِنَ الشَّوْكِ بِعَيْنَيَّ، وَحِنّاءً عَلى بَوّابَةِ الذِّكْرى، وَقِيلاً في انْفِعالاتي وَقالْ؟
هَيِّئْ لِمَصْرَعِكَ الدَّليلْ!
أَلثَّغْرُ يَعْدو في اقْتِحامِ النَّهْدِ عُصْفورًا على دَرْبِ الحَليبِ المُشْمِسَةْ...
لَمْ يَزَلْ...
وَالصَّدْرُ مَفْتوحٌ عَلى شَوْقِ الفَراشاتِ، وَأَبْناءِ السَّبيلْ.
ما الّذي يُبْقيكَ حَيّاً مَيِّتًا مِثْلَ الحِجارَة
وَمُقيمًا راحِلاً مِثْلَ الجَليلْ؟
ما الذي أَلْقاكَ مَقْتولاً عَلى جُثّةِ «غَسّانٍ» عَلى بابِ الخَليلْ؟
أَيُّها المَقْتولُ عَنْ عَمْدٍ عَلى أَحْزانِ «بيتا»
فَرَحًا في أَعْيُنِ الجُنْدِ وَعُذْرًا لِلْبَنادِقْ
وَمَناديلٌ مِنَ الصَّمْتِ عَلى طولِ العَويلْ،
سَنُخيطُ الحُزْنَ مِنْ بَدْرٍ إلى «بيتا» إلى «صَبْرا» بَيارِقْ
وَحَلَبْتْشا نَجْمةٌ حَمْراءُ كَالجُرْحِ إلى جانِبِ «زيتا»
وَنُقيمُ المَأْتَمَ الهِجْرِيَّ مِنْ ذاكِرةِ النَّخْلِ إلى نَشْرةِ أَخْبارِ المَناطِقْ.
وَنُغَنّي في الرَّحيل:
دَنْدَنا دَنْدَنا
هذِهِ الأَرْضُ لَكُمْ
هذِهِ الأَرْضُ لَنا
ذاكَ أَوْ ذاكَ سَوًى
نَحْنُ لا نَعْرِفُنا
صَدَقَ اللّهُ وَلكِنْ
قَدْ وُلِدْنا ها هُنا.
دَنْدَنا دَنْدَنا
صدَقَ اللّهُ العَظيمْ
هذهِ الأَرْضُ لَكُمْ
هذهِ الأَرْضُ لَنا
هذهِ الأَرْضُ لَهُمْ
هذهِ الأَرْضُ لَها
هذهِ الأَرْضُ.... وَلكِنْ
صَدَقَ اللّهُ العَظيمْ.
دَنْدَنا دَنْدَنا
قَدْ أَتَيْتُمْ قَبْلَكُمْ
وَأَتَيْنا بَعْدَنا
وَبَقينا وَحْدَكُمْ
وَذَهَبْتُمْ وَحْدَنا
وَتَعَجَّبْنا... وَلكِنْ
صَدَقَ اللّهُ العَظيمْ.
وَأُريدُ بابًا لِلرَّحيلْ!
وَالنّيلُ، لَيْسَ النّيلُ فاجِعَةً، وَلا فَرَحًا، وَلا ماءً، وَلا شَيْئًا، وَمِصْرُ دُوَيْلَةٌ في الطّولِ، خَيْطٌ لا تَراهُ العَيْنُ إلاّ في البَياضاتِ الّتي تَأْتي بِها سُفُنُ الغَسيلِ إلى القَنالْ.
أَوْ يَوْمَ مَرَّ بِها جَمالْ،
أَلْقَى عَلى حَبْلِ الغَسيلِ جَواربَ الأَطْفالِ، فَانْتَفَضَتْ بِها كَيْنونَةُ البُلْدانِ، صارَ النَّهْرُ نَهْرًا والرِّجالُ عَلى جَوانِبِهِ رِجالْ.
وَالماءُ قاطِرَةٌ مُحَمَّلَةٌ بما أَهْدى الجَنوبُ إلى الشَّمالْ.
يا أيُّها السَّيْفُ المُخبَّأُ في الرِّمالْ!
هَلْ أَغْمَدَتْكَ سِوى يَدُ المُتهَوِّدِ العَرَبيِّ في بابِ الحُسَيْنِ،
وَهَلْ أَتَتْكَ الطَّعْنَةُ النَّجْلاءُ إلاّ مِنْ وَراءِ خِزانَةِ الصَّلَواتِ، حَيْثُ يُواعِدُ العَرَبِيُّ قاتِلَهُ بِلا سَيْفٍ وَتَخْتَبئُ النِّصالْ؟
وَأُريدُ بابًا لِلرَّحيلْ!
وَدِمَشْقُ شَمْسٌ لا تُضيءُ وَلا تَغيبْ.
مَقْتولَةُ القَسَماتِ لَمْ يَتْرُكْ لَها الهِجْرِيُّ غَيْرَ حَنينِهِ المَخْلوعِ حينَ هَوَى عَلى عَرْشِ الخِلافَةِ بِاسْمِ مَنْ خَلَعوهُ، يَحْكُمُهُمْ بِإلْيَتِهِ، وَكُرْسِيِّ الغَريبْ،
تَأْتي مَواعيدَ الرِّضاعِ بِدونِ ثَدْيَيْها، وَتَعْبُرُ كَاليََراعَةِ ساحَةَ الجوعِ الـمُقيمِ،
وَتَكْتُمُ الأَفْواهُ لَهْفَتَها وَيَبْتَعِدُ الحَليبْ.
وَدِمَشْقُ نايُ الذِّكْرَياتِ عَلى هُنَيْهاتِ الحَنينِ لِبَيْتِ نائِلَةٍ، وَأَطْلالُ الحَبيبْ.
وَحِكايَةٌ لِلْقَلْبِ تَعْبُرُ في أَغاني السَّيْفِ، إلاّ أَنَّ لي جَسَدًا وَلَيْسَ لَها،
وَيَبْقى الطِّفْلُ مَشْدودًا إلى شَبَحِ الأُمومَةِ كَالصَّليبْ.
وَأُريدُ مِنْها مَوْعِدًا لِقَصيدَتي، وَمَساحةً لأَنامِلي، وَأُريدُ مِنْها ما يُريدُ الجُرْْحُ مِنْ شَبَحِ الطَّبيبْ.
وَأُريدُ مِنْها المُسْتَحيلْ.
ماذا يُريدُ القَتْلُ بَعْدُ مِنَ القَتيلْ
ماذا يُريدُ الظِّلُّ مِنْ قِمَمِ النَّخيلْ
ماذا تُريدُ هُنَيْهَةُ الذِّكْرى مِنَ التّاريخِ...
وَالهِجْرِيُّ ذو الوَجْهِ المُدَلّى كَالذُّبابَةِ في خُيوطِ العَنْكَبوتِ، مِنَ الخَليلْ؟
وَأُريدُ بابًا لِلرَّحيلْ!
أَقْسَمْتُ بِالنَّجْمِ المُعَلَّقِ في الزَّمانِ بِأَنَّ في عَمّانَ صابونًا وَفاكِهَةً وَحَلْوى.
عَمّانُ مُعْجِزَةُ التَّزَلُّجِ، أَدْرَكَتْ عَصْرَ العَباءَةِ قَبْلَ عَصْرِ الخَيْطِ، وَابْتَدَأَتْ حَضارَتَها مِنَ الدُّكّانِ، تَلْهَثُ خَلْفَها تِقَنيَّةُ التَّعْليبِ وَالمَكْياجِ، حَيْثُ صِناعَةُ التَّحْويلِ في باريسَ عاكِفَةٌ عَلى «عَنْزا» لِتَجْعَلَها بإذْنِ اللّهِ «سَلْوى».
عَمّانُ بارِجَةٌ عَلى الأُرْدُنِّ تَحْرُسُ ماءَهُ، تَعْويذَةٌ لِمَصانِعِ الفوسْفاتِ، خَنْدَقُهمْ أَمامَ رَحيلِنا،
وَالصَّفْحَةُ الأُخْرى مِنَ العَهْدِ القَديمِ، وَبَيْعَةُ الرَّضْوانِ تَحْتَ رِداءِ لاجِئَةٍ...
وَمَقْهى.
عَمّانُ رَمْزُ سُقوطِنا جِنْسًا وَتاريخًا وَحَرْفا.
وَأُريدُ بابًا لِلرَّحيلْ!
أُعْطيكِ رُوحي لَوْ بَقِيتِ أَنا وَأَنْتِ لِوَحْدِنا
كَمْ مَرَّةً هَيَّأتُها لِسَريرِ فَرْحَتِها وَحينَ دَنَوْتُ مِنْها ذَكَّروني بِالزِّنا
أُعْطيكِ رُوحي لَوْ بَقِيتِ أَنا وَأَنْتِ لِوَحْدِنا
نَخْتارُ مِنْ بَدْءِ المَكانِ حِكايَةً
أُخْرى
وَنَخْتارُ الزَّمانَ لِوَقْتِنا
وَسَحابَةً مِن بَحْرِنا لا بَحْرِهِمْ
وَحَديقَةً لِلَّوْنِ مِن أَزْهارِنا
أُعْطيكِ رُوحي لَوْ بَقِيتِ أَنا وَأَنْتِ لِوَحْدِنا
قُومي إلى حُلُمي الرَّحيلُ طَريقُنا
كَيْ نَلْتَقي وَالمُسْتَحيلُ إمامُنا
بِالحُلْمِ تَغْتَسِلُ الصَّبايا فَانْهَضي
مِنْ سِحْرِهِمْ كَالسَّيْفِ وَابْتَدِئي بِنا
عُودي إلى زَمَنِ الخُرافةِ وَاكْتُبي
عَهْدًا عَلى أَيّامنا بِدِمائِنا
أَلاّ نَعودَ لِيَوْمِ بَدْرٍ مَرَّةً
أُخْرى، وَلا نُعْطي دِمَشْقَ لِغَيْرِنا
سَنُعيدُ رِحْلَتَنا الّتي لا تَنْتَهي
أَوْ تَبْتَدي إلاّ عَلى أَقْدامِنا
أُعْطيكِ رُوحي لَوْ بَقِيتِ أَنا وَأَنْتِ لِوَحْدِنا
أَسْقيكِ مِنْ شَفَتيَّ شِعْرًا خالِصًا
كَنَبيذِ كَرْمَتِنا وَلَونِ مَسائِنا
لَوْ ذُقْتِ أَحْزاني فَهِمْتِ قَصيدَتي
وَعَرَفْتِ شُغْلي عَنْ سَريركِ بالمُنى
حَطَّتْ عَصافيرُ الحَنينِ عَلى مَدَىً
لا أَنْتِ فيهِ وَلا الجَليلُ وَلا أَنا
وَالقَلْبُ خَلْفَ العَيْنِ إلاّ أَنَّهُ
رُبّانُ لَهْفَتِنا وَدَرْبُ وُلوعِنا
أَلأَرْضُ أَوْطانٌ وَأَنْتِ سَفينَةٌ
في بَحْرهِم، وَحَمامَةٌ في بَرِّنا
تَدْنو وَتَبعُدُ لا تَرى غُصْنًا سِوى
أَحْزانِنا، فَتَحُطُّ في أَحْزاننا
حَيْفا صَبابَتُنا وَحَيْفا لَهْوُهُمْ
حَيْفا مَدينَتُهمْ وَحَيْفا أُمُّنا
حَيْفا تَفاصيلُ الفِراقِ تَدُبُّ في
أَجْسادِنا، وَتَمُرُّ مِنْ ساعاتِنا
حَيْفا نِهايَةُ دَرْبِنا، وَبِدايَةٌ
أُخْرى لِجيلٍ لَيْسَ مِنْ أَبْنائِنا
نَحْنُ الدَّسيسَةُ، لَيْسَ في وِجْدانِنا
غَيْرُ الدَّسيسَةِ فَاحْذَروا وِجْدانَنا
أَلأَرْضُ تَعْبُرُنا إلى أَقْدامِهِمْ
وَجُنودُهُمْ عَبَروا عَلى صَهَواتِنا
نَحْنُ التَّراتيلُ الَّتي اتَّشحَتْ بِها
أَحْجارُهُمْ لِتَعيشَ في صَلَواتِنا
وَوُجوهُنا كانَتْ لَهُمْ وَدِماؤُنا
لِعُروقِهِمْ وَسُيوفُهُمْ لِدِمائِنا
جاءوا إلى زَمَنِ النَّبيذِ وَلمْ نَكُنْ
إلاّ الدِّنانُ لِخَمْرِهِمْ، وَلِعارِنا
هذي حِجارَتُهمْ وَهذا رَبُّهُمْ
هذي أَمانَتُهُمْ وَذي أَعْناقُنا
أُعْطيكِ رُوحي لَوْ بَقِيتِ أَنا وَأَنْتِ لِوَحْدِنا
مُدِّي غُصونَ الآهِ تُمْسِكُها يَدي
سَأَراكِ في ما ظَلَّ مِنْ آهاتِنا
لَمْ يَتْرُكوا مِنّا عَلى أَقْدامِنا
إلاّ مَصارِعَنا عَلى أَسْمائِنا
هَلْ تَعْرِفينَ دَمي إذا شاهَدْتِهِ
أَوْ تَعْرفينَ يَدَيَّ عِنْدَ عِناقِنا
هَلْ تَذْكُرينَ؟ أَنا الَّذي صادَفْتِهِ
يَبْني عَلى شَفةِ الخَليجِ مَساكِنا
وَأَنا الَّذي مَلأَ الزُّقاقَ طُفولَةً
زَرَعَتْ كَوابيسَ النِّيامِ مَآذِنا
وَتَحَدَّثَ الجيرانُ عَنْ نَزَواتِهِ
وَتَعَلَّمَ الأَطْفالُ مِنْهُ الميجَنا
وَأَنا الَّذي صَدَّ العِدى عَنْ حَيِّهِ
وَحَمى طَريقَ «الفُرْنِ» مِنْ أَعْدائِنا
لكِنَّهُمْ هَزَموا أَبي فَتَرَنَّحَتْ
مِنْ رُعْبِها حَيْفا عَلى أَقْدامِنا
سَقَطَتْ عَلى دَرَجِ «الهَدارِ» طُفولَتي
لَمّا ارْتَمى الزِّلْزالُ في ساحاتِنا
وَتَناثَرَتْ مِثْلَ الزُّجاجِ مَلامِِحٌ
غَصَّتْ بِها قَبْلَ الرَّحيلِ سِماتُنا
أُعْطيكِ رُوحي لَوْ بَقِيتِ أَنا وَأَنْتِ لِوَحْدِنا
يا مُبْدِِعَ النَّكَباتِ أَعْطِ دِماءَنا
لَوْنًا بِلا إِسْمٍ كَلَوْنِ عَذابِنا
وَاصْبُغْ لَنا ماءَ الوُضوءِ بِحُمْرَةٍ
وَثّابَةِ الأَلْوانِ فَهُوَ دِماؤُنا
لا تُعْطِنا بَلَدًا فَنَحْنُ سَحابَةٌ
تَسْتَوْطِنُ البُلْدانُ في قَطَراتِنا
لا تُعْطِنا شَيْئًا سِوى الرِّيحِ الَّتي
حَمَلَتْ مَعانيهِمْ إلى كَلِماتِنا
وَرَمَتْ مَراكبَنا عَلى غاياتِهِمْ
وَلَوَتْ إلى ساحاتِهِمْ وَثَباتِنا
أُعْطيكِ رُوحي لَوْ بَقِيتِ أَنا وَأَنْتِ لِوَحْدِنا
يا مُبْدِعَ الآلامِ نَوْحي مَأْتَمٌ
لا تَنْتَمي أَحْزانُهُ لِقَتيلِنا
لُغَتي هِيَ الأَوْهامُ أَكْتُبُها عَلى
حُزْني وَأَدْعوها لِغَيْرِ سَبيلِنا
مَلأَتْ شَراييني دُموعُ أَحِبَّةٍ
لا يَسْأَلونَ السِّرَّ في تَقْتيلِنا
تَأْتي السُّيوفُ إلى مَصارِعِهِمْ كَما
تَأْتي الشُّهورُ إلى فِناءِ عَويلِنا
يَتَعانَقُ المَوْتانِ في أَجْسادِهِمْ
وَالسَّيْفُ مَحْمولٌ عَلى تَرْتيلِنا
وَخَتَمْتُ نَوْحي بِالصَّلاةِ عَلى الَّذي
لَوْلاهُ لَمْ يَفْرَحْ أَبي بِرَحيلِنا.
(نُشرت في صحيفة "نداء الأسوار" 1/6/1990)