تأبين النصّ في نصّ التأبين
تعقيب على كلمة محمود درويش في تأبين إميل حبيبي.
(نُشرت في مجلة «كنعان»، عدد 77، حزيران 1996)
دع الوطن يأخذ سرابه ويمضي. وتعال إلى ما تبقّى منّي ومنك لنصنع من قدرتنا على التغوُّط سببًا فلسفيًا لوجودنا.نحن، أيها القادمون الجدد من وطن الغربة إلى غربة اللاوطن، لسنا سوى ذواتنا التي نركض بها وفيها بحثًا عنها. ولا وجود لتلك الذات، وأيّة ذات أخرى، إلاّ خارج حدود الأشياء وخارج أكاذيب اللغة الشائعة. وبالأحرى، لا وجود للذات إلاّ في ذات الذات.
هكذا علّمني! قال لي: هذه الأرض مُلابسة قَدَريّة. كلّ من يولد عليها شهيد حتى ولو أسلمَ سيّده للصّلب. لها لعبتها، ولنا لعبتنا معها وبدونها. إنها أرض الذات المفردة، لأنها ذاتٌ مفردة بين الأقاليم. القرية فيها ليست قرية والمدينة ليست مدينة، والاسم ليس أسما إلاّ بمدى ما يحمل صاحبَه إلى صاحبه. تستطيع على هذه الأرض المعجزة أن تخون دون أن تصبح خائنًا، وأن تقتل دون أن تصبح قاتلاً، وأن تصيد السمك دون أن تصبح صيادًا للسمك.مصير واحد للكلّ، يتأرجح كبندول الساعة بين الالتزام، ونقيضه الأقصى، وكلّ مولود بينهما شهيد. المسيح كان شهيدًا والأسخريوطي(١) كان شهيدًا، لأن كليهما كان ضحية مولده على هذه الأرض التي تتساوى فيها المعاني والمصائر فتتساوى فيها الأفعال.ما الذي ظلّ إذن أمام الفلسطيني سوى أن يحقّق ذاته في ممكن ذاته؟ ما الذي ظلّ أمامه ـ وقد سُلب حرّية الإختيار - سوى أن يبحث عن موقفه الوجودي في عاديّة الجسد، ويجعل من قدرته على التغوّط شرطًا فلسفيًا لوجوده؟!
هكذا علّمني! لقد مرّ التطوّر الطبيعي للتاريخ (لعلّ المقصود التطوّر الفيزيائي) على هذه البلاد فغابت عنها طبيعتها. اختفت سليقة العلاقة العضوية بين تفاصيل هويّتها الحية والصامتة، أثناء «التطوّر الطبيعي للتاريخ»(٢)، لتحلّ محلّها سليقة العلاقة العضوية مع الذات (التغوّط التلقائي) والاقتراب منها على حساب الاقتراب من الآخر الإشكالي (الاقتراب من جائزة نوبل على حساب الاقتراب من حيفا). وما دامت هذه هي حتمية «التطوّر الطبيعي للتاريخ» فلماذا نبحث عن «التوتّرات» (أي التجارب الإبداعية) في مناطق العلاقة بالآخر، لكي نكتب في النهاية أدبًا معاديًا للمرحلة لا يؤدّي إلى أيّة جائزة أو أيّة منطقة تتألّق فيها عاديّة الجسد، آخر معاقل الفلسطيني؟!
لقد علّمنا السُذَّج الطيّبون من أكَلَة البُقول، أن الاقتراب من الذات يكون بمدى الإبتعاد عنها نحو الآخر، وأن كمّها الفعلي هو كمّ العطاء. لم يكن المساكين قد أدركوا بعد خصوصيّة كونهم وُلدوا على هذه الأرض، التي فقدت طبيعتها (الطبيعية) أثناء «التطوّر الطبيعي للتاريخ» ـ لعلّ المقصود أيضًا التطوّر المسالم للتاريخ ـ فأصبح للذات فيها معنىً آخر. لم يدركوا كيفية التحوّل من الذات المحدّبة إلى الذات المقعّرة، فماتوا بذون ذوات، لأنهم انشغلوا عنها بمقاومة التعدّدية والتسامح والسلام، أي البحث عن «التوتّرات» في مناطق العلاقة بالآخر. لم يستطيعوا أن يدركوا أن البقاء في حيفا، والتغوّط في دورات مياهها، ومضاجعة زوانيها، يشكّل سببًا كافيًا لخيانتها. لقد نسوا ذواتهم، فأكلتهم خرافة الوطن.
عاشوا عبثًا، وتوتّروا عبثًا، وماتوا عبثًا. لم يفهموا من أسرار التناقض إلاّ ما بين الأبيض والأسود، ما بين القمّة والقاع، ما بين ما سمّوه الخيانة وما سمّوه الشرف. أمّا التناقض الدقيق بين «الطائرة والطائر» فقد كان المهمة الصعبة التي أوكل القدر حلّها إلى الأسخريوطي فحملها فداءً لسيّده. ولن يفهم لغز هذا التناقض إلاّ من فهم أن مهمّة الخيانة أصعب ـ دائمًا ـ من مهمّة الشرف، وأن الأخذ يمكن أن يكون أحيانًا أرقى في الفعية هدفها اس، لأن الغاية هي التي تحدّد القيمة، وليس هناك غاية أسمى من السلام. وبهذا المنطق الشاقّ، تكون مع الطائرة ضدّ الطائر، ومع الصليب ضدّ السيّد، ومع العدو ضدّ شعبك، دون أن يحقّ حتى للّغة أن تمسّك بسوء.
آه يامعلّمي لماذا ظننت أنهم سيفهمونك! لقد كانت هذه خطيئتك الوحيدة. أنت الذي كنت «تعرف نفسك (جيدًا)، وتعرفنا جميعًا ـ واحدًا واحدًا ـ من أقدم الفاتحين حتى آخر العائدين»، رفضت مع سبق الإصرار أن تفهم أن شعبك لن يفهم تضحيتك إلاّ متأخّرًا، وتحت طائلة ابتذال دمه ووعيه وأخلاقه.
كان بوسعك أن تكتفي بالنبوءة ثم تترك «التطوّر الطبيعي للتاريخ» ليقوم بالمهمّة. ولكن ذلك لم يكن بوسعك، لأنك كنت تبحث عن التوتّر في منطقة السؤال، لأن اليقين يُودي بالذات ويؤدّي إلى الموضوع، وأنت لم يستهوك الموضوع إلاّ من حيث كونه مهمّة سندبادية هدفها استقصاء الذات في مناطق التوتّر. لذلك كنت تعانق أخطاءك المتعمَّدة معانقة العاشق، تمامًا كالسندباد؛ تصعد إلى ظهر السفينة مزوَّدًا بظنونك الخاطئة ـ عن معرفة منك ـ لكي تمتحن نفسك في وحشة اعتزال الآخر، حيث يصبح الإبداع شرطًا من شروط الوجود البيولوجي للذات.
إن شعبك الفلسطيني، بمن فيهم أولئك الذين قصفتهم أوّل طائرة حصل عليها الشعب الآخر، وشعبك العربي (بمن فيهم الجدْي الفرعوني المستعرب بطرس غالي والراقصة متولّي وفريدة النقاش وعبدالله زعتر) يعرفون جميعًا الآن معنى «التطوّر الطبيعي للتاريخ».أمّا أولئك الذين سقطوا في مناطق التوتّر الخاطئة، فإنهم ولا بدّ يعرفون اليوم أن نبوءتك كانت أصدق من دمهم، وأن تناقضاتك القَدَريّة كانت جزءًا من حتميّة التاريخ المسالم الذي يسير، لسانًا بلسان، نحو التعدّدية والتسامح وحرّية الاستسلام. ولكن أين أنت الآن من حلمك الذي تحقّق!
إن منهجك الفذّ في الركض نحو ذاتك عبر جسد النكبة، موليًا ظهرك لما تفعل، لأنه ليس ما تريد أن تكون، وإنّما من أجل ما تريد أن تكون، هو الذي أعاد إلى هذه الأرض وهذا الشعب طبيعتهما الغائبة ليصبح الركض نحو الذات عبر جسد الهزيمة المباركة نحو ما نريد أن نكون، بدون أن نكون ما نريد، أساسًا لمصالحة تاريخية تتجاوز حصّتنا في الماء والهواء والتراب، إلى وطن مستقلّ لا حدود له. لقد رفضنا التقسيم فوافقوا عليه، وحينما وافقنا عليه رفضوه، فوافقنا على تقسيم التقسيم، وحينما رفضوه أيضًا، وافقنا على تقسيم تقسيم التقسيم، فواصلوا رفضهم. ولكننا سنواصل الموافقة حتى ندفعهم دفعًا إلى موقف لا يستطيعون فيه مواصلة الرفض. لقد علّمتنا من المحيط إلى الخليج ألاّ نؤمن بالحدود، لأن الذات في طريقها نحو ذات الذات تستبدل مناطق توتّرها باستمرار، إلى أن تجد توتّرها الأسمى في ذاتها الذاتيّة، وتحقّق النشوة الدائمة بانفصالها المطلق عن حيفا والبقاء فيها.هذا هو التناقض الأسمى! الاقتراب في الابتعاد، والوصال في الانفصال، الذي سيحقّق السلام العادل، ويؤدّي إلى قيام الدولة الفلسطينية ـ ولو تحت كوفيّاتنا ـ وعاصمتها القدس الشماليّة.
أيها المعلّم! قم لترى وتسمع الكلاب التي نَبَحَتْكَ وهي تمجّدك! قم لتشهد اكتشافك من جديد! هل كنت تعرف قبل موتك أنك مناضل وأنك شهيد؟! لعلّك عرفت، ولكننا لم نكن نعرف، لأن طبيعتنا الغائبة لم تكن قد عادت إلينا، ولأن الوطن كان في أذهاننا فكرة موضوعية. كان أرضًا وناسًا ومعنىً. فنحن لم نكن بعد قد غادرنا منطقة الذات المحدّبة،المثقلة بالآخر وأشباح الماضي، إلى منطقة الذات المقعّرة، منطقة ذات الذات، حيث يصبح الوجود شرطًا خارجيًا زائدًا، لم يعد الكائن بحاجة إليه. إنه ينتج شرط وجوده بنفسه. ينتج «دليله وسبيله»(٣) ومعناه؛ أنا أتغوّط فأنا موجود! حاشية المؤبَّن!
أيها الميت المميت! كم جررت معك من جثث إلى حفرة الدفن! كنت دائمًا سيّد الموقف والحيّ الوحيد بينهم، ولم يكونوا سوى عَرَض لوجودك، وحينما سقط ظلّك تحتك سقطوا معه. أنت الوحيد بينهم الذي يحقّ له أن يؤبِّن، لأنك كنت أنت أنت، وهم أيضًا كانوا أنت. ولكن لسنا نحن الذين يجب أن نؤبّنك، ولا أظنّ أنه يهمّك أن نفعل. سيقيمون لك تمثالاً في كلّ عاصمة عربية، وستعلن وزارة الثقافة الإسرائيلية عن جائزة تحمل اسمك، فما حاجتك إلى تلك الظلال الأدبية الباهتة، التي تتساقط على خُطاك لتحملها في سفرك الواثق إلى حيث أردت أن تكون! إنهم يعتقدون أن من السهل عليهم أن يشبهوك. وقد يشبهونك فعلاً كما تشبه النفخة العاصفة والسحلية الديناصور، ولكن حتى هذا كثير عليهم لأنهم أقصر حتى من أنفسهم.
أيها الميت المميت! لن أحبّك حتى يحبّ اللاجئ لجوءه، وحتى يحبّ المخيّم الطائرة. ولكنني لم أعرف أحدًا استطاع أن يمثّل بالناس في وطنه كما فعلت. أتخيّلك في أسفارك العربية، تركب عربة تجرّها النمور، تخترق بها الأفق العربي المنكبّ على أقدام عابري السبيل، وتمدّ يدك بعصاك السحرية إلى الرؤوس الصلعاء - علامة الانتماء الوحيدة إلى الأكاديمية والثقافة - فتحيلها إلى ببغاوات تمجّد عبورك الرهيب.
لقد صنعتَ «مجدك» بيديك! ولكن هل كنت تستطيع ذلك حقًا لو لم تكن عربيًا؟ أنّى لك حينذاك مثل هذا الحشد من عجائب المخلوقات الأدبية والسياسية، ذات الفكر الحيادي، المحتقنة كالمثانات برشوحات الثقافة التي انتهى تاريخ صلاحيتها، لترقص عند قدميك كفئران السيرك؟! أنّى لك هو، أو هي أو هم، من تلك الرخويّات الثقافية، التي لا يضبط قوامها إلاّ القوارير! هل كنت تستطيع ما استطعت لو لم يكن فكر ووجدان المثقّفين العرب فَرْجًا مباحًا لكلّ عابر نزوة!
حينما أتيتَ إليهم على قدميك، وكانوا معلّقين كيفما اتّفق على سلالم الشهرة المجانية، لم تقل لهم: إنزلوا إليّ! كنت تعرفهم واحدًا واحدًا قبل أن تراهم، وتعرف تبعيّتهم للّغة، فقلت لهم: إصعدوا إليّ! فتملّكهم بؤسهم الوراثي، وشعورهم الصادق بالضآلة، وانحدروا إليك عن سفوح غثاثتهم صاعدين، ليلتجئوا كالخراف المذعورة إلى حضن رعويّتك الآمن. لقد تجاوزوا حتى ثقافتهم المُدَبْلَجَة، وتناولوا نصوصك على أنها لغة ومصدر وجنس أدبيّ فقط. ولم يحاولوا حتى أن يتظاهروا بالتحاور الإبداعي أو الثقافي أو السياسي معها، فقد كانوا حياديين كالـمِبْوَلَة، من هذه النواحي. كلّ ما كان يهمّهم أن يروّجوا لك، معتقدين ـ وبحقّ ـ أنهم كانوا يتملّقون المرحلة، ويروّجون لأنفسهم.
ستأتي مرحلة تقييمك الموضوعي سياسيًا وأدبيًا، وسيبقى منك على الأقلّ فعلك فيهم وفي المرحلة، وأدبك الأسلوبي المتواضع. أمّا هم فلن يبقى منهم إلاّ سُلوقِيّتهم، شاهدًا على دناءة الواقع العربي وبلوغه حضيض الحضيض. إن أدب التماثل مع الصهيونية، أو ما يمكن تسميته، من الآن فصاعدًا، أدب التماثل مع «التطوّر الطبيعي للتاريخ»، تحت ستار أخلاقي وفلسفي يشكّل أداة الجريمة، بل هو جريمة إضافية، سيكون علامة فارقة في تاريخ السقوط العربي المعاصر، ولهذا السبب وحده سيكون لأعلام هذا الأدب شأن يُذكَر في التاريخ الأدبي والسياسي الفلسطيني الحزين. أمّا ضاربو الدفوف والمزاهر الذين يرافقون الأداء، فسوف تتلاشى أصوات دفوفهم ومزاهرهم.
لقد صنعتَ «مجدك الكبير» بيديك، ولكنك لم تكن لتستطيع ذلك بدون الصغار.
حاشية أخرى: المؤبِّن
أيها العائد إلى المرحلة في جنازة الوطن، ما أشدّ غيابك بعد اليوم! لقد أرسلوك لتحمل إلينا بشارة المنفى التي حملتها قبلك الطائرات، سواء تلك التي أفرغت حمولتها في دمائنا، أو تلك التي أفرغتها في قمحنا وزيتنا وعسلنا. أرسلوك لتقول لنا إن ما كان وطنًا أصبح أرضًا للزيارة، وإن خيارنا بين أن نكون وطنًا لتاريخ جديد، أو تاريخًا لوطن قديم، هو الخيار الأخير أمامنا. ولقد أدّيتَ عنهم فأحسنت الأداء، ولكنك لم تحسنه عن نفسك، لأنك أفرطت في الإعتذار، وبالغت في الإنحناء لكلّ ما حولك، حتى جعلتنا نظنّ أنك تسخر بنا. لولا وقوعك في مهزلة الإعتذار، لما أحسسنا أنك أسأت إلينا بشيء. فأنت لم تُضِفْ إلى همومنا همًا جديدًا، ولم تصوّر حالتنا بأسوأ مما هي عليه، ولولا فارق المكانة بينك وبين غيرك لدينا، لما خرجنا على حزننا العادي، ونحن نصغي إليك، ولكنك في طريقك نحو الإعتذار حاولت أن تثبت بالدليل العقلي أنه ليس هنك سبب للحزن، وأن في الفرح مكانًا كافيًا للجيمع، فأسأت إلينا.عليك أن تعرف سلفًا بأن هناك سببًا كافيًا للحزن لدينا، حتى ولو لم يكن أمام التاريخ أي خيار فيما حصل لنا. نحن من هذه الناحية عيّنة مرضيّة مبرَّرة تمامًا. فالتاريخ في تطوّره الطبيعي يحدّد المصائر على غِرار قَدَريّ لا حيلة له فيه، لكن للإحساسات تاريخها الموازي أيضًا في الناس، لذلك يبكون حتى على الموتى. التاريخ في تطوّره الطبيعي يقرأ أوامره اليومية، فيهدم القرى والمدن التي تقرّر هدمها، ويقتل من أهلها من ورد اسمه في قائمة القتل، ويشرّد من ورد اسمه في قائمة التشريد، لكنه أثناء ذلك يحدّد هوية الإحساس على غرار هوية المصير. فلماذا حاولتَ الاعتداء على هوية إحساسنا كعيّنة منكوبة؟
لم يعد فينا هويّة لأيّ شيء سوى الحزن، ولم يبق لدينا ما ندافع عنه غيرها. إنّها جواز سفرنا إلى ذواتنا. فلماذا حاولت أن تعتدي عليها؟ ألكي تدعم اعتذارك بأنك ضحية الأوامر العسكرية الصادرة إلى التاريخ، وأنك غير مسئول عن فرحك بالتعدّدية والتسامح والسلام، تحاول أن تنتشلنا من هويتنا القائمة على الحزن الناجم عن التعدّدية والتسامح والسلام؟! تحرمنا من حزننا من أجل أن تبرّر فرحك الذي تظنّ بأنه في حاجة إلى تبرير!ألم يفرح الفلاشا والغروزيّون حينما عادوا إلى وطنهم؟! ألم يفرحوا بالقرى والمدن التي ظننّا أنها كانت لنا؟ فلماذا لا نحزن نحن عند خروجنا منها؟ أذلك لأنّ التاريخ لم يكن بوسعه أن يفعل شيئًا من أجلنا، أم لأن على التاريخ أن يصنع شيئًا من أجلك، حتى ولو جعلتَ منه عميلاً قَدَريًا للفلاشا؟
كان عليك أن تُدْلي بفرحك وتمضي. لم يكن عليك أن تفسّر حقّ الفلاشا في العودة، ولا حقّنا في الموافقة على ذلك. كان عليك أن تُدْلي بما يدعم صدق نوايا الذين ألغوا المثياق الوطني الفلسطيني وتمضي؛ أن تؤدّي مهمّتك الرسمية وتمضي؛ أن تؤبّن من تشاء بما تشاء وتمضي. كان عليك ولك أن تقول أيّ شيء، عدا أن تبرّئ التاريخ وتديننا، أثناء تبريرك لكلامك بكلام آخر. لقد ظننّا طيلة الوقت أننا ضحية اعتداء نادر. ظننّا أن كهنوت المال استعان بالأسطورة ليحقّق الجريمة الكاملة فينا. كنا مقتنعين أننا ضحية أول انتصار لإرادة جزئية مدعّمة بالقوّة والدهاء على التطوّر الطبيعي للتاريخ. وعجزنا أن نحزن بما فيه الكفاية، ولكننا حزنّا بقدْر ما نستطيع. لم يعد لنا سبيل واحد لنعيش كبشر سوى أن نحزن. فأتيت إلينا لتقول إن التغوّط وحده سبب كافٍ للعيش، وإن حزننا لا معنى له، إلاّ بمدى ما يقرّبنا من فهم أحزان عجائز بروكلين الذين لم تسمح لهم الظروف بعد بالعودة إلى بيوتهم في حيفا، وأن ما حسبناه مخالفًا للتطوّر الطبيعي للتاريخ لم يكن سوى التطوّر الطبيعي للتاريخ بحذافيره.
نحن مضطرّون إلى تكذيبك، إن لم يكن دفاعًا عن أنفسنا، فدفاعًا عن حزننا، لأننا نريد أن نبقى بشرًا وليس مجرّد منتجين للغائط. كان بإمكانك أن تقول ما تريد وتظلّ صادقًا. كان بإمكانك أن تقول: لقد هُزمنا إلى الحدّ الذي لم تعدْ تجدي معه أيّة مقاومة؛ إلى الحدّ الذي أصبح معه الاستسلام مطلبًا إنسانيًا عادلاً. ربّما كنا سنناقشك عندها على شيء واحد، على طريقة الاستسلام. فنحن كنا نفضّل أن نلقي بأسلحتنا، وننصرف إلى حزننا وحياتنا البيولوجية وليفعلوا ما يريدون، لأن ما يفعلونه بنا اليوم هو ذات الشيء، مشفوعًا باعترافنا ببراءة ذمّتهم من دمنا ومن كلّ ما ادّعيناه عليهم سابقًا. وفي النهاية فإنهم لن يعطونا أكثر من حقّ التغوّط بحرّية، وهو ما كانوا سيجبروننا على أخذه لو امتنعنا عن لعب دور الإرهابي المستسلم. فما الفائدة إذن من التفاوض بين فقحتنا وإحليلهم سوى تملّق غريزة الشبق لديهم؟
كان المشهد عاديًا وبائسًا مثل كلّ المشاهد اليومية في حياتنا كشعب سابق. وكانت مبعوثيّتك خاسرة على كلّ المستويات. فعلى المستوى الشخصي قد تحصل على تلك الجائزة المخابراتية(٤) التي لم تعدْ تشرّف سوى مانحيها، ولم تعدْ لها أيّة هيبة معنوية أو حتى اسميّة بعد أن أصبحت توزَّع بالحصص على وكلاء أمريكا والصهيونية المعتمَدين. قد تحصل عليها. ولكنها في حالتك جائزة دموية أيضًا، لأنها تأتي قبل ختام الملحمة التي أسفرت عن فناء أعرق شعوب العالم. هذا الشعب هو ما كان يومًا شعبك. وجائزة تُمنح في ملابسات كهذه، هي عملية تشهير سوداويّة. أمّا على مستوى التحاذق السياسي، فللّه الأمر من قبل ومن بعد. لقد كان أفضل لهذا الشعب لو ابتُلي بالطاعون، من أن يُبتلى بحنكة تلك المجموعة النادرة من فقهاء السياسة المتلفزة. كأن هؤلاء الفقهاء يدهنون الخبز بالمقلوب، فلا يسقط إلاّ على وجهه المدهون. والمشكلة معهم أن الذكاء لا ينقصهم، ولكن ما ينقصهم فعلاً، هو عالَم يلائم طريقتهم في التفكير. لذلك وقعت قطعة الخبز هذه المرّة أيضًا ـ كالمعتاد ـ على وجهها المدهون. وهكذا - كما قلت عن نفسك - عدتم جميعًا من هذه المبعوثية ناقصين.
ستذهب إلى جائزتك، ونذهب إلى أحزاننا، فقط لكي نموت بشرًا. تذهب إلى منصّة التكريم، ونذهب إلى قبور الشهداء داخلنا وخارجنا. نضع دمعة، ونقول لهم: لا بأس! لقد كان موتكم رغم كلّ شيء رائعًا!
هوامش:
(١) يهوذا الأسخريوطي، أحد تلاميذ السيد المسيح، غدر به وأسلمه لأعدائه.
(٢) العبارات بين الأقواس الصغيرة مقتبسة من نصّ كلمة التأبين.
(٣) نصّ التأبين.
(٤) جائزة «نوبل».