قراءة في أضواء
قناديل فوزي البكري على السور الحزين
بقلم د. عادل سمارة
قناديل على السور الحزين، مجموعة شعرية جديدة تجرأ فوزي البكري وخرج بها على المرحلة كما يخرج المسحوقون على السادة. وهي مجموعته الثانية بعد مجموعة "صعلوك من القدس القديمة".
يستمد الإنسان فرداً كان أو جماعة مبرر وجوده وحافز استمرار هذا الوجود من مشروع معين ينتمي إليه، وربما يخلقه. أما بدون المشروع فتهرم الأمم كما يهرم موظف تقاعد مبكراً ويقبع بين جدران منزله. هذا المشروع هو جوهر العبارة القديمة المتجددة أبداً: الإنسان مدني بالطبع". وعليه، يشكل غياب المشروع أزمة لا تقل عن ضياع المشروع وفقدانه أو هزيمته. وقد يسعف الإنسان عند هزيمة المشروع أن يخلق مشروعاً آخر ربما كان بديلاً أو مكملاً للأول.
قد يصح لنا تطبيق أدوات هذا المدخل على موضوعه الشعر العربي الفلسطيني اليوم أو لنقل مأزقه. هل الشعر الفلسطيني لسان الشعب كما هو: "الشعر لسان العرب"؟ وإذا صح هذا لفترة من الزمن، فهل ما زال العنوان صحيحاً؟ وما هي معايير تحديد صحته من عدمها؟ بوسع الشعر أن يذهب إلى أي موضوع يراه الشاعر. ولكن، كي يكون الشعر "لسان العرب"، فلا بد أن يكون في هذا الشعر ما يريده المجموع، لا بد من هدف جمعي من جهة وواضح وملتصق بالناس من جهة ثانية، وبغير هذا يرتد الشعر ليكون "لسان الفرد" بلاغته وخياله وإنتاج وإعادة انتاج هذا الخيال في نطاق الفرد الذي يتغذى على المجتمع ولكن دون حالة رجع من جانبه ليغذي هو المجتمع.
هنا يدخل الشعر في نطاق "الفردانية" الرأسمالية. ولكنه دخول خطير جداً في حالة الشعر العربي الفلسطيني لأنه ما زال أمام مهام جمعية لا فردانية. فباستثناء الأمور الإنسانية الشخصية كالحب والمتعة والتفكير الحر وممارسة الحرية، فان كل ما هو اجتماعي ما زال انجازه بحاجة إلى موقف جمعي، التحرر السياسي، تحرير الجغرافيا، تحرير علاقة الفرد بالحكم، التحرر الاقتصادي، التحرر الاجتماعي، حرية ومساواة النوع (الجندر)، حرية فهم الدين.
مناخ الشعر وخلق المناخات
الثورة، آية الثورة هي مناخ للشعر. وفي ظل الثورة تنفتح إمكانيات وآفاق عدة لخلق مناخات جديدة لأن الثورة حراك اجتماعي شعبي هائل، هي تفتح مائة زهرة، ومن المائة أخرى. أما الهزيمة واستدخال الهزيمة، فهي صحراء الشعر قبل أن تكون صحراء أي شيء جميل آخر. هذا ينقلنا إلى وجوب المفارقة والفصل بشدة بين المناخ الشعري في حقبة المقاومة، وبين المناخ الشعري الحالي. في حقبة المقاومة كان كل موقع وكل موقف وكل حدث مناخاً شعرياً، موضع كتابة، موضوع معاناة خصبة، أما تقييم حدود ومستوى إنتاجية الشعر في تلك المرحلة فليس موضوعاً هنا. قي حقبة التسوية يكون المناخ رمادياً حقاً. في هذه الحقبة، يجري النكوص الشعري من الجمعي إلى الفرداني. ومن الوطني والطبقي والقومي الـ "العالمي" إلى "الكوزموبوليتان حيث لا حدود ولا تحديدات ولا موضوع. يتوزع الشعر بين الطرفين الأقصيين (الفردي والكوزموبوليتي)، هاجراً العمق الرابط بينهما. هنا يحاول الشعر أن يقرن نفسه بالتكنولوجيا وبالفلسفة. وهي محاولة محكوم عليها بالفشل، إنها محاولة من لا سيقان له ليقاتل في وادي العمالقة. فالتكنولوجيا في النهاية شيء مادي ملموس متبلور في ماديات في خدمة الإنسان، بغض النظر عن قيام إنسان بحجبها عن إنسان آخر كما يفعل الغرب الرأسمالي، والفلسفة عالمية أيضاً، ويمكن استعارتها وفهمها وتطويرها ونقدها ونفسها. أما الشعر، فهو تعبير حي عن حالة ومناخ يعيشه الناس بشعرهم. قد يتسع هذا الشعور الحي فيكتب شاعر مصري اليوم عن صمود كوبا، وقد نقرأ ونستمتع بما كتبه أراغون عن الزا، ولكن علينا المحاذرة هنا جيداً، فهذه المتعة آتية من تقاطعنا مع مشروع جمعي عالمي هو الثورة الإنسانية بعامتها. ورغم كل هذه التفاعلات، يظل الشعر شعر المكان وثقافة الشعب كقاعدة، وشعر اللامكان كاستثناء.
هنا تختفي المراكز والأضواء والمواكب ويجد شاعر مثل فوزي البكري موقعه، أي بين الناس والآهلين سواء كنا في حقبة المقاومة أو حقبة استدخال الهزيمة. هنا يختلف هذا الصعلوك عن شعراء الإيديولوجيا الفلسطينيين، فليس من أشياع الشعر للسلطان ولا الشعر للشعر وإنما الشعر للناس. ومن هنا يبقى مع الناس كما هم. وهنا تكمن الأصالة. فهو لم يصعد مع القيادات والحكام عندما تألقوا، وبالتالي لم يفقد موضوعه الشعري عندما أصبح الكثيرون يسمون فلسطين إسرائيل. ربما كان أنانياً هنا فاحتفظ لنفسه بمصدر الهامة وخياله. لا بأس، ولكن هذا ما تمسكت به ذاكرة الشعب أيضاً.
غرق الكثير من شعرائنا ومثقفينا في تحويل الفكر والهوية والذاكرة إلى ايديولوجيا. ولأن الإيديولوجيا هي الوعي الخاطئ والزائف والمتغير والمصنوع والمصطنع، والمعد تفصيلاً حسب الطلب، فقد غادر هؤلاء تماماً وكلياً المناخ الشعبي الذي ولدت فيه المقاومة، والحق التاريخي وحق العودة وهدر الكرامة وبؤس المخيم، ونظرة "الاحتقار والاستضعاف" للاجئ، استضعاف على كل المستويات. غادر هذا كله لصالح مشروع اقتصادي يقدم دخلاً ولا يبذل ربحاً ناتجاً عن عملية إنتاجية. مشروع حل سياسي غير منتج وممول من الدول والمنظمات المانحة. ولأن موضوعات الشعر كانت بالنسبة لهم ايديولوجيا فقد تخلوا عن هذه الموضوعات، وأصبح مصدر "إلهامهم" هو النظام العالمي الجديد بخطابه المختصر في مصطلح "التكيف".
أما فوزي البكري فلم "يتكيف" وبقي الوطن بالنسبة له هو الوطن:
لو تعلمون..
ان ضمة من النعناع
تداس في بوابة العمود، لا تباع هي الوطن.
فالوطن لدى فوزي هو كل هذه البساطة والنعومة. ليس النفخ في ماسورة البارود، وتقديس الفعل إلى حد يتجاوز المألوف ويقترب من الفاشية، وبعزله عن الفكر والانتماء مما يولد في النهاية مناخ تحول الوطن إلى إيديولوجيا كما يغير المرء ثوبه.
وفي حين يختار الكثير من الشعراء، ولا سيما الفلسطينيون، صناعة الفن على الفن الشعبي، على الفن عبر قضايا الشعب وهويته وذاكرته، فإن فوزي البكري يصر على البقاء ضمن وقائع الحياة اليومية للناس ويرفض الهروب إلى حالة من العالمية غير المحددة، بل والضائعة بحثاً عن عدم الالتزام وما يعنيه من تبعات.
تقتضي إعادة التثقيف أن تنسى المقاومة والحقوق الوطنية والاضطهاد وبرد المخيم، ومآسي العائلات التقليدية البسيطة التي هتك سترها. لقد فعل المتكيفون كل هذا، وبالتالي، أصبحت "أنا" الواحد منهم "لغته" يا للهول.
هنا يشذ فوزي البكري عن القاعدة. فهو فلسطيني مثمر في المقاومة وعربي شأنه شأن الناس الذين لم يتغيروا، لم يتكيفوا. يصر على أن يظل مهر القدس القديمة الحرون، مهر الرفض مع ما يعنيه هذا الرفض من ثمن:
لحظة الحقد
فقير تحت سور القدس
صبي في مخيم
يلبس العري
شهيد ميت الثار
ونذل
يسحب الأرض لتجثو ركبتاي.
قد لا أبالغ، الا قليلاً، إذا قلت أن هذا المقطع يكفيني لأرفع هذه المجموعة الشعرية والشاعر نفسه إلى موقع سيد شعراء هذا البلد. فهي ثلاثية غاية في التعبير وتكثيف المرحلة، هي سور القدس، ذلك الحضور التاريخي الذي يحمي المدينة المقدسة، وهي شهيد ميت الثأر، نعم في حقبة استدخال الهزيمة يصبح الشهيد هو حقوق للشعب ولا سيما حق العودة، وفوق هذا وذاك هي أيضاً: "نذل" يسحب الأرض لتجثو ركبتا كل من لم يحثُ بعد! إنها الدعوة المشؤومة للتكيف واستدخال الهزيمة التي يحب الناس تسميتها "التطبيع".
حينما يتعرض الشاعر للمشروع السياسي، هو مشروع الهوية والثقافة معاً، عندها نستطيع أن ندرك تميزه ولا سيما في حقبة فقدت فيها الألوان واستبدلت بأثمان. وفي الوقت الذي يتنادى الجميع لنصرة القدس، يقف فوزي من بين قلة نادرة لتقول: لا تصدقوا. فهو يحتقر المرحلة لفرط ما يعج بها من كذب ورياء مكشوفين.
ويرفض التكيف مع المقتضيات والأدب "الطارئ على حياة الشعوب.
لا تنحصر مقتضيات التكيف في نسيان الوطن واستبداله وتصغيره إلى أصغر منزلة عشرية، ولا في تعميق القطرية الفلسطينية والتغربن الثقافي، بل تصل أيضاً إلى ما هو أعمق من ذلك بكثير، فاستدخال الهزيمة يدخل البيوت بيتاً بيتاً لدرجة نسيان الشهداء.
قبل شهيدك قبل أن يغتاله
النسيان
في الزمن العراء
قبل شهيدك
شامة شماء في خد البطولة
أليس نسيان الشهيد هو الأصعب من سقوط الشهيد نفسه؟ لعل المقصود هنا ضياع المشروع الوطني برمته، بأبعاده المختلفة عن الهوية والثقافة والذاكرة والجغرافيا والموارد والتراث، أليست هي إعادة تثقيف الشعب الفلسطيني بالثقافة الأخرى ثقافة السيد المغري التي هي تضخيم غربيته وتصغير وتقزيم تاريخنا وحاضرنا واحتجاز مستقبلنا. لا أدري إن كان يجوز لي القول أن الشاعر في قصيدته "زغاريد في عرس الزنابق" يسيطر على التاريخ والتراث في استخدامهما وتوظيفهما في مقاومة وباء "التكيف" بقوله:
المسجد المحزون.. يا شوقي
تبرأ من فلول بني أمية
والمسجد الأقصى شهيد
بغداد يا أم القرى
بغداد يا جرح النخيل
فالعامرية نجمة مذبوحة
في حضن أطفال الخليل
الجوع وعدك
والحصاد المر وعدي
والصوم عندك
والصلاة قبل فجر الفجر عندي
إن الحياة
هي الحياة بغير قيد
هي رعشة الشهداء
ما بين التحدي والتحدي
هنا يدمج الشاعر بين هذا الامتداد التاريخي للخيال كما امتداد الخيال نفسه، من بني أمية إلى شوقي مروراً بالجامع الأموي وصولاً إلى مجزرة ملجأ العامرية. أما الخيط الناظم لهذا كله فهو التاريخ العربي وموقف الشاعر الذي لم يتكيف. أنه استلهام التراث وتوظيفه في الصمود على المواقف. أما الصورة الشعرية فقد جائت لفرط صدقها قوية كعملاق في العلياء بضرب السحب بسوطه الممتد بما هو أطول من المدى ليسوقها مطراً يضاجع الأرض فتعطي نماء وتحمل بالثورة.
ويظل فوزي كما بدأ، واضحاً وحدياً إلى أبعد الحدود. فهو لا يرى التكيف عند اليمين، بل عند اليسار أيضاً، يقول في قصيدة مخاطباً غسان كنفاني:
غسان..
لو بعثت حيا يا ترى
فما الذي تقول
لو رأيت التوت
تستحي أوراقه فتختفي
من عورة التنازلات
وما الذي تقول
لو رأيت كيف أصبحت بوصلة
اليسار
تفقد الجهات؟!
إذن، في حقبة الممالأة والمجاملة يظل فوزي كما هو يقف بتواضع، ولكن بوضوح كالقليل من المثقفين الصامدين ليظلوا شموعاً صغيرة تنير درب من سيبدؤون غداً.