هول
أمال كرشه المستديرة المتماسكة، ثم اتكأ على يسراه مستعينًا بيمناه بالحائط، ووقف على قدميه في حركة مبهمة خالية من التفاصيل كما تتحرك كل الأشياء الكروية. وكان هناك فرق ضئيل فقط، بين ما كان عليه قبل الوقوف وبعده؛ ظلت الاستدارة غالبة والصلة بالأرض أكثر رسوخًا وإقناعًا من الانفصال عنها.
وتحرّك باتجاه الباب.
كانت أمّه على باب الغرفة تحمل بإحدى يديها دلوًا من الماء، والمكنسة بيدها الأخرى. وضعت الدلو على الأرض ومسحت بعضدها صُعُدًا على جبينها فتراجع الشعر الرماديّ الكث عن مقدمة الرأس ريثما زالت العضد ثم عاد إلى وضعه الأول. وتململ في داخله الشعور المعتاد بالنفور والضيق كلما اصطدم بها، ولكنه كالعادة أيضًا كبت ذلك الشعور بمنتهى الحزم والتمنع ونظر في الوجه النحيل المبلل بالعرق، ومسح بدوره العرق عن جبينه.
- إلى أين؟
فقال بلهجة طبيعية كلفته كثيرًا من الجهد:
- أتمشى!
وغاب هدوء وجهها في الدهشة المفاجئة:
- تتمشى! في مثل هذا الحرّ!
وأجاب بهدوء متوتر:
- أرحم من هذه الأصوات التي تسقط على رأسي كالحجارة.
ورفعت رأسها نحو السقف وكأنها تنظر إلى الأصوات الصغيرة الحادة التي كانت تأتي من الطابق العلويّ، ثم قالت:
- مرّة في العمر. لا بدّ من الاستعداد للساعات القادمة.
إنهم جيران طيّبون كما تعلم. وما أزعجونا أبدًا.
- لست أعترض، وسوف أغيب ريثما يفرغون من ذلك.
- لن يفرغوا منه قبل المساء، وفي الخارج جهنّم.
- لن أغيب طويلاً.
انحنت تتناول الدلو عن الأرض، ثم قالت وقد اكتسى وجهها تعبيرًا جديدًا فيه عطف وودّ:
- مسكينة "أميرة". أتدري! جاءت تدعونا صباح اليوم..
فقال متهيئًا للهرب:
- وما الغريب في الأمر! نحن جيران!
وهزّت رأسها بحزن يغلب عليه الاستسلام:
- ليس هذا. إنها خائفة.. أو تشعر بوحشة شديدة للفراق.
ولما لم يجب، تابعت:
- قلت لنفسي اليوم، هذا نفس ما اعتادت الفتيات أن يشعرن به قبيل خروجهن من بيوت العزّ إلى بيوت الأزواج. إنه لدى هذه البنت أكثر من ذلك بكثير. لقد بكت حتى كدت أجاريها.
قال:
- فرح متخفّ.
- لا. لو سمعت ما قالته ما ظننت هذا. سألت عنك أيضًا وقالت أنها تريد أن تودّعك. أن تجلس إليك كالعادة قبل أن تذهب. سألتني: هل سأعتاد يا خالة على فراقكم! إنني أشعر أنني سأموت لا سأتزوج. هل يحدث هذا لكل الفتيات؟
وقال ساخرًا:
- وماذا قلت لها؟
- أخبرتها أنها أطيب من الأخريات، لذلك فهي أكثر حزنًا.
صمت قليلاً ثم رفع وجهه المستدير كرغيف السوق وقال:
- في هذا صدقتِ. إنها طيّبة.
ولم ينتظر.
"أميرة" عروس. جاء الغريب ولمسها بعينيه فأصبحت ملكًا له.
الحرّ شديد فعلاً. قرأ هو لها شعرًا كثيرًا وعصر موهبته في الحديث على قدميها كلامًا جميلاً لم يقله غيره لغيرها. أحبّها هو. أعطاها كل ما هو جميل فيه واحتفظ لنفسه بالقبح والحب. هي أيضًا أحبته، نفذت من خلال بشاعته إلى داخله الجميل إلى أن اعتادت أن تجثم كالهرّة ساعات طوالاً في ذلك الركن الدافئ الثريّ دون أن يزعجها أحد.
"هول" لا يغار الناس منه على فتياتهم أو نسائهم. هول تسلية بريئة، حيوان أليف طريّ كالسمكة لا يعض ولا يخمش. "هول" طرافة ولهو يُسمح به حتى للفتيات.
الحر شديد. وهي أحبّته لأنه كذلك. لو طلب إليها أن تنام في سريره لما دُهشت. النوم مع الحكايات والشعر والأساطير لا يضرّ. لا يجوز التفكير أن "هول" يمكن أن يظنّ نفسه رجلاً.
الحر شديد. التلاميذ يدعونه مواجهة، "الأستاذ عزيز"، ومن وراء ظهره "هول".
قال للتلميذ في درس التاريخ:
- اقرأ.
وقرأ التلميذ:
- "بُنيت الأهرامات لتكون مقابر للملوك، وقد أقاموا أمامها تمثالاً عظيمًا منحوتًا في الصخر له هامة رجل وجسم أسد ليكون حارسًا عليها، ويدعى هذا التمثال اليوم...."،
ووجم التلميذ لحظات ثم أكمل وهو يرتجف:
- "أبو عزيز".
حدّثها عن ذلك لتضحك.. وفي الحقيقة لترثي له. وضحكت كثيرًأ.
الحرّ شديد. "أميرة" عروس وهو عريس. جلس إلى جانبها وفي داخله انتظار وهلع وسعادة كالمحيط. أخرج النساء اللواتي وقفن يغنين حولهما بدون أن يتكلم معهن. خرجن لأنه فقط أراد ذلك في نفسه، تقدّم إليها وابتسم. ألقت عليه بنفسها وبكت من السعادة:
- يا حبيبي. كيف استطعت أن أنتظر كلّ هذا الوقت!
مدّ إليها ذراعيه الطويلتين النحيلتين وضمّها إلى صدره فما بلغ رأسها بين ثدييه. حنى رأسه وقبّل شعرها:
- يا دميتي الصغيرة.
- يا فارسي الجميل
الحرّ شديد. أريد أن أرتدّ إلى زمن الآلهة، حيث تمرّ عرباتهم المجنّحة على ارتفاع أسطح المنازل يخالطون الناس ويكلمونهم ويشاركونهم الألم، والسعادة في بعض الأحيان. تمتدّ إليهم أيدي الناس المتعبين والتعساء بالقرابين، فتمتدّ أيديهم بالمنح والعطايا، يحيلون الموت حياة والمرض عافية والقبح جمالاً متى أرادوا. ما نفع الآلهة إذا كانت بعيدة لا يوصَل إليها؟ هذا الإله الغامض الذي تربّع على عرش "زيوس" مغرق في البُعد والخفاء، مغرق في الصمت واللامبالاة، مغرق في العزلة، لا يحب العالم. لماذا يتدخل في حياة الناس فتمتدّ يده إليهم بالتغيير والأخذ والعطاء!
الحرّ شديد. هل انقضى النهار بهذه السرعة! ليس هذا أوان العتمة. أم أنه الإله استمع إليه فجاء تظلل عربته الدنيا ليمنحه الجمال الذي يريده. لقد اشتد الظلام ولم يعد يرى طريقه. أين الاتجاه الصحيح! يجب أن لا يضلّ الطريق. لقد قال للكاهنة إنه لن يغيب طويلاً، فأين طريق الهيكل؟ لا بدّ أن يصل في الوقت المناسب قبل أن تطفئ الكاهنة الشمع الأصفر وتضيء الشمع الأحمر رمز الغضب فيعجّ الهيكل بعناكب الضوء الحمراء التي تنتزع الرضى من النفس بأقدامها الدقيقة وتملؤها بالخوف والألم. ها هو الهيكل. حمدًا للآلهة الرحيمة!
- لقد تأخرت!
- رفض خدم الأميرة أن يسمحوا لي بالدخول. قالوا إن منظري سوف يزعجها ويزعج الأمراء الذين جاءوا إلى الحفلة من كل البلاد.
- ألم تقل لهم إنني أرسلتك؟
- قالوا عد ولتمنحك الكاهنة الجمال إذا شاءت.
- حسنًا، سأمنحك. سأعيد الوقت إلى الوراء وتذهب أنت إلى الحفلة التنكرية ثانية وتتزوج الأميرة. ولكن إياك أن تتأخر فلن أعيد الوقت إلى الوراء مرّة أخرى، وسوف أضيء الشموع الحمراء في وقتها. تقدم الآن! أيتها العصا! خذي هذا القبح ووزعيه على الأمراء الذين في قصر الأميرة. أحضري لي عيني أمير من "طيبة" وجديلتين من "نينوى" وأنفًا حِثيًا وقامة راعٍ من "كنعان"، وعودي إليّ سريعًا.
- شكرًا أيتها الجليلة! شكرًا أيتها العصاّ
- كن أجمل الرجال، ولتقع كل الأميرات في حبّك والأمراء يغارون منك. اذهب الآن! ولكن إياك أن تقف في الشمس أو أن يناديك أحد باسمك الحقيقي. إذا وقفت في الشمس ظهر ظلك الحقيقي لأن الشمس لا تخدع، وإذا ناداك أحد باسمك عدتَ إلى صورتك الأصلية لأن الحقيقة والكذب لا يجتمعان. إياك أن تعصاني فتندم! عد غدًا في مثل هذا الوقت.
إنه لا يرى نفسه، ولكنه يشعر أنه جميل.
أفسحوا الطريق أيها الخدم وأخبروا الأميرة أنني قادم.
- آه يا حبيبي، كيف استطعت أن أنتظر كل هذا الوقت!
مدّ إليها ذراعيه الطويلتين النحيلتين وضمّها إلى صدره فما بلغ رأسها بين ثدييه، حتى رأسه وقبّل شعرها.
- يا دميتي الصغيرة!
- يا فارسي الجميل!
للعالم باب واحد يخرج الناس منه إلى الشرفة حيث الهواء الطلق والرخاء الأزرق اللانهائي. على الشرفة ترى الوجود وليس العالم فقط. تمرّ بك الكواكب الأخرى في دورانها وشرفتها هي الأخرى مليئة بالناس السعداء. يبتسمون لك ويلوّحون بأيديهم أو بأرجلهم أو يُخرجون ألسنتهم ويهزّون رؤوسهم على عادتهم في التحية. وكلّ ذلك لأنك سعيد مثلهم. السعادة عناق وقربى. في الكتب المقدسة أن الله لا ينظر في الآخرة إلى وجوه التعساء والفقراء والبشعين وإنما يأتيهم من الخلف فيصرخ:
- هؤلاء أعدائي! خذوهم إلى الجنة ليتعلموا السعادة ثم ألقوا بهم في النار.
آه يا دميتي الجميلة! لماذا تبدين لي مرّة أنت ومرّة هي! لا يمكن أن يكون لهذا العالم بابان. باب واحد، من وجده خرج من حرّ العالم الرماديّ إلى الأزرق المعتدل. هذا الباب هو إنسان آخر. مركبة بشرية. لحم دافئ طريّ يشيع في اللمس ويتسلل في الحسّ فيمتدّ ويستدير ويتقعّر في الرغبات.
- تعال نخرج إلى الحديقة.
- لا. الحر شديد، والشمس في عنفوانها.
- تعال نخرج إلى الشرفة.
- نعم.
- أين تذهب؟ باب الشرفة هناك!
- إنه هناك.
- هناك السرير.
- وهناك باب الشرفة.
انتظريني أيتها الشموع الصفراء. لا يكون الوقت بمقدار السعادة ولا تكون السعادة بمقدار الحب. الوقت حركة إلى الأمام والسعادة ارتداد إلى الخلف، وهذا الحب لا تكفيه سعادتي. أعطني قليلاً من الوقت يكفي لقبلة أخيرة! ها أنا قادم.
- إلى اللقاء يا دميتي الجميلة! غدًا في مثل هذا الوقت.
- إلى اللقاء يا فارسي الجميل!
لماذا؟ لماذا أيتها العناكب اللعينة! ألم يُشبعك الأزل كله فعجزت عن انتظار قبلة؟ وأنت أيتها الشموع الفراء، لماذا تتركين الأحمر يتحكم في الزمن فنسقط فيه دائمًا؟ أليس بينكما زمن لا لنا ولا علينا؟
- لقد تأخرت يا "عزيز"! لماذا لم تسمع كلامي؟
- لقد ناديتني باسمي الحقيقي أيتها الكاهنة!
وقالت أمّه وهي تضع الخرقة المبللة على جبينه:
- الكاهنة! الأميرة! الهيكل! ألم أحذّرك من الشمس؟
فتح عينيه وقال بوهن:
- متى العرس!
- العرس! لقد مضى عليه يوم وليلة.