صلاة لامرأة في الخمسين
هذا الَّذي ظَلَّ مِنّي!
خُذيهِ، إذا شِئْتِ،
أَوْ فَامْنَحيني الصُّدودَ قَليلاً لَعَلّي أُوَدِّعُ
آنِسَةً زَوَّجَتْ حُبَّها لانْتِظاري.
سَأبْكي عَلى شُرْفَةِ الشَّيْبِ حينًا مِنَ الدَّمْعِ،
إنَّ صَديقي البُكاءَ يُحَضِّرُ نِعْناعَهُ
في الفِناءِ الّذي خَلَّفَتْهُ الحُروبُ الأَخيرَةُ
حَوْلَ انْكِساري.
أَنا مَلِكُ الغَدْرِ،
هذي الفَلاةُ عَلى قَدَمَيْها مَواعيدُ أَخْلَفْتُها
وَالسَّرابُ الَّذي يَقْضِمُ العُشْبَ عَنْ نَظْرَتيْها فِراري.
مَهاةٌ عَلى صَيْدِها،
وَقَفَ النَّخْلُ فيها أَميرًا
وَأَلْقَتْ تَلَفُّتَها نَرْجِسًا في ظُنونِ البَراري.
وَكانَ لَها وَجْهُ أُغْنِيَةٍ لِلْفِراقِ:
حَبيبي!
أأنْتَ حَبيبيَ حَقّاً
وَيا دارُ
هَلْ أَنْتِ داري؟!
أَنا مَلِكُ الغَدْرِ إنْ كانَ يَكْفي احْتِضاري عَلى قَدَمَيْها،
سَأَغْسِلُ أَقْدامَها بِاحْتِضاري.
دَعيني أَموتُ عَلى حُزْنِها،
كَمْ دَعَتْني إلى فَرَحٍ قُرْبَ أَنْفاسِها
وَأَراحَتْ عَلى رُكْبَتَيْها نَهاري!
وَكمْ أَسْدَلَتْ شَعْرَها عِنْدَ أَقْصى العِناقِ عَلى خَوْفِنا،
وَمَضَتْ فِيَّ حَتّى انْدِثارِ الوِصالِ عَلى شَفَتَيْها،
وَقُرْبِ انْدِثاري.
خَبا لَوْنُ أَحْلى العُيونِ الَّتي شاهَدَتْني،
إذا كانَ يَبْكي مِنَ الحُبِّ ناسٌ فإنّي أَموتُ.
أَهذا الّذي ظَلَّ مِنْها!
سَأَنْعَبُ مِثْلَ الغُرابِ عَلى طَلَلِ النَّهْدِ:
يا قَصْرَ «شِيرينَ»،
أَيْنَ صُداحُ الرُّخامِ عَلى وَجْنَةِ الشَّمْسِ صُبْحًا،
وَيا مَوْتُ يكْفيكَ هذا الخُفوتُ.
أَلَمْ يَقْطُنِ القَمْحُ فيها كَما تَقْطُنُ الطَّيْرُ أَسْماءَها
وَالأَغاني صَداها،
فَمِنْ أَيْنَ جاءَ الرَّمادُ إلى وَجْنَتَيْها
وَحَلَّقَ كَالنَّعْيِ هذا السُّكوتُ؟!
وَهَلْ غَزَلَتْ شَعْرَها إبْرَةُ الشَّمْسِ،
أَيْنَ انْسِدالُ النَّبيذِ عَلى كَتِفَيْها إذَنْ،
وَانْسِداليَ في نَشْوَةٍ غادَرَتْها النُّعوتُ!
عَلى غُصْنِ أَيّامِها غَنَّتِ الطَّيْرُ لي كَالسَّواقي
فَلِمَنْ هذِهِ الطُّيورُ تَنوحُ
جَدَّدَتْ عُشْبَها السُّفوحُ لِتَبْقى
فَلِماذا نُلْقي أَسْماءَنا وَنَروحُ
لا أُريدُ الصِّبا أُريدُ عِناقًا
لِوَداعي، وَزَهْرَةً لا تَفوحُ
تَرْتَدي لَوْنَها فَراشَةُ روحي
لِهُجوعٍ في لَوْنِهِ تسْتَريحُ،
قَرِّبي هَمْسَكِ الحريرَ دِثارًا
لِجَريحٍ يَموتُ فيهِ الجَريحُ
وَانْصُبي خَيْمَةَ الهَديلِ لِخَوْفي
ما الخَوْفُ إلاّ حينَ تَشْفى الجُروحُ
مَوْسِمٌ بَيْني وَبَيْنَكِ أَحْلى
مِنْ مَوْسِمٍ تَرْتَديهِ السُّفوحُ
كُلُّ ما فاتَ لَمْ يَفُتْ، نَحْنُ فيهِ
جَدْوَلٌ في رَواحِهِ لا يَروحُ
ثُمَّ نَمْضي، فَلَوْ تَلاقَتْ يَدانا
مِنْ جَديدٍ فقَدْ يَهونُ النُّزوحُ.
وَغدًا يَنْبُتُ العُشْبُ بيْنَ أَسْمائِنا،
يلتَقي القُرْبُ وَالبُعْدُ في فِناءٍ نَظَلُّ فيهِ نُقيمُ.
تَهْجَعُ المَسافاتُ حَوْلَنا صَخْرةً فَوْقَ ظِلِّها،
وَالمَدى فَوْقَها الْتِفاتَةٌ لا تَريمُ.
آهٍ لِوَجْهِكِ الوَسيمِ، إذا أَطْبَقَ الرُّخامُ عَلَيْهِ،
فَهَلْ في القُبورِ قَبْرٌ وَسيمُ؟!
تَهْدِلُ الحَماماتُ فَوْقَ سَفْحِها المَيْتِ:
أَقْبِلوا أَقْبِلوا إنَّ هذا العُبورَ وَهْمٌ قَديمُ!
كُلُّ شَيْءٍ سِوى الصَّدى باطِلٌ،
فَاطلُبوا الصَّيْفَ في الشِّتاءِ الّذي مَرَّ
وَسيروا فيما مَضى وَأَقيموا.
حَدِّقوا في السَّرابِ، إنّا نَرى ما يَرى القَلْبُ،
وَالنِّساءُ لَوْلا سَرابُهُنَّ جَحيمُ.
آهٍ مِنَ الصَّدى!
هِيَ وَالمَوْتُ ساعَةُ الشِّعْرِ،
جَدْوَلٌ يَسيلُ فيهِ مِنْ مَأتَمي إلى بَحْرِها المَساءُ الحَزينُ.
أَنا سادِنُ الهُمومِ عَلى وَجْهِها،
تَوْبَتي عَتَباتٌ تَحْبو إلى قَدَمَيْها وَذُلّي جَبينُ.
هَجَرَتْني المَسافاتُ مِمّا ابْتعَدْتُ،
لا مَوْعِدٌ لِلمَواعيدِ عِنْدَها
وَلا شاطِئٌ يَنْتَهي إلَيْهِ الحَنينُ.
كَيْفَ أَغْفو بِدونِ راحَتَيْها عَلى وَجْنَةِ النَّوْمِ،
وَشَيْءٍ مِنْ قُرْبِها في سَريري..
إنَّ مَوْتي بِدونِها قُرْبَ مَوْتي جُنونُ!
أنْقُليني في نَظْرَتَيْكِ عَنْ حافَةِ السَّريرِ إلى
فَجْوَةٍ في الصَّدى،
لَعَلَّ في المَوْتِ شَيْءٌ تَجوزُ فيهِ الظُّنونُ!
لَعَلَّ خَلْفَ هذي الفَلاةِ وَهْمٌ آخَرٌ،
وَفيهِ كما يَزْعُمُ اليَأْسُ،
أَوْجُهٌ وَعُيونُ.
وَاغْفِري لي إنِ اسْتَطَعْتِ،
بي مِنَ الصَّلاةِ ما يُؤَلِّهُ نَهْدَيْنِ، وِمِنْ نَدَمِ الشِّعْرِ
ما يَوَدُّ الرُّخامُ...
لَوْ أَنَّني خُنْتُهُ لِيَلْثَغَ الماءُ فيهِ
وَيَهْدِلَ اللَّوْنُ في التِفاتِهِ وَالحَمامُ.
لَوْ تَلَمَّسْتِني لانحَدَرْتُ كَالدَّمْعِ على وَجْنَةِ اللَّمْسِ،
وَمَرَّ مِنْ بَيْنِ راحَتيْكِ الغَمامُ.
لَمْ يَبْقَ مِنّيَ حَتّى ما تُريدُ الخَمْرُ مِنْ كَأْسِها
وَلا الأَنينُ مِنَ النّايِِ
كُلُّ شَيْءٍ سِوى حَنيني إلَيْكِ كَلامُ.
خَلَعَتْ نَفْسَها الغُصونُ عَنْ صَفْحَةِ الماءِ،
وَارْتَداها اليَمامُ حُزْنًا
في رِحْلَةٍ لا يَعودُ مِنْها اليَمامُ.
آهٍ مِنَ الماءِ وَالغُصْنِ هذا راحِلٌ وَهذا،
عَلى الغُصْنِ وَالماءِ مِنْ راحِلَيْنِ السَّلامُ!
وَعَلى كُلِّ شَيْءٍ عَدا هذه البِلادِ السَّلامُ.
إنّي عَشِقْتُ شَيْئًا مِنَ العُشْبِ عَلى صَخْرَةٍ عِنْدَ شاطِئِ البَحْرِ تَنْسِجُ الفُصولَ مِنَ الأَمْسِ
فَالوَصْلُ فيها وَداعٌ والبَدْءُ فيها خِتامُ
وَالنّاسُ فيها فُصولُ.
وَطْءُ نَعْلَيْكِ أقْدَسُ مِنْها،
مَلْعونَةٌ بَرُّها وَبَحْرُها وَالجِبالُ وَما أَنْبَتَتْ وَالسُّهولُ.
وَالحَقْلُ والخِصْبُ والبِذارُ وَما أَوْدَعَ الصَّيْفُ في الشِّتاءِ مِنْ بَحْرِها،
وَالغَيْمُ وَالماءُ وَالهُطولُ.
بُرْعُمُ حُزْنٍ عَلى غُصْنِ نَظْرَتَيْكِ
أَجْمَلُ مِنْ لَوْزِها،
وَرَعْشَةُ ابْتِسامٍ عَلى بابِ وَجْهِكِ
أَحْلى مِنْ وَجْهِها إذا ارْتَداهُ الأَصيلُ.
أَنتِ لي ما تَزْعُمُ التِّلاواتُ لِلْبائِسينَ،
إذا سَقَطَ النَّخْلُ عَنْ ظِلِّهِ
وَلَمْلَمَتْ وَجْهَها الحُقولُ في اللَّيْلِ
أَتاني مِنْ حَدائِقِ اللّهِ فيكِ حُقولٌ مَنْشورَةٌ وَنَخيلُ.