مقدمة ديوان صعلوك
بقلم د. عادل سمارة
فوزي البكري، شاعر القدس القديمة أو ربما حزينها الوحيد ومهرها الحرون، هكذا يطيب لي أن أسميه. والحديث عن فوزي البكري، الجديد القديم كالقدس، والسكران المتألم كوجع الوطن المحتل، والنافر الطيِّع كالإنسان الفلسطيني، لذلك كله فإنك حين تكتب عنه، تجدك وقد أخذت تكتب من داخله، يأخذك وإياه توحد مؤلم ممتع، يمرُّ بكما عبر ضياع الوطن وتآمر الطبقات الحاكمة-المالكة، وحضور الاحتلال الثقيل، وجوع الفقراء، وسكر المسحوقين، وعيون أطفال الوطن الساهرة بعد اعتقال الأب أو الأخ الأكبر، ولذا أيضاً حين تكتب عن فوزي البكري، تتجاوز العقلنة والاثواب الرسمية، وتترك لذاتك العنان، تكتب عن إنسان مستلب على مختلف الأصعدة يكافح كي لا يغدو وقد استلبته نفسه أيضاً.
حين تكتب عنه تحس أنك تكتب عن كل فقراء الأرض، عن الإنسان المغرب في هذا العالم، ولذلك لا بد أن تكتب بوفاء. هذا الشاعر غير معروف للكثيرين في الوطن المحتل، مع أنه ليس بالشاعر المقل، فقير قبيل يوم ميلاده، لكنه لم يفكِّر بالارتحال إلى بلاد النفط بحثاً عن الثراء، رغم ان الارتحال - النفطي - في بلدنا كظاهرة هروبية (نبرِّرها أكثر مما نلعنها.)
غير معروف لأنه ليس من إطار سياسي يروج لشعره جاد أم قبح، وليس من أقلية طائفية ليستفيد من علاقاتها (التشاركية) على أرضية شعور الأقليات المقيت، وليس ثرياً ليرشو هنا وهناك فينال حظوة الإعلام عنه في الوريقات الصحفية، وليس أكاديمياً فيحترم إنتاجه حتى لو كان هذياناً، وليس محبوباً لدى ملاك المنابر لأنه يفتقر إلى التهذيب الرفيع، مما جعل قلمه طريد المنابر، وهو فوق كل هذا وذاك يعاني المعاناة الشاملة تحت الاحتلال ككل أهل الوطن المحتل، وهو لكل هذا وذاك حصان القدس القديمة الحرون الجامح الذي لا يراعي الآداب العامة التي يتستر وراءها أدب البرجوازية الصغيرة الناعمة.
قال لي:’’أكتب مقدمة الديوان، وأنصفني!‘‘ كان هذا القول يحمل بوضوح الشعور بعدم الإنصاف وبالحق المهضوم. وعلى كل حال فأنا لست بالناقد الأدبي وكلُّ ما أقدمه لـ ‘‘أبي إسلام’’ هو كما قال المتنبي:
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
ولكن ما يقدمه مواطن تحت الاحتلال لمواطن آخر هو بالتأكيد أكثر مما تقدمه جوقة الانظمة العربية (مجتمعة) للقدس العتيقة.
ولا يخفي أن فوزي البكري يدرك أنه مستلب مطارد حين يقول في قصيدته صعلوك من القدس القديمة:
في بعض الصالونات يُردَّد أني
ما عدتُ فلسطينياً
فلماذا.. يا عازف لحني
لأن جميع الجمعيات’’الوطنية‘‘ ترفضني
تزعم اني سكير عربيد
أسكر في رمضان
ولا أصحو في العيد
ملاحظات على الديوان
القدس: اهتمام الشاعر بالقدس، ليس لحاقاً بموجة الإعلام السياسي النظامي العربي بالمدينة، ولا بالموجة الطاغية على الشعر المحلي وإنما تلاحم مع مكانه الوحيد في هذا العالم، دفاعا عن الألفة التاريخية بين الإنسان الفقير، بين الشاعر المرهف ووطنه، بين هذا الإنسان والمكان الذي احتضن معاناته واستلابه واغترابه، الألفة بين الإنسان وتجاربه من جهة، وبين القدس، القدس القديمة مكان وأرضية هذه التجارب وتجارب أخرى أرَّخت لأقدم الحضارات.
فوزي البكري هو مصلوب القدس وصليبها، أبديُّ الارتباط بها والحنين إليها، وهو لا يزال في حضنها العتيق المجرب، لا يبرح أزقتها، معابدها، أماكنها العتيقة (وكلها مكان عتيق) ومع ذلك يتعايشان باحتضان عجيب، فوزي المنتشي بالخمر ومدينة المقدسات، هذه بالتحديد، مفارقات العشق بين الصعلوك والمدينة المقدسة.
لذلك كثيراً ما جرت القدس على لسانه، وخطها قلمه في متن القصائد أو عناوينها، فهي تدخل في عنوان الديوان نفسه، كما يقول فيها واصفاً حالها المتردي:
ماذا في بيت المقدس
غير الألم وغير الفقر وغير الجوع
وليس خافياً كذلك أن القدس عند فوزي البكري هي رمز للوطن ككل، ولعل ما يزيد قيمتها كرمز في نظر الشاعر هو تباكي الأنظمة العربية والإسلامية عليها رغم توزيع مهرها محاصصة بين هذه الأنظمة.
الموقف السياسي: يتضح في شعر فوزي البكري موقفه الناقد بلا حدود للأنظمة العربية من خلال دورها تجاه القضية الفلسطينية، الدور المتراوح بين التواطؤ-والقتل، وهو في هذا يعبر عن قناعات الشارع الفلسطيني بشكل بريء لا تمنعه قيود التحفظات السياسية، ولا ممالاة الحكام بغية التنفع من هذا النظام أو ذاك في حفنة أموال صمود أو غير ذلك. يقول في قصيدة’’هل يسقط بيت المقدس‘‘:
عاصمة العباسيين
على بعد
قبل قليل كان مفاعلها ينهار
عاصمة الأمويين
مدافعها تنسحب إلى الخلف
وأقطاب الحرب تولي الأدبار
إن فوزي يخشى بالفعل انهيار بيت المقدس طالما كانت الانظمة العربية على هذا الوضع؛ وفي قصيدة آهات لا تحمل معنى الحسرة يقول :
ونبي النفط الأعظم في مكة
يستورد من إيران الكافيار
وفي قصيدة’’بكائية بلا دموع‘‘ :
بين يديك الراعشتين حنيناً
تتعطَّل بوصلة الأنظمة العربية
في كل بحار الصمت
إلى أن يتناول بالنقد في قصيدة’’صعلوك من القدس القديمة‘‘ دور الأنظمة العربية في إرسال اموال الصمود إلى المناطق المحتلة، هذه الأموال التي تخدم في المحصلة النهائية التوجه البرجوازي العربي لبناء قاعدة برجوازية في المناطق المحتلة ولا تهدف كما يقال صمود الأهل، كل الأهل:
سبحان النكبة
سبحان النكبة
سبحان الدعم المبعوث صموداً
في جيب ’’المبعوص‘‘ نقوداً
الطبقية والرفض: وينتقل فوزي البكري من موقفه المضاد للأنظمة العربية إلى موقفين منفصلين متصلين في آن واحد: الموقف الوطني والموقف الطبقي، حيث يستقر وطنياً رافضاً للحلول التسووية رغم تزايد زبائن هذه الحلول، وطبقياً إلى جانب الفقراء؛ يقول في قصيدة آهات لا تحمل معنى الحسرة:
آهٍ .. حين تكون
قصور الأرض المحتلة ماخوراً
ورجال العرش على الجسرين
وريقات قمار
وعن الرفض في نفس القصيدة يقول:
ينسكب الغضب على الأعصاب
كما تنسكب على وجه الأطفال النار
وتحس بأن الرفض
يجف.. يجف.. يجف
ويهطل
أمطاراً.. أمطاراً.. أمطار!
نلاحظ هنا أن الرفض لا يجف بل يزهر رغم الجفاف ويعطي. ويقول أيضاً في قصيدة’’بكائية بلا دموع‘‘ :
يا طفلاً
لا والدة ترضعك العنف
ولا والد يرعى فيك الرفض
يتضح هنا أن رفض الشاعر تعبير عن القناعات الشعبية للرفض، لا عن قناعات الرموز السياسية وتابعيها في التسويات. ان رفض الشاعر على بساطته هو حقيقة ما تريده الجماهير الفلسطينية، وليس ما تم تشويه الجماهير به منذ عدة سنين؛ وفي قصيدة’’موال في عشية عرارية‘‘ يؤكد فوزي موقفه الطبقي:
إخوان سلمى وإن كانـوا على ضعة
فـإنهم وكـبـار القـوم سيَّـان
بيع العروض لهم في الناس منقصة
فكيف يا صاحبي مـن باع أوطاني
ويقول في قصيدة’’صعلوك من القدس القديمة‘‘ :
يا فقراء الأرض المحتلة’’شوفوا‘‘
خلف ستارات المخمل والخز
كيف تكون’’الهيصة‘‘ والهز
هذا الموقف الطبقي المفضوح يؤذي إسماع ملاك المخمل والخز فعلاً، ولكن عفواً ي هؤلاء، فأنتم هكذا رغم وجود الاحتلال، إنها الطبقات، وبالتالي الفوارق التي تترتب علبيها فوارق في الموقف الوطني؛ إلى أن يقول في قصيدة ’’في صحة الله‘‘:
يا قائم ليل
يبهره المحراب وأعجاز القرآن
ولا يبهرك الإعجاز الناخر
في عظم المسحوقين
على بعد رغيف
لا يعجنه المعراج
ولا يخبزه الإسراء
التأثر: فوزي البكري لا يأخذ على نفسه إعجابها بشاعر ولا ينكر ذلك عن الناس، فهو يرى في نفسه الامتداد الحديث لـ مصطفى وهبي التل -عرار- كموضوع، كتحد وليس كفن، ولا غضاضة في أن يكون فوزي في مثل هذا الامتداد.
في هذا المعرض يمكننا القول إن الشاعر فوزي البكري تأثر بعدة شعراء وعلى عدة مستويات:
تأثر بـ عرار في حدته الاجتماعية وخمرياته.
تأثَّر بـ النواب في مفردة الشتيمة السياسية والموقف الطامن ضد الأنظمة العربية، الشعر المسلح، والموقف الايدولوجي الشيوعي الثوري، أي تأثَّر بالنواب كموضوع.
تأثر بـ شوقي كفن وقاعدة لغوية.
تأثَّر بـ إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود في الشعر الوطني.
إن مختلف هذه التأثيرات لم تطمس شخصية وشاعرية فوزي المتميزة. فإذا كان فوزي -كما رأينا- قد نقد الأنظمة العربية وهاجمها فقد فعل ذلك عرار حين قال للملك عبد الله:
يا لاعب الشطرنج في رغدانــه
ومحكم الإفرنج في أوطانه
سموك صقر قريش لا لم ينصفوا
يا ليتهم سموك من غربانه ويقول منتصراً لـ عرار:
آه .. حين يكون المضطهد
على أرض الأردن
نديم و’’عرار‘‘
إلى أن يهدي عراراً قصيدة خاصة ‘‘موال في عشية عرارية’’ يقول فيها:
وقد تنبأتَ أن القدس لو ذهبت
فكم سيبقى بها سني ونصراني
أيه عرار القوافي لم يعد رمق
بي للقـوافي وإن كانت ترجاني
أما عن تأثُّره بـ النواب، والذي تأثر به الكثيرون كشاعر شيوعي ثوري في موقفه الايدولوجي والطبقي والفني واللغوي، فقد استعمل فوزي العديد من مفرداته ومن طرق تعامله وتشكيله للمفردة حيث يقول:
كونوا لهباً
يا أكباد الشعب المقروحة
كونوا ناراً
أما نحن
فلن نبكي
نخشى أن يغلبنا الدمع
فيطفئ فيكم هاتيك الجمرات
إن ما يؤخذ على النواب في صفع الأنطمة العربية بالأحذية، لا بُد أن يؤخذ على فوزي البكري أيضاً، ولكن على الذين يرفضون النواب ان يفتشوا في ملاحف أدمغتهم جيداً ليجدوا تلك الخلايا المحافظة التي رنخت بأيدولوجيا الأنظمة العربية التابعة، ولا بد للثوريين منهم أن يجتثوها إن كانوا حقاً كذلك.
وفيما يتعلق بالتأثر بـ أحمد شوقي، نجد ذلك في قصيدة ’’ملحمة قصيرة‘‘ التي يعارض فيها سينية شوقي والبحتري، نفس البحر ونفس القافية:
عادة الدهر أن يجيء بنحسي
أين مجدي وأين تالد أمسي
وعظ الشاعرين أيوان كسرى
وقصور على ثرى أندلسي
وهنا يذكرنا بقول شوقي:
وعظ البحتري أيـوان كسرى
وشفتني القصـور من عبد شمس
وكذلك قصيدة فوزي ’’إليها في حدادها على الحياة ‘‘ :
عاتبت عقلي واتهمتُ فؤادي
وجفوت حزمي واعتزلت عنادي
وهذا يذكرنا بقصيدة شوقي:
ودعت أحلامي بقلب باكي
وطويت من طرق الملاح شراكي
إن تأثره بـ شوقي لا يكمن في المعارضة وحسب وإنما في الشعر المنظوم من جهة، والتماسك والعمق اللغويين من جهة أخرى.
الشاعرية المستقلة: رغم تأثر فوزي بأكثر من شاعر عربي، إلا أن لشعره شخصيته المستقلة، التي تجمع في وحدة جدلية متميزة بين قدرته الفنية وقاعدته اللغوية وخلفيته الإسلامية وتحلله من الرسميات والمجاملة الأدبية وبين تأثُّره بـ النواب وشوقي وعرار.
الصورة: عند فوزي ممتدة من جهة ومتماسكة من جهة أخرى، علاوة على كونها صورة عميقة من حيث التشبيه، ومن حيث سيطرتها على المفردة وتطويعها لخيال الشاعر؛ وفي قصيدة آهات لا تحمل معنى الحسرة يقول :
آه .. من ليل يحبل بالليل
كما تحبل بالصمت الأسرار
آه من سهدك
والفجر حرون
والنجمة تلهو في أحضان مدار
نلاحظ هنا الجمع بين المتناقضات في صورة منسجمة: الصمت، الأسرار، السهر، الفجر الحرون من جهة ولهو النجمة من جهة ثانية؛ كما يقول في نفس القصيدة:
آه.. من ضربك في الآفاق
تريد رغيف الشمس
وقد طال السفر
وقام جدار حلف جدار.. خلف جدار
وفي قصيدة ’’بكائية بلا دموع ‘‘ :
يا طفلاً
ينمو في أحشاء الثورة
ما زلتَ جنيناً
تحتَ وفوق غشاء الدم
فيا هول مخاضك
زلزالاً
يبعث أرواح الشهداء
تزغرد .. رشاشات
وفي قصيدة ’’إلى إبراهيم طوقان ‘‘:
جرزيم في صدر أبي شامخ
عيـبال في عجز أشم أبلق
حيث يشبه الجبلين بصدر وعجز بيت الشعر من ناحي، يشبه الأول بالرجل القوي والآخر بالحصان، وفي هذا رؤية جمالية وقدرة على لجم الصورة وتطويعها، تقابله صورة أخرى في قصيدة’’في صحة الله‘‘ حيث تتجلَّى قوة الصورة في مضمونها الطبقي:
يا قائم ليل
يبهره المحراب وإعجاز القرآن
ولا يبهرك الإعجاز الناخر
في عظم المسحوقين
على بعد رغيف
لا يعجنه المعراج
ولا يخبزه الإسراء
أما عن خصوصية فوزي فيما يتعلق بالأدب المكشوف فقوله:
آه من عفن الفكرة
حين يكون الوطن
على باب المرحاض شعار
هذا إلى جانب تعبير هذه الصورة عن قمة الانفعال. أما عن استقامة الموسيقى ونعومتها، فيقول في قصيدة ’’عيناك ‘‘:
عيناك مثل بحيرتين
على بساط الثلج
والنظرات موجات البريق
قلبي على شطيهما يلهو
وقلبي في عبابهما غريق
عسلية العينين
عبر ضبابك الغجري
اكتشف الطريق
ويظل فوزي على ارتباط بقاعدته الدينية التي ورثها عن أبيه، يقول في قصيدة’’حين يرتفع صوت العهر‘‘:
ولا تثريب ان تصغي
لهاتف نفسك الجوفاء
وتصدع بالذي تؤمر
حيث أخذ الشطرة الأخيرة عن القرآن : ’’فأصدع بما تؤمر،‘‘ إلى أن يقترب من الصوفية في خمرياته حين يقول في قصيدة ’’إشرب ‘‘:
إشرب فإنَّكَ بالمدامة بالغ
ما قال روح الله في الإصحاح
كما يقول في قصيدة ’’آهات لا تحمل معنى الحسرة ‘‘ :
آهٍ .. حين يكون ’’مهاجرنا‘‘ طفلاً
وكتائب بيروت ’’الأنصار ‘‘
وهكذا، تتوحَّد لدى فوزي البكري اللغة العربية الجميلة والمتماسكة، والموقف الطبقي المنحاز لصالح الفقراء، والموقف السياسي المضاد للرجعيات العربية، والسكر في مدينة المقدسات، والخروج على المألوف الديني إلى جانب خلفية إسلامية. كل هذه لا تتأتى لشاعر تأثر بشاعر آخر ولا تشكِّل موضوعا وشخصية مستقلة واحدة إلا عند فوزي البكري.
د. عادل سمارة
فوزي البكري، شاعر القدس القديمة أو ربما حزينها الوحيد ومهرها الحرون، هكذا يطيب لي أن أسميه. والحديث عن فوزي البكري، الجديد القديم كالقدس، والسكران المتألم كوجع الوطن المحتل، والنافر الطيِّع كالإنسان الفلسطيني، لذلك كله فإنك حين تكتب عنه، تجدك وقد أخذت تكتب من داخله، يأخذك وإياه توحد مؤلم ممتع، يمرُّ بكما عبر ضياع الوطن وتآمر الطبقات الحاكمة-المالكة، وحضور الاحتلال الثقيل، وجوع الفقراء، وسكر المسحوقين، وعيون أطفال الوطن الساهرة بعد اعتقال الأب أو الأخ الأكبر، ولذا أيضاً حين تكتب عن فوزي البكري، تتجاوز العقلنة والاثواب الرسمية، وتترك لذاتك العنان، تكتب عن إنسان مستلب على مختلف الأصعدة يكافح كي لا يغدو وقد استلبته نفسه أيضاً.
حين تكتب عنه تحس أنك تكتب عن كل فقراء الأرض، عن الإنسان المغرب في هذا العالم، ولذلك لا بد أن تكتب بوفاء. هذا الشاعر غير معروف للكثيرين في الوطن المحتل، مع أنه ليس بالشاعر المقل، فقير قبيل يوم ميلاده، لكنه لم يفكِّر بالارتحال إلى بلاد النفط بحثاً عن الثراء، رغم ان الارتحال - النفطي - في بلدنا كظاهرة هروبية (نبرِّرها أكثر مما نلعنها.)
غير معروف لأنه ليس من إطار سياسي يروج لشعره جاد أم قبح، وليس من أقلية طائفية ليستفيد من علاقاتها (التشاركية) على أرضية شعور الأقليات المقيت، وليس ثرياً ليرشو هنا وهناك فينال حظوة الإعلام عنه في الوريقات الصحفية، وليس أكاديمياً فيحترم إنتاجه حتى لو كان هذياناً، وليس محبوباً لدى ملاك المنابر لأنه يفتقر إلى التهذيب الرفيع، مما جعل قلمه طريد المنابر، وهو فوق كل هذا وذاك يعاني المعاناة الشاملة تحت الاحتلال ككل أهل الوطن المحتل، وهو لكل هذا وذاك حصان القدس القديمة الحرون الجامح الذي لا يراعي الآداب العامة التي يتستر وراءها أدب البرجوازية الصغيرة الناعمة.
قال لي:’’أكتب مقدمة الديوان، وأنصفني!‘‘ كان هذا القول يحمل بوضوح الشعور بعدم الإنصاف وبالحق المهضوم. وعلى كل حال فأنا لست بالناقد الأدبي وكلُّ ما أقدمه لـ ‘‘أبي إسلام’’ هو كما قال المتنبي:
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
ولكن ما يقدمه مواطن تحت الاحتلال لمواطن آخر هو بالتأكيد أكثر مما تقدمه جوقة الانظمة العربية (مجتمعة) للقدس العتيقة.
ولا يخفي أن فوزي البكري يدرك أنه مستلب مطارد حين يقول في قصيدته صعلوك من القدس القديمة:
في بعض الصالونات يُردَّد أني
ما عدتُ فلسطينياً
فلماذا.. يا عازف لحني
لأن جميع الجمعيات’’الوطنية‘‘ ترفضني
تزعم اني سكير عربيد
أسكر في رمضان
ولا أصحو في العيد
ملاحظات على الديوان
القدس: اهتمام الشاعر بالقدس، ليس لحاقاً بموجة الإعلام السياسي النظامي العربي بالمدينة، ولا بالموجة الطاغية على الشعر المحلي وإنما تلاحم مع مكانه الوحيد في هذا العالم، دفاعا عن الألفة التاريخية بين الإنسان الفقير، بين الشاعر المرهف ووطنه، بين هذا الإنسان والمكان الذي احتضن معاناته واستلابه واغترابه، الألفة بين الإنسان وتجاربه من جهة، وبين القدس، القدس القديمة مكان وأرضية هذه التجارب وتجارب أخرى أرَّخت لأقدم الحضارات.
فوزي البكري هو مصلوب القدس وصليبها، أبديُّ الارتباط بها والحنين إليها، وهو لا يزال في حضنها العتيق المجرب، لا يبرح أزقتها، معابدها، أماكنها العتيقة (وكلها مكان عتيق) ومع ذلك يتعايشان باحتضان عجيب، فوزي المنتشي بالخمر ومدينة المقدسات، هذه بالتحديد، مفارقات العشق بين الصعلوك والمدينة المقدسة.
لذلك كثيراً ما جرت القدس على لسانه، وخطها قلمه في متن القصائد أو عناوينها، فهي تدخل في عنوان الديوان نفسه، كما يقول فيها واصفاً حالها المتردي:
ماذا في بيت المقدس
غير الألم وغير الفقر وغير الجوع
وليس خافياً كذلك أن القدس عند فوزي البكري هي رمز للوطن ككل، ولعل ما يزيد قيمتها كرمز في نظر الشاعر هو تباكي الأنظمة العربية والإسلامية عليها رغم توزيع مهرها محاصصة بين هذه الأنظمة.
الموقف السياسي: يتضح في شعر فوزي البكري موقفه الناقد بلا حدود للأنظمة العربية من خلال دورها تجاه القضية الفلسطينية، الدور المتراوح بين التواطؤ-والقتل، وهو في هذا يعبر عن قناعات الشارع الفلسطيني بشكل بريء لا تمنعه قيود التحفظات السياسية، ولا ممالاة الحكام بغية التنفع من هذا النظام أو ذاك في حفنة أموال صمود أو غير ذلك. يقول في قصيدة’’هل يسقط بيت المقدس‘‘:
عاصمة العباسيين
على بعد
قبل قليل كان مفاعلها ينهار
عاصمة الأمويين
مدافعها تنسحب إلى الخلف
وأقطاب الحرب تولي الأدبار
إن فوزي يخشى بالفعل انهيار بيت المقدس طالما كانت الانظمة العربية على هذا الوضع؛ وفي قصيدة آهات لا تحمل معنى الحسرة يقول :
ونبي النفط الأعظم في مكة
يستورد من إيران الكافيار
وفي قصيدة’’بكائية بلا دموع‘‘ :
بين يديك الراعشتين حنيناً
تتعطَّل بوصلة الأنظمة العربية
في كل بحار الصمت
إلى أن يتناول بالنقد في قصيدة’’صعلوك من القدس القديمة‘‘ دور الأنظمة العربية في إرسال اموال الصمود إلى المناطق المحتلة، هذه الأموال التي تخدم في المحصلة النهائية التوجه البرجوازي العربي لبناء قاعدة برجوازية في المناطق المحتلة ولا تهدف كما يقال صمود الأهل، كل الأهل:
سبحان النكبة
سبحان النكبة
سبحان الدعم المبعوث صموداً
في جيب ’’المبعوص‘‘ نقوداً
الطبقية والرفض: وينتقل فوزي البكري من موقفه المضاد للأنظمة العربية إلى موقفين منفصلين متصلين في آن واحد: الموقف الوطني والموقف الطبقي، حيث يستقر وطنياً رافضاً للحلول التسووية رغم تزايد زبائن هذه الحلول، وطبقياً إلى جانب الفقراء؛ يقول في قصيدة آهات لا تحمل معنى الحسرة:
آهٍ .. حين تكون
قصور الأرض المحتلة ماخوراً
ورجال العرش على الجسرين
وريقات قمار
وعن الرفض في نفس القصيدة يقول:
ينسكب الغضب على الأعصاب
كما تنسكب على وجه الأطفال النار
وتحس بأن الرفض
يجف.. يجف.. يجف
ويهطل
أمطاراً.. أمطاراً.. أمطار!
نلاحظ هنا أن الرفض لا يجف بل يزهر رغم الجفاف ويعطي. ويقول أيضاً في قصيدة’’بكائية بلا دموع‘‘ :
يا طفلاً
لا والدة ترضعك العنف
ولا والد يرعى فيك الرفض
يتضح هنا أن رفض الشاعر تعبير عن القناعات الشعبية للرفض، لا عن قناعات الرموز السياسية وتابعيها في التسويات. ان رفض الشاعر على بساطته هو حقيقة ما تريده الجماهير الفلسطينية، وليس ما تم تشويه الجماهير به منذ عدة سنين؛ وفي قصيدة’’موال في عشية عرارية‘‘ يؤكد فوزي موقفه الطبقي:
إخوان سلمى وإن كانـوا على ضعة
فـإنهم وكـبـار القـوم سيَّـان
بيع العروض لهم في الناس منقصة
فكيف يا صاحبي مـن باع أوطاني
ويقول في قصيدة’’صعلوك من القدس القديمة‘‘ :
يا فقراء الأرض المحتلة’’شوفوا‘‘
خلف ستارات المخمل والخز
كيف تكون’’الهيصة‘‘ والهز
هذا الموقف الطبقي المفضوح يؤذي إسماع ملاك المخمل والخز فعلاً، ولكن عفواً ي هؤلاء، فأنتم هكذا رغم وجود الاحتلال، إنها الطبقات، وبالتالي الفوارق التي تترتب علبيها فوارق في الموقف الوطني؛ إلى أن يقول في قصيدة ’’في صحة الله‘‘:
يا قائم ليل
يبهره المحراب وأعجاز القرآن
ولا يبهرك الإعجاز الناخر
في عظم المسحوقين
على بعد رغيف
لا يعجنه المعراج
ولا يخبزه الإسراء
التأثر: فوزي البكري لا يأخذ على نفسه إعجابها بشاعر ولا ينكر ذلك عن الناس، فهو يرى في نفسه الامتداد الحديث لـ مصطفى وهبي التل -عرار- كموضوع، كتحد وليس كفن، ولا غضاضة في أن يكون فوزي في مثل هذا الامتداد.
في هذا المعرض يمكننا القول إن الشاعر فوزي البكري تأثر بعدة شعراء وعلى عدة مستويات:
تأثر بـ عرار في حدته الاجتماعية وخمرياته.
تأثَّر بـ النواب في مفردة الشتيمة السياسية والموقف الطامن ضد الأنظمة العربية، الشعر المسلح، والموقف الايدولوجي الشيوعي الثوري، أي تأثَّر بالنواب كموضوع.
تأثر بـ شوقي كفن وقاعدة لغوية.
تأثَّر بـ إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود في الشعر الوطني.
إن مختلف هذه التأثيرات لم تطمس شخصية وشاعرية فوزي المتميزة. فإذا كان فوزي -كما رأينا- قد نقد الأنظمة العربية وهاجمها فقد فعل ذلك عرار حين قال للملك عبد الله:
يا لاعب الشطرنج في رغدانــه
ومحكم الإفرنج في أوطانه
سموك صقر قريش لا لم ينصفوا
يا ليتهم سموك من غربانه ويقول منتصراً لـ عرار:
آه .. حين يكون المضطهد
على أرض الأردن
نديم و’’عرار‘‘
إلى أن يهدي عراراً قصيدة خاصة ‘‘موال في عشية عرارية’’ يقول فيها:
وقد تنبأتَ أن القدس لو ذهبت
فكم سيبقى بها سني ونصراني
أيه عرار القوافي لم يعد رمق
بي للقـوافي وإن كانت ترجاني
أما عن تأثُّره بـ النواب، والذي تأثر به الكثيرون كشاعر شيوعي ثوري في موقفه الايدولوجي والطبقي والفني واللغوي، فقد استعمل فوزي العديد من مفرداته ومن طرق تعامله وتشكيله للمفردة حيث يقول:
كونوا لهباً
يا أكباد الشعب المقروحة
كونوا ناراً
أما نحن
فلن نبكي
نخشى أن يغلبنا الدمع
فيطفئ فيكم هاتيك الجمرات
إن ما يؤخذ على النواب في صفع الأنطمة العربية بالأحذية، لا بُد أن يؤخذ على فوزي البكري أيضاً، ولكن على الذين يرفضون النواب ان يفتشوا في ملاحف أدمغتهم جيداً ليجدوا تلك الخلايا المحافظة التي رنخت بأيدولوجيا الأنظمة العربية التابعة، ولا بد للثوريين منهم أن يجتثوها إن كانوا حقاً كذلك.
وفيما يتعلق بالتأثر بـ أحمد شوقي، نجد ذلك في قصيدة ’’ملحمة قصيرة‘‘ التي يعارض فيها سينية شوقي والبحتري، نفس البحر ونفس القافية:
عادة الدهر أن يجيء بنحسي
أين مجدي وأين تالد أمسي
وعظ الشاعرين أيوان كسرى
وقصور على ثرى أندلسي
وهنا يذكرنا بقول شوقي:
وعظ البحتري أيـوان كسرى
وشفتني القصـور من عبد شمس
وكذلك قصيدة فوزي ’’إليها في حدادها على الحياة ‘‘ :
عاتبت عقلي واتهمتُ فؤادي
وجفوت حزمي واعتزلت عنادي
وهذا يذكرنا بقصيدة شوقي:
ودعت أحلامي بقلب باكي
وطويت من طرق الملاح شراكي
إن تأثره بـ شوقي لا يكمن في المعارضة وحسب وإنما في الشعر المنظوم من جهة، والتماسك والعمق اللغويين من جهة أخرى.
الشاعرية المستقلة: رغم تأثر فوزي بأكثر من شاعر عربي، إلا أن لشعره شخصيته المستقلة، التي تجمع في وحدة جدلية متميزة بين قدرته الفنية وقاعدته اللغوية وخلفيته الإسلامية وتحلله من الرسميات والمجاملة الأدبية وبين تأثُّره بـ النواب وشوقي وعرار.
الصورة: عند فوزي ممتدة من جهة ومتماسكة من جهة أخرى، علاوة على كونها صورة عميقة من حيث التشبيه، ومن حيث سيطرتها على المفردة وتطويعها لخيال الشاعر؛ وفي قصيدة آهات لا تحمل معنى الحسرة يقول :
آه .. من ليل يحبل بالليل
كما تحبل بالصمت الأسرار
آه من سهدك
والفجر حرون
والنجمة تلهو في أحضان مدار
نلاحظ هنا الجمع بين المتناقضات في صورة منسجمة: الصمت، الأسرار، السهر، الفجر الحرون من جهة ولهو النجمة من جهة ثانية؛ كما يقول في نفس القصيدة:
آه.. من ضربك في الآفاق
تريد رغيف الشمس
وقد طال السفر
وقام جدار حلف جدار.. خلف جدار
وفي قصيدة ’’بكائية بلا دموع ‘‘ :
يا طفلاً
ينمو في أحشاء الثورة
ما زلتَ جنيناً
تحتَ وفوق غشاء الدم
فيا هول مخاضك
زلزالاً
يبعث أرواح الشهداء
تزغرد .. رشاشات
وفي قصيدة ’’إلى إبراهيم طوقان ‘‘:
جرزيم في صدر أبي شامخ
عيـبال في عجز أشم أبلق
حيث يشبه الجبلين بصدر وعجز بيت الشعر من ناحي، يشبه الأول بالرجل القوي والآخر بالحصان، وفي هذا رؤية جمالية وقدرة على لجم الصورة وتطويعها، تقابله صورة أخرى في قصيدة’’في صحة الله‘‘ حيث تتجلَّى قوة الصورة في مضمونها الطبقي:
يا قائم ليل
يبهره المحراب وإعجاز القرآن
ولا يبهرك الإعجاز الناخر
في عظم المسحوقين
على بعد رغيف
لا يعجنه المعراج
ولا يخبزه الإسراء
أما عن خصوصية فوزي فيما يتعلق بالأدب المكشوف فقوله:
آه من عفن الفكرة
حين يكون الوطن
على باب المرحاض شعار
هذا إلى جانب تعبير هذه الصورة عن قمة الانفعال. أما عن استقامة الموسيقى ونعومتها، فيقول في قصيدة ’’عيناك ‘‘:
عيناك مثل بحيرتين
على بساط الثلج
والنظرات موجات البريق
قلبي على شطيهما يلهو
وقلبي في عبابهما غريق
عسلية العينين
عبر ضبابك الغجري
اكتشف الطريق
ويظل فوزي على ارتباط بقاعدته الدينية التي ورثها عن أبيه، يقول في قصيدة’’حين يرتفع صوت العهر‘‘:
ولا تثريب ان تصغي
لهاتف نفسك الجوفاء
وتصدع بالذي تؤمر
حيث أخذ الشطرة الأخيرة عن القرآن : ’’فأصدع بما تؤمر،‘‘ إلى أن يقترب من الصوفية في خمرياته حين يقول في قصيدة ’’إشرب ‘‘:
إشرب فإنَّكَ بالمدامة بالغ
ما قال روح الله في الإصحاح
كما يقول في قصيدة ’’آهات لا تحمل معنى الحسرة ‘‘ :
آهٍ .. حين يكون ’’مهاجرنا‘‘ طفلاً
وكتائب بيروت ’’الأنصار ‘‘
وهكذا، تتوحَّد لدى فوزي البكري اللغة العربية الجميلة والمتماسكة، والموقف الطبقي المنحاز لصالح الفقراء، والموقف السياسي المضاد للرجعيات العربية، والسكر في مدينة المقدسات، والخروج على المألوف الديني إلى جانب خلفية إسلامية. كل هذه لا تتأتى لشاعر تأثر بشاعر آخر ولا تشكِّل موضوعا وشخصية مستقلة واحدة إلا عند فوزي البكري.
د. عادل سمارة