لا صعاليك في فلسطين
بقلم زياد خدَّاش
تحتاج الثقافة الفلسطينية إلى صعلوك حقيقي واحد فقط، صعلوك قادم من لا وعينا، مصنوع من أحلامنا التي لا نستطيع الإفصاح عنها، مخيف وهادئ، لا ينتمي إلى أيّة مؤسسة، لا يرتبط بأية صداقة مع أحد؛ لأنه يؤمن بأن الصداقة حجابٌ أمام نور الـموقف، وإن فعل ذلك فهو لا يجعل الصداقة عائقاً أمام حريّة أحاسيسه، لا مصلحة له عند أحد، لا يحتاج أحداً، لا يشتاق إلى أحد، لكنه محب وإنساني وغير عدمي، يتحمّس للصادق والحقيقي من النصوص والـمواقف، وينفر من ضجيج الـمثقفين وصراخهم الذي يخفي تحته فراغاً كبيراً، هو مبرمج جينياً على رفض الخطأ وعدم القدرة على العيش والتكيّف مع الزيف والادعاء، صادق في لباسه وصوته وطريقة مشيه وحديثه، إن حمل كتاباً في مقهى فهو يحمله لأنه يحسّ برغبة حقيقية في القراءة هناك، وليس للفت انتباه الـمارة، أو لانتزاع صفة الـمختلف، إن أطال شعره وأطلق له العنان أو ارتدى قميصاً غير مكوي أو مهلهل، فهو يفعل ذلك نسياناً طبيعياً؛ لانشغاله في التفكير والقلق الإبداعيين، أو اتساقاً مع روحه الحرة، لا يساوم على مواقفه ولا يغيرها وفقاً للـمصالح، ولا يمارس الابتزاز ولا يستخدم جرأته في مصالح شخصية أو آنيّة ضيّقة، لا تكسر حياته علاقة عاطفية، ولا تجمد مشروعه معارك صغيرة مع فئران الثقافة، أصحاب الجمل الضخمة الرنانة والعبارات الـمسروقة.
لنتعرف إلى أصل كلـمة الصعلكة والتي تعني الفقر، واعتماداً على (لسان العرب): فالصعلوك هو الفقير الذي لا مال له، تصعلك الرجل أي افتقر، أما اصطلاحاً فهم جماعة من الـمخالفين العرب الذين خرجوا عن طاقة زعماء قبائلهم.
الخروج هو ثيمة الصعلكة إذاً ومفتاحها، وهذا الخروج لـم يكن للتباهي أو التظاهر بالتميّز أو ركضاً خلف شهرة أو اصطياداً لإعجاب النساء وذهولهن الأرعن، بل كان ضرورة نفسية أخلاقية وروحية ووجودية واقتصادية فرضتها طبيعة الحياة القبلية العربية آنذاك.
بعد تجرية الشاعر الـمقدسي فوزي البكري في الصعلكة، لـم تتوفر لنا تجربة أخرى، نفخر بها، ننحني لها، نحتمي بها من خجلنا وخوفنا وعاديتنا الـمفرطة في قبحها وجبنها، كان البكري وما زال رجلاً غريباً عن محيطه وأمكنته وأصدقائه، غريباً بالـمعنى الجمالي والإبداعي، لـم يتورط يوماً بمدح مسؤول أو بتسلّق كتف أو السكوت أمام خطأ، أو الـمساومة على مواقفه من الحياة والوطن والـمؤسسة، التي ما زال يحافظ على صلابتها وطزاجتها؛ لذلك لـم يستوعبه تاريخ الثقافة الفلسطينية ولـم يعطه حقه من الفهم والحب، وهذا طبيعي جداً وغير مفاجئ؛ فالثقافة الفلسطينية مؤسسية في أغلبها، وتعتمد ــ إلى حد كبير ــ على العلاقات والفئوية والعائلية والـمجاملات وذهنية الصفقات.
تاريخ الصعلكة الثقافية الحقيقية في فلسطين شاحب وخفيف وغير مشرّف، ولا تاريخ له أصلاً، كم تحتاج بلادنا هذه الأيام إلى صعلوك حقيقي، رجل لا ينتمي إلينا، لا يحتاجنا، لا ينتظرنا، يهز جدار صمتنا نحن الـمثقفين عمّا يجري من تحطم وشلل وعجز في ثقافتنا: "لا اتحاد كتاب، لا مجلة أدبية، لا تواصل مع العالـم، لا جوائز تقديرية وتشجيعية، لا منح تفرّغ للأدباء، لا مؤتمرات ثقافية تؤسس لـمشروع ثقافي، لا ظاهرة أدباء وأديبات شبان وشابات، لا أمسيات شعرية، لا مكتبة وطنية، لا تمييز بين الأديب والصحافي والسياسي، لا احترام للكتّاب، لا فصل بين الأدب والانتماء الحزبي أو العائلي، لا حقوق للـمؤلف ...".
قرصنة الكتب أصبحت مهنة مربحة وشائعة وطبيعية جداً، لا أحد خارج نظامنا الثقافي الآن، لا أحد خارج رؤية الـمؤسسة، الكل متورط في صناعة الشلل، الكل يمارس الخراب، الصعلوك الـمفترض الغائب وحده من يستطيع مواجهتنا، فضحنا، تعرية صمتنا، إماطة اللثام عن أقنعتنا وأكاذيب نصوصنا واستغاثاتنا الجبانة والعبثية؛ ليأت إذاً ذلك الـمجنون الرائع. ليأت سريعاً جميلاً وصادقاً وحقيقياً داكّاً ثكنات كسلنا وصفقاتنا وخوفنا وغبائنا بصهيل حصانه الـمرتفع.
ZKHADASH1@GMAIL.COM
تحتاج الثقافة الفلسطينية إلى صعلوك حقيقي واحد فقط، صعلوك قادم من لا وعينا، مصنوع من أحلامنا التي لا نستطيع الإفصاح عنها، مخيف وهادئ، لا ينتمي إلى أيّة مؤسسة، لا يرتبط بأية صداقة مع أحد؛ لأنه يؤمن بأن الصداقة حجابٌ أمام نور الـموقف، وإن فعل ذلك فهو لا يجعل الصداقة عائقاً أمام حريّة أحاسيسه، لا مصلحة له عند أحد، لا يحتاج أحداً، لا يشتاق إلى أحد، لكنه محب وإنساني وغير عدمي، يتحمّس للصادق والحقيقي من النصوص والـمواقف، وينفر من ضجيج الـمثقفين وصراخهم الذي يخفي تحته فراغاً كبيراً، هو مبرمج جينياً على رفض الخطأ وعدم القدرة على العيش والتكيّف مع الزيف والادعاء، صادق في لباسه وصوته وطريقة مشيه وحديثه، إن حمل كتاباً في مقهى فهو يحمله لأنه يحسّ برغبة حقيقية في القراءة هناك، وليس للفت انتباه الـمارة، أو لانتزاع صفة الـمختلف، إن أطال شعره وأطلق له العنان أو ارتدى قميصاً غير مكوي أو مهلهل، فهو يفعل ذلك نسياناً طبيعياً؛ لانشغاله في التفكير والقلق الإبداعيين، أو اتساقاً مع روحه الحرة، لا يساوم على مواقفه ولا يغيرها وفقاً للـمصالح، ولا يمارس الابتزاز ولا يستخدم جرأته في مصالح شخصية أو آنيّة ضيّقة، لا تكسر حياته علاقة عاطفية، ولا تجمد مشروعه معارك صغيرة مع فئران الثقافة، أصحاب الجمل الضخمة الرنانة والعبارات الـمسروقة.
لنتعرف إلى أصل كلـمة الصعلكة والتي تعني الفقر، واعتماداً على (لسان العرب): فالصعلوك هو الفقير الذي لا مال له، تصعلك الرجل أي افتقر، أما اصطلاحاً فهم جماعة من الـمخالفين العرب الذين خرجوا عن طاقة زعماء قبائلهم.
الخروج هو ثيمة الصعلكة إذاً ومفتاحها، وهذا الخروج لـم يكن للتباهي أو التظاهر بالتميّز أو ركضاً خلف شهرة أو اصطياداً لإعجاب النساء وذهولهن الأرعن، بل كان ضرورة نفسية أخلاقية وروحية ووجودية واقتصادية فرضتها طبيعة الحياة القبلية العربية آنذاك.
بعد تجرية الشاعر الـمقدسي فوزي البكري في الصعلكة، لـم تتوفر لنا تجربة أخرى، نفخر بها، ننحني لها، نحتمي بها من خجلنا وخوفنا وعاديتنا الـمفرطة في قبحها وجبنها، كان البكري وما زال رجلاً غريباً عن محيطه وأمكنته وأصدقائه، غريباً بالـمعنى الجمالي والإبداعي، لـم يتورط يوماً بمدح مسؤول أو بتسلّق كتف أو السكوت أمام خطأ، أو الـمساومة على مواقفه من الحياة والوطن والـمؤسسة، التي ما زال يحافظ على صلابتها وطزاجتها؛ لذلك لـم يستوعبه تاريخ الثقافة الفلسطينية ولـم يعطه حقه من الفهم والحب، وهذا طبيعي جداً وغير مفاجئ؛ فالثقافة الفلسطينية مؤسسية في أغلبها، وتعتمد ــ إلى حد كبير ــ على العلاقات والفئوية والعائلية والـمجاملات وذهنية الصفقات.
تاريخ الصعلكة الثقافية الحقيقية في فلسطين شاحب وخفيف وغير مشرّف، ولا تاريخ له أصلاً، كم تحتاج بلادنا هذه الأيام إلى صعلوك حقيقي، رجل لا ينتمي إلينا، لا يحتاجنا، لا ينتظرنا، يهز جدار صمتنا نحن الـمثقفين عمّا يجري من تحطم وشلل وعجز في ثقافتنا: "لا اتحاد كتاب، لا مجلة أدبية، لا تواصل مع العالـم، لا جوائز تقديرية وتشجيعية، لا منح تفرّغ للأدباء، لا مؤتمرات ثقافية تؤسس لـمشروع ثقافي، لا ظاهرة أدباء وأديبات شبان وشابات، لا أمسيات شعرية، لا مكتبة وطنية، لا تمييز بين الأديب والصحافي والسياسي، لا احترام للكتّاب، لا فصل بين الأدب والانتماء الحزبي أو العائلي، لا حقوق للـمؤلف ...".
قرصنة الكتب أصبحت مهنة مربحة وشائعة وطبيعية جداً، لا أحد خارج نظامنا الثقافي الآن، لا أحد خارج رؤية الـمؤسسة، الكل متورط في صناعة الشلل، الكل يمارس الخراب، الصعلوك الـمفترض الغائب وحده من يستطيع مواجهتنا، فضحنا، تعرية صمتنا، إماطة اللثام عن أقنعتنا وأكاذيب نصوصنا واستغاثاتنا الجبانة والعبثية؛ ليأت إذاً ذلك الـمجنون الرائع. ليأت سريعاً جميلاً وصادقاً وحقيقياً داكّاً ثكنات كسلنا وصفقاتنا وخوفنا وغبائنا بصهيل حصانه الـمرتفع.
ZKHADASH1@GMAIL.COM