وفاة شموئيل ملينكي
فُتح باب الغرفة فوقف الجميع، حتى الأطفال. لم يكن بالإمكان عدّهم، ليس لأنهم كثيرون بل ربما لأنهم كانوا متمايزين إلى درجة الاختلاف بحيث أن التركيز على العدد بالنسبة للعين كان غير ممكن. أضف إلى هذا أنه في القاعات الواسعة الخالية من الأثاث والألوان تكون النصاعة غالبة على الأشياء حتى الطارئة بحيث يلتهم الإطار كل الرؤى الحادّة ويضفي طابع الكليّة عليها. ثم من هو الذي يستطيع الالتفات إلى أمر بالغ التحديد والآلية كالعد في قاعة مستشفى!
أغلق الطبيب باب الغرفة دون أن يستدير، وظل ممسكًا بالمقبض خلف ظهره. كان أبيض كالباب وكالجدار بحيث بدا رأسه معلقًا في الهواء وهو يتكلم:
- يمكنكم الدخول والبقاء معه. لقد أعطيته حقنة مقوية.
ومضى بنفس التلقائية التي ألقى بها كلماته.
كان المريض هو الآخر ممتزجًا مع سريره الأبيض الناصع كالثلج، ولم يبد على وجهه ما يشير إلى أنه يحتضر، ولكنه أيضًا لم يبد عليه أنه أحسّ بدخول أحد الغرفة. ظلت العينان مسبلتين والوجه مسترخيًا ناعمًا كملاءة السرير.
تقدمت امرأة متوسطة الحجم من المجموعة تجاوزت سن الشباب الأخير، وأمسكت بيد المريض المطوية بعناية على صدره، وكأنها تلمس شيئًا مقدسًا وهمست بصوت يمتزج فيه الحزن بالتجلد:
- موليك!
دبّت حيوية متردّدة في ملامح الوجه المسترخية، وتململ الجفنان قبل أن ينفتحا عن نظرة باهتة، لم تُضِفِ الكثير إلى تعابير الوجه المنسابة في الذهول.
- موليك! هل تسمعني؟
لم يجب المريض بشيء، ولكن كفه انسحبت ببطء من تحت كفها الملقاة هناك، ثم بدأت تربّت عليها بحركات ضعيفة.
وقرّبت المرأة وجهها من الوجه المريض وقالت بحنان خافت:
- الجميع هنا يريدون أن تتحدث إليهم. "نانا" تريد أن تقبّلك..
وتقدّم شاب يرتدي البزّة العسكرية من المرأة ووضع يده على كتفها بحنان.
- أتركيه قليلاً الآن، سوف تأخذ الحقنة مفعولها.
ابتعدت المرأة بجسمها عن السرير وبدا الانهيار على ملامح وجهها، ولاحظ الشابّ ذلك فاقترب منها أكثر واحتوى رأسها بذراعه وقال بحبّ:
- يمكنك البكاء قليلاً، إنّ ذلك لن يضرّ.
وتشبّثت المرأة بذراعه بكلتا يديها وقالت بصوت متألّم:
- لقد كان زوجًا طيّبًا.
وقال الشابّ بعفوية:
- نعم، أبًا طيّبًا أيضًا.
وقالت شابّة ممتلئة عند الطرف البعيدمن السرير، كانت تضع يدها على رقبة طفلة في حوالي العاشرة:
- لا أدري ماذا سبفعل الأطفال، لقد كان جزءًا من حياتهم.
وقال الشاب:
- وكانوا كلّ حياته. كان يبدو وكأنه يعيش من أجلهم فقط.
- لـ...ـيَه !
كان المريض هو الذي همس هذه المرّة. وأفلتت المرأة ذراع الشاب وانحنت على المريض وهي تمسك بيده ثانية وتقرّبها إلى وجهها:
- إنني هنا إلى جانبك يا "موليك"!
- هل الجميع هنا؟
كان الصوت خافتًا متردّدًا، ولكنه كان واضحًا.
- نعم، عدا "أمنون". إنه لم يستطع الحضوركما تعرف.
- مهمّة!
كان في الكلمة شيء ما، أو لعلّ ذلك كان في لهجة المريض.
ولم يتكلم أحد.
- مهمّة! ... مهمّة.
وقال الشاب:
- لا تتعب نفسك. إنه سيعود، وسوف تراه!
وكانت السخرية واضحة في لهجة المريض:
- أحقًا! هل أنتظره!
- قد يحضر في أية لحظة. لقد اتصلنا.. اتصل بنا وقال إن السفينة ستصل اليوم إلى حيفا.
وبدا تغيّر متطرّف على وجه المريض، وأصبح لونه بنفسجيًا وأخذ يسعل. وضعت المرأة يدها الأخرى على جبينه وقالت:
- هل تريد أن تستند.
- أين القائد! أين القا.....
وخفت صوته، ثم توقف السعال وارتخت كفّه في كفّ المرأة، ثم عاد إلى الوجه هدوءه ولونه السابقان.
وقالت الشابة الممتلئة:
- قف هنا يا "روبي"، لا تتحرّك!
- لقد عاد إلى الغيبوبة.
- إن جدّك مريض!
اختلج السرير اختلاجة خفيفة، وأوغلت ملامح المحتضر في الابتعاد حتى كادت تتلاشى.
وقال الرجل الأبيض الشفاف الواقف قرب الشجرة العتيقة:
- أنت 49؟
- ... ...
- من أين أتيت؟
- من النوم.
- إلى أين؟
- إلى البحر.
- ماذا تفعل هناك؟
- أحسب العالم...
- احسبه من هنا.
- لا يمكن.كيف أحسبه من الوسط؟
- هناك أشياء تُحسب من الوسط.
- ماذا؟
- الخوف.
- أنا لست خائفًا.
- بلى.
- لا.
- خائف.
- لا. لا. لا. إذهب!
اختلج السرير هذه المرّة بشيء من العنف، وتسارعت أنفاس المريض وظهرت حبّات من العرق على جبينه.
قالت المرأة:
- هذا فظيع! إنه يتألم. يجب أن يساعدوه.
وقال الشاب بهدوء وهو يربّت على كتفها:
- هكذا الأمر دائمًا. لا أعتقد أنه يحسّ بشيء.
- لماذا أعطوه تلك الحقنة! ما الفائدة! إنه يهذي فقط!
- هكذا دائمًا.
- إن جبينه يلتهب. سأضع شيئًا مبللاً عليه فلعلّ ذلك يريحه.
وقال الشاب بعد تردّد:
- لا بأس. سأبلل منديلي!
ومضى باتجاه حنفية الماء في أقصى الغرفة.
- هل حضر!
قال المحتضر بصوت لا يكاد يُسمع.
- من!
وقرّبت أذنها من فمه.
- القائد ...
- سيحضر.
وناولها الشاب المنديل المبلل فطوته بشكل مستطيل ثم وضعته على الجبين الملتهب بلطف وعناية، ولم يبد على الرجل أنه قد أحسّ بذلك، ولكنه قال بعد قليل بصوت أكثروضوحًا من ذي قبل:
- أين "روبي"؟
وأسرعت الشابّة الممتلئة تقول:
- ها هو "روبي". إذهب إلى جدّك.
قال الطفل بهدوء:
- لا أريد.
- "روبي"!
وحمله الشاب بين دراعيه وقال له بصوت مقنع:
- أنت تريد أن تقبّل جدّك، أليس كذلك!
وهزّ الطفل رأسه هزّات متتالية باتجاه صدره.
- أنت ولد طيّب. هيّا.
وتدلّى الطفل من بين ذراعي الشاب وقبّل وجه المريض. وحاول المريض أن يرفع يده ليضعها على الطفل، ولكنه لم يجد الوقت لذلك، فقد عاد الطفل إلى صدر الشاب. وسقطت اليد المرتعشة على صدر المحتضر. وكأنّما أتعبه ذلك فعاد اللون البنفسجي إلى وجهه وداهمه السعال من جديد، ولكنه لم يلبث أن هدأ كما في المرّة الأولى.
صحّحت المرأة وضع اليد على الصدر بالشكل الذي رأته مناسبًا أكثر، ثم أخذت ترتّب غطاء السرير فوق الجسد المحتضر بدقّة متشدّدة. وكان الوجه هو الشيء الوحيد الذييدلّ على وجود جسد في السرير، ولكنه هو الآخر بدا عليه التضاؤل الآن وكأنه بقعة من اللون أخذت تجفّ وتتلاشى رويدًا رويدًا من أطرافها؛ الخطوط أقل عمقًا، والتعبير يوشك أن ينسحب نهائيًا. ومع ذلك فهناك شيء يوحي ببقية من الحياة.
وظهر الرجل الأبيض الشفّاف أمامه بالضبط، ولكنه لم يحجب عنه أيّ جزء من البحر. ظلّ يرى حركة الموج، ولكن اللون تغيّر، فقد صار لون البحر أخضر زيتونيًا.
- هل انتهيت؟
وأشار إلى كومة الحصى عن يمينه وقال:
- هؤلاء هم الرجال.
ثم عن يساره:
- هؤلاء هنّ النساء.
ثم أمامه:
- وهؤلاء هم الأطفال.
- وما هذا الذي في يدك؟
- لا شيء.
- بلى. دعني أرى.
- إنها حصى.
- كم؟
- لا أدري.
- كم؟
- 49.
- آه. إنهم هم.
- من!
- الذين ولدوا ولم يموتوا، والذين ماتوا قبل أن يولدوا.
- ماذا أفعل بها. لن يتركوني أركب السفينة.
- ها.. ها.. ها.. ضعها على الكومة.
- دائمًا تعود إلى يدي.
- لأنها ليست حصى!
- بلى.
- إفتح يدك. إنّهم هم.
- إنهم....
- حبّ زيتون.
- ماذا أفعل! ماذا أفعل!
- إرمها في البحر.. هيا! لقد أتت السفينة.
ودخل الغرفة شابّ في بزّة البحرية. قطع الغرفة بخطوات واسعة وانحنى على المحتضر وقال:
- هل وصلت متأخرًا؟
وقال الشاب ذو البزّة العسكرية:
- لم يتغير شيء منذ دخلنا.
- هل قال شيئًا؟
- القليل جدًا. إن الغيبوبة تلاحقه، وأحيانًا يستولي عليه الهذيان.
وقالت الشابة الممتلئة:
- لقد سأل عنك.
وقلبت المرأة المنديل على وجه المحتضر، ثم انحنت حتى كادت شفتاها تلامسان أذنه:
- لقد حضر "أمنون"..
وتمتمت شفتاه الاسم دون أن يفتح عينيه. وانحنى "أمنون" فأمسك بيده ووضعها على شفتيه، وفجأة فتح المحتضر عينيه وقال:
- أمنون!
- ها أنذا! إنني أمسك بيدك.
- لقد رميتهم في البحر. هل شاهدتهم؟
- من؟
- الـ 49.
- نـ..ـنعـم.
- حسنًا. سأنتظر السفينة.
وأغمض عينيه مرّة أخرى. وقالت المرأة باستسلام:
- إنهم يلاحقونه حتى هنا.
وقال الشاب ذو البزّة العسكرية:
- لقد لاحقوه دائمًا.
وقال "أمنون" بغضب:
- ليس هو الذي يستحق ذلك. إن الطيبين يخطئون مرّتين، حينما ينفّذون الأمر وحينما يتعذّبون بسببه.
وقال الشاب العسكري:
- البحّارة هم الذين ينقذون السفينة وليس القائد.
- ولكن القائد يغرقها أحيانًا.
- إياك! إن هذا الكلام أشدّ إدانة، ولا تسألني ماذا أعني.
هذه المرّة كانت اختلاجات السرير أكثر قوّة وتتابعًا، فقد كان شموئيل ملينكي يركض في البحر باتجاه السفينة. وكان يقترب أكثر أكثر، ووجه الرجل الممسك بالدفّة يبدو أكثر وضوحًا.. لقد كان هو القائد.
- أيها القائد!
لم يلتفت الرجل إليه.
- أيها القائد! إنه أنا.
- من أنت؟
- أنا رقم 50!
نظر إليه القائد. كان وجهه من الرخام المعرّق. أصفر لامع مع خطوط متعرّجة خضراء كفروع شجرة.
- كلا. أنت رقم 51.
- بل 50.
لكن القائد لم يلتفت إليه.
- إنني أغرق.. أيها القائد.. أغرق.. إنني أغرق.. أغرق.
واختلج السرير اختلاجة عنيفة، وتشنج الوجه ثم سال على الغطاء الأبيض.
لقد غرق.