الوجه والعجيزة
خرجت إلى الشارع بنصف وجه وبيد واحدة، ولم أكن أشعر بألم، وكانت الضمادات تضغط وجهي ويدي بنعومة تشبه الخدر. وفي الحقيقة، إنني لم أكن أشعر شعورًا واضحًا بأي شيء. وقد بدا الشارع لي أشبه بلوحة مسطحة أو بمشهد تحت الماء.. كل شيء يحاول أن يتملص من حواسي فيغرق ثم يطفو ثم يعود ليغرق من جديد. وحاولت أن أنتشل نفسي بقراءة اللافتات أو التمعن في وجوه المارّة وملاحظة الملامح البارزة في كل وجه.
هذا أنف يشبه الأزمة..
دخّنوا "إسكوت"...
ذقن هذا بحاجة إلى تنورة...
معريب...
ولكن عبثًا، كنت كمن يحاول أن يسترجع حلمًا أو كالغريق الذي يتشبث بالموجة فيغوص إلى الأعماق، ومع هذا فقد بدأت أفكر..
... وصلنا إلى زاوية سينما "أور" حيث يتفرع بنا الدرب وحيث ظللنا على مدى أربع سنوات تقريبًا نفترق يوميًا عند تلك النقطة، ليأخذ كل منا سبيله إلى مكان عمله. وشعرت بالنشاز المستجد في جو هذا المشهد اليومي حينما نزعت يدها من يدي بلطف متكلف قبل أن تفترق الدرب بمسافة واضحة. وتذكرت جيدًا أن يدينا كانتا تظلان متصلبتين حتى لا يعود بالإمكان تجاهل لأننا نسير في اتجاهين متضادين. وشعرت بشيء من الشجاعة لذكرى الودّ القديم:
- "ليزا"، أمامك نهار كامل لإعادة التفكير.
فقالت بعد تردد، ودون أن تنظر إليّ:
- حسبتك فهمتني. ثم ما الفائدة الآن؟ لقد اتفقنا، وأتمنى لو كنت أستطيع التراجع.
وصمتت، ثم أضافت:
- وستفهمني، وبالأحرى ستصدقني وتغفر لي، أليس كذلك؟
فقلت بكثير من اليأس والحنق:
- إنك عاطفية جدًا حين تريدين.
وردّت مبتسمة:
- وأنت عاطفيّ جدًا حينما لا تريد. فلست أظن أنك تقصد حقًا أن نتشاجر هنا..
وغمزت بعينها قبل أن تقول:
- ثم إنك لم تنس بالطبع أننا كنا على وفاق تام هذه الليلة. إن أضلاعي لم تزل تؤلمني.
ولم تنظر لتسمعني أقول من بين أسناني:
- كنت تحاولين تسديد ثمن حصتي في "البراكة" أيتها العاهرة... ولكن.. سنرى..
فقد انطلقت تركض وهي ترسل لي قبلة على رؤوس أصابعها.
ووقفت أتابعها.
كانت عجيزتها الرائعة تنفقلت بيأس تحت أعلى التنورة الضيق، بينما كانت ساقاها الممتلئتان تتلصصان برتابة مغرية عند أسفلها المتسع. وأحسست بشيء من عدم التصديق عندما فكرت أن هذا لم يعد ملكًا لي، وأنني أفقدها بكثير من السهولة. وأحسست مرة أخرى بالغضب واليأس.. كأن العاهرة تظن بأنني أصدقها.. كأنها تريد مني أن أصدق أن الحرب قامت بسببنا.. هي وأنا.
كنت لا أزال واقفًا عندما أفلتت من عيني وانحرفت إلى شارع جانبي. ولم تنظر خلفها مرّة واحدة كما اعتادت أن تفعل في الأيام السالفة، وشعرت بالضآلة. إن هذه العاهرة تريد أن تقنعني بأنا لا تتركني من أجل رجل آخر.. بل من أجل "شيء" آخر.
ويظهر أنني كنت أمشي، فقد أحسست بصدمة في كتفي وبيد تقبض على ذراعي ورائحة كريهة تهبّ في وجهي. وقال الرجل وهو يفلت ذراعي:
- أنت لم تعُد في الفراش!!
نعم.. لم أعد في الفراش. سيحتله رجل آخر يملك "شيئًا" آخر، وربما سيحتل نفس الفراش الذي كنت أحتله، إذا تنازلت لها عن "البراكة" كما تريد. يا لوقاحة العاهرات! تريد أن تطردني من بيتي لتعطيه لرجل آخر.. ألم أكن أستطيع تمثيل الدور بدلها فأطردها وأترك واحدة غيرها تحتل مكانها؟.. واحدة أجمل منها.. وهل هي جميلة حقًا هذه الإسفنجة! إنها لا تساوي وزنها خبزًا.. ولولا عجيزتها وساقاها... وكان حلقي يجف.
هذه العاهرة؟؟ لكأنها تعود إلى سلالة منقرضة من الجواري.. أرى المئات من النساء يوميًا وابحث خلف كل واحدة منهن عن عجيزة تشبه عجيزتها فلا أجد. لقد كادت تصل بي إلى نوع من الشذوذ يومًا.
- إذن فتش لك عن فتى أمرد تساكنه. إنه يملك نفس الشيء.
- إنني أحبها لأنها تخصّك أنت.
- كل شيء فيّ يخصّني.
- وأنا أحب كل شيء فيك.
- حسنًا. لنعبد إلهًا واحدًا.
- ما أجمل الآلهة.
- أيها الوثني!
- أيها الوثن!
وفي الحقيقة فإنني قد أحببتها حبًا وثنيًا.. لا أكثر، فقد جرّبت ذلك النوع الساذج من الحب حينما كنت في السابعة عشرة ولا يمكن لمشاعري أن تخدعني بسهولة. وكان يحدث أن أسافر إلى القرية وأتغيب أسبوعًا أو أكثر دون أن أشعر بافتقادها، ولكن فكرة واحدة كانت تملأ كياني بصورة دائمة وأحسّ لها طعمًا غريبًا: إنني أملك امرأة.. امرأة كاملة بكل ما فهيا، فأحسّ بشيء من الامتلاء والشبع النفسي.
ولقد حصلت على كثير من النساء العابرات، وكانت هي إحداهن قبل أن نبني "برّاكتنا" ونسكن معًا باقتراح منها. ولكن ما كانت تعطيني إياه هي كان يختلف عما أحصل عليه من غيرها. كانت تعطيني شيئًا آخر بالإضافة إلى اللذة الجنسية، شيئًا لم أجده عند سواها، ومع ذلك فقد شعرت بكثير من الغضب حينما اقترحت عليّ أن نبني "البرّاكة" إلى جانب حائط مسجد قديم وأن نسكن معًا. كدت أصفعها.. ماذا تقصد هذه السافلة؟! ان تجعلني قوّادها؟...
- لن تندم. إنني لم أحب حياتي هذه في يوم من الأيام، ولن يضيرك أن تساعدني على التخلص منها. وسيكون لك بيت أيضًا.
. . . . "يا للروعة" !!
- سأمثل دور سيدة البيت، أنت تذهب إلى عملك وأنا...
- نعم. وأنت؟؟
- لقد وجدت عملاً في مصنع صغير للصابون. وسترافقني كل صباح إلى هناك، وتمرّ بي في المساء لنعود سويًا إلى البيت.
. . . . "مدهش" !!
وكانت تتكلم بحماس مجنون.
- أملك أكثر من مئتي ليرة. ولديّ حليتي الصغيرة... وأنت تملك شيئًا بالطبع.. وهذا يكفي.. لن أستطيع الخلاص ما دمت أسكن تلك الغرفة الملعونة. إن أحدًا لا يمكن أن يصدق أنها قد تحولت إلى "كنيس"، وليس لي أن من يحميني.
وكنت قد بدأت أفكر بجد حينما قلت:
- ولكن الحياة معي أنا تجربة غريبة بالنسبة لك، وقد لا نستطيع أن نتفاهم.
وقالت كأنها تمزح:
- ولكننا لن نرتبط بعقد زواج.. وحتى لو خلعنا جلدينا وفعلنا، فإنه يمكن تمزيقه بسهولة كما أعلم.
فقلت مجاريًا إياها في سخريتها:
- ولكننا سنقيم بيتًا وحياة مشتركة، ولن يكون من السهل أن ننفصل بدون تعقيدات قانونية.
وقالت وهي تضحك:
- ولكن هذا من مساوئ الزواج.. ومع ذلك فالناس يتزوجون.
فقلت وأنا أتصنع الوقار:
- حسنًا.. اسمك يا زوجتي العزيزة؟
- ليزه.
- والدك؟
- ليزه.
- والدتك؟
- ليزه.
- سنك؟
- واحد وعشرون عامًا.
- ثقافتك؟
- مدرسة ابتدائية، ستة أعوام في الكيبوتس، عام في الخدمة العسكري، وعامان في الخدمة العامة.
- اتفقنا.
وغرقنا في الضحك والعناق وكأن الأمر مجرد تمثيل.
وربّما كنت متسرّعًا، ولكنني لم أشعر بالندم خلال حياتنا المشتركة إلاّ اليوم ونحن نوشك أن نفترق. فلقد عشت معها حياة دسمة حقًا، وقد أثبتت أنها طباخة متوسطة وأصبحت مع الوقت أجد لذة حقيقية فيما تطهو من طعام. ولعلني لم أكن لأعير هذه القضية اهتمامًا كبيرًا لولا أنني كنت ملزمًا بتقديم معونة شهرية للعائلة، فقد أصبحت بفضلها أوفر جزءًا كبيرًا مما كنت أنفقه على الطعام. ولكن الشيء الرائع حقصا هو تلك المرأة الجديدة التي وجدتها في ثياب "ليزه". لقد أثبتت أن العاهرة يمكن أن تصبح عاشقة حقيقية، وما زلت إلى الآن أذكر سحر وجنون ليالينا الأولى. لم نذهب إلى العمل طيلة ثلاثة أيام، فقد كانت المائدة شهية جدًا، وكنت جائعًا، وكانت تلك المرّة الأولى التي أحصل فيها على مائدة كاملة...
- كأنني لم أعرفك من قبل! أين كان جنونك هذا؟
فقلت وأنا أغرس كل جسدي في عريها:
- في المهجر يا حبيبتي.
- هل تستفزني؟
- بل أصلّي لك.
- أحبك!
- .......
- أحبك!
- ......
- أحبك!
- هل كنت في جنازة؟
- أحبك!
- استيقظ يا ولد، ألا يكفي أنك قد وصلت متأخرًا ربع ساعة حتى تأتيني نائمًا...
وحينما كنت أصطدم به فقط، وجدت أنني أقف أمام "جرشون - معلّمي..
- ماذا جرى لك؟ تمشي وأنت نائم؟ سأذهب بعد قليل فانتبه إلى العمل ودع العمال يهيئون الساحة لأكوام الرمل. ستأتي به السيارات بعد ساعتين على الأكثر.
ثم أدار ظهره ومضى وهو يقول:
- مجانين!! ينامون وهم يمشون ويمشون وهم نائمون.
ولم يكن "جرشون" يحب العرب بقدر ما كان يكره "الأشكناز". ولكنه مع ذلك كان واحدًا من القليلين الذين لم تجعلهم الحرب يعيدون النظر في تقدير أنفسهم أو تقدير غيرهم. كان يبدو لا مباليًا، وكأن الأمر لا يعنيه في شيء. وهكذا ظهرت "ليزه" في بداية الأمر، فقد استمرت حياتها على ما هي عليه من تفاهم يسوده بعض البرود الكبيعي في حياة أي رجل وامرأة مضى عليهما معًا أكثر من عامين، فلم ألحظ أي تغير في طباعها سوى ما كان يظهر أحيانًا في وجهها عند سماع خبر معيّن في الراديو، ولم أكن أحاول أن أتدخل عند ذلك، فقد كانت لي همومي الكبيرة أنا الآخر، وكنت أرضى أن نطلّ نحن الإثنين من نفس الشرفة على منظرين مختلفين، لأن هذه المناظر ستختفي بمجرد أن نغادرة الشرفة ونذهب إلى مائدة الطعام أو الفراش... ولكن بدا لي أن "ليزه" لم تعد ترضى بذلك، وأنها أخذت تبحث عن شرفات أخرى تطل منها على عالمها.
- سأذهب الليلة إلى "هيكل الثفافة"... هل تذهب معي؟
وكان سؤالها مجرد اعتذار، فهي تعرف سلفًا أنني لن أذهب، ولم يكن من المعتاد خلال حياتنا معًا أن يخرج أحدنا بدون الآخر.
- ماذا هناك؟..
قالت وهي تحاول إضفاء عدم الأهمية على الأمر..
- يقال إن الجنرال سيتحدث هناك الليلة.
- يمكنك أن تستمعي إليه في الراديو، أو أن تقرأي ما سيقوله، في الجرائد غدًا.
فقالت وهي تحاول إخفاء استنكارها:
- ولكنني أريد أن أستمع إليه مباشرة.
وخيّل إليّ في المدة الأخيرة أن برودها قد زاد وأنها تبدو في بعض الأحيان ساهمة مهمومة. وحاولت في إحدى المرات أن أتدخل.
- مالك؟ هل احترق الطبيخ.
- لا تشغل بالك من هذه الناحية.
وألقيت بذراعي حول كتفيها وقلت وأنا أشدها إليّ:
- ألا تبوحين لي بسرّك؟
فقالت بلهجة ملساء:
- أنت السر الوحيد في حياتي.
ولقد وضح لي معنى عباراتها فيما بعد، أما في تلك اللحظة فقد اعتبرت قولها غزلاً صرفًا، كنت قد افتقدته منها منذ زمن طويل.
- يا للشِّعر الجميل.. أنت أول امرأة تتغزل بي خارج الفراش.
- إنني لا أعرف ما هو الشِّعر.. إنني أقول الحقيقة فقط.
فقلت متفلسفًا:
- وما هو الشعر أيتها الآنسة؟ إنه حقائق جميلة يقولها الشاعر فتتحول مع الوقت إلى أكاذيب.
وظهر ضيقها واضحًا وهي تقول:
- أنت غريب.. لا أفهمك، دعني قليلاً.
وفي الحقيقة كنت أنا الذي لم أفهمها.
- لن أدعْكِ. أنا أولى بك من أفكارك.
وكان في صوتها رنة غريبة حينما قالت:
- يا سلام!! إلى أية درجة من العبودية وصلت بي!!
- إلى ما ينبغي. ألا تعرفين أننا نعيش في عصر العبودية الذهبي؟
ويبدو أنها لم تعد تحتمل سماجتي الغريبة، فقالت بحدّة:
- أنت مجنون أو سكران!
وانفلتت إلى الخارج.
وكنت أقرأ قصة "لوليتا" في الفراش، وكانت هي تعدّ القهوة. وكانت هي هادئة صامتة في تلك الليلة إلى درجة تلفت النظر، وحاولت أن أجعلها تتكلم فأخذت أقصّ عليها بعض أحداث القصة وأقرأ لها جملاً منها، ولكنها اكتفت بالاستماع لما كنت أقوله. وعندما رأيت عبث محاولاتي استغرقت في القراءة.
- القهوة..
وتركت الكتاب واعتدلت في الفراش، بينما كانت تضع فنجن القهوة على كرسي إلى جانبي..
- إجلسي هنا.. هنا بقربي.
- سأجلس هنا على الكرسي.
كانت لهجتها خالية من أي تحدّ، ولكنني كنت أشعر بالضيق والشبق معًا، فقلت بحدة وخشونة:
- ستجلسين هنا.. بجانبي.
ولاح انفعال هادئ على وجهها، وترددت وهي تنظر إليّ نظرة طويلة خالية من أي معنى، ثم قامت وجلست على الجانب الآخر من الفراش.
وازداد الشبق والغضب معًا.
- لقد أصبحت سيدة فعلاً... وخجولة أيضًا.. إنك تمثلين دور العروس بمهارة. واحمرّ أنفها إلى درجة فظيعة وأحسست من حركة الفراش تحتها أنها قد أخذت تتوتر، ولكنها عادت واسترخت مسندة ظهرها إلى حافة السرير بحركة ذابلة تدل على اليأس.
ورشفت رشفة من فنجان القهوة، وكنت أقربه من شفتي للمرة الثانية حينما انفجرَتْ.
- أنا لن أكون سيدة أبدًا.. إنني كما تريد، عاهرة.. ولكن قل لي، بماذا أنت أفضل منّي؟
وكانت الأزمة التي أحسها في داخلي قد انفرجت نوعًا بعد أن قلت ما قلت، ولذلك فقد انفجرت ضاحكًأ وقلت وأنا أحاول أن أنالها بيدي:
- إنني فوقك في كل شيء، وأنت تعرفين ذلك.
ولم تجب. وانقلبت أنا في الفراش، وسرحت... أحسست بذبول مفاجئ في جسمي كله، واستولى عليّ يأس هادئ ولامبالاة حزينة. ولم أستطع تفسير أي شيء. وطال الصمت وكانت أفكاري السوداء تجوس خلال طرقات خربة في قرية تشبه قريتي.. ولكنها مهدمة. ولم تكن كلماتها هي التي فعلت بي ذلك، فالأفكار السوداء كانت تزورني بين حين وآخر. وكانت تأتي فجأة، وكأنها تتسلل من سجن مغلق تُرك مفتوحًا بالصدفة في أحد المرات. وكانت تحمل لي دائمًا صورًا غريبة.. بيوتًا مهدمة.. أناسًا يُقتلون.. أطفالاً مشردين يجوبون شوارع مجهولة.. نساء معذبات الوجوه يصرخن وينتفن شعورهن.. صورًا ربما كنت قد شاهدتها.. أو سمعتها وبقيت معي تلاحقني حتى في أحضان هذه المدينة المقرفة.
- سامي! لقد قاومت طويلاً. يجب أن نفترق.
فقلت من هوّتي العميقة:
- لا أظنّ.
كنت أظنها غاضبة، ولم أعر كلامها اهتمامًا كبيرًا.
- إنني أعني ما أقول. كان يجب أن أخبرك منذ وقت طويل.
ولم أكن قد فهمت بعد، فقلت وأنا أتشبث بغيبوبتي:
- لنؤجل هذا الحديث.
- ولماذا؟ ستسمع نفس ما أقوله لك الآن. هل تظنني غاضبة؟
وبدأت أحس بالاهتمام، وانتشلت نفسي من الذبول دفعة واحدة وقلت:
- إذا لم تكوني غاضبة فإن هناك سببًا آخر، ربما رجل آخر!
ثم أضفت بسخرية:
- أم لعلك سئمت هذا النوع من الحياة؟
فأجابت دون أن تفقد ذرّة من هدوئها:
- ليس هناك أي رجل. ربما سيكون في المستقبل، أما الآن فإنني أريد فقط أن نفترق.
- ولكنني لا أريد.
قالت وهي تقترب منّي:
- "سامي" إنني أفهمك. وأنا أيضًا لا أريد، وليس هناك سبب يجعلني أريد ذلك.. ولكن... ولكن هذا ما يجب أن يكون.
وبدأت أشعر بالخوف.
- "ليزه"! أنت مريضة ولا شك. إنها ليست المرة الأولى التي نختلف فيها.. لقد ضربتك ذات مرّة ولم تقولي شيئًا كهذا. يجب أن تحدثيني بصراحة تام. إن لي عليك هذا الحق على الأقل.
وصمتت قليلاً قبل أن تقول بلهجة مترددة:
- حسنًا.. إنهم يهددونني.. لقد فعلوا ذلك أكثر من مرّة ولم أشأ أن أخبرك بذلك. يقولون إنني يجب أن أتركك وإلاّ... وإلاّ فسيصيبنا منهم سوء كبير.
ورغم أنني فهمت إلاّ أنني قلت بلهجة المستغرب:
- من؟؟
- كثيرون. بعضهم من أعرفهم، والجيران أيضًا أكثر من واحد.. وأكثر من مرّة.
وغضبت.
- إذا كان هذا صحيحًا فلماذا لا يأتون إليّ؟
وتنهدت قبل أن تقول:
- كأنك لا تصدقني... ما الذي يجعلني أريد تركك الآن؟ لقد عشنا حياة هادئة وجميلة معًا، وأنت لا تزال كما أنت لم تتغير بالنسبة إليّ، ولكنهم يلحون عليّ بالتهديد.. أحيانًا بقتلك.. وأحيانًا بقتلنا معًا، وهم يعنون ما يقولون. إنني أعرفهم وقد تأكدت من ذلك قبل أن أخبرك.. إنني خائفة... خائفة جدًا.
قلت بعدم اقتناع بما أقوله:
- كأنك أنت التي تهددينني. لقد عشت معي رغمًا عنهم جميعًا. إن أحدًا منهم لم يكن راضيًا عن ذلك، وقد مضت ثلاث سنوات ولم يحاول أحد منهم أن يهددك، فماذا حدث الآن؟
وكنت أعرف ما حدث. ولكنني كنت أدفع نفسي إلى تمثيل هذا الدور.. دور الجاهل بالحقيقة لأنه لم يكن هناك شيء آخر أتشبث به.
- لم يكونوا يكرهونك كما يكرهونك الآن.
ولم يعد بإمكاني أن أتجاهل.
- وأنت أيضًا لم تكوني تعرفينني كما تعرفينني الآن.
ونظرت إليّ ولم تجب. وشعرت بطوفان من الغضب.
- إنّ لهم حربهم هم أيضًا، وهي معي بالطبع، وأنت تعرفين لمن تنحازين.
وصمتّ، وصمتت هي أيضًا. وشعرت بشيء من الهدوء فعدت أقول:
- "ليزه"، إننا لن نفترق لأنهم يهددوننا. سنفترق إذا أراد أحدنا أو نحن الاثنين معًا. وأنا لا أريد ذلك. لا أريد أن نفترق، فما رأيك أنت؟
وانتظرت طويلاً قبل أن تجيب.
- أريد أن نفترق.. لا أريد أن يموت أحدنا أو يصاب بأي سوء. يجب أن نفترق.
وشعرت ببداية اليأس.
- ليكن. بإمكانك أن تذهبي فلن أحاول منعك. أنت أتيت وأنت تذهبين.
ولاحت الحيرة في وجهها ولكنها لم تلبث أن قالت بحذر:
- سأدفع لك ثمن حصّتك في "البرّاكة".
- حصتي!! إنني لن أذهب من هنا. يمكنك أن تذهبي بنفس الشرط، أما أنا فباقٍ..
وظهر الخوف في وجهها وهي تقول:
- ولكنني لا أستطيع.. إنني لن أحد مكانًا آخر إلاّ إذا عدت إلى حياتي القديمة.. إنهم لن يتركوني أعيش كما أريد إلاّ في هذا المكان.
وقلت بحنق شديد:
- ولكن معنى هذا إنك تطردينني. ما دمت أنت التي تريدين أن نفترق فلماذا أذهب أنا؟ ألكي تأتي بواحد غيري؟
فقالت بلهفة:
- لن يأتي أحد.. أقسم لك. ستأتي صديقة لي لتعيش معي مؤقتًا.
وقلت بكثير من السخرية:
- إلى أن تجدي البديل. إسمعي، إنني لن أذهب من هنا. هذه ليست وقاحة تُحتمل. تطردينني من بيتي لأنك تريدين إيواء رجل غيري!!
فردّت بكثير من اليأس:
- ولكنه بيتي أيضًا. ثم إن هذا الذي تقوله غير صحيح.
- لم أنكر أنه بيتك، ويمكنك البقاء فيه.
وكان في صوتها رنّة توسّل وخوف:
- إنني بحاجة إليه أكثر منك. أنت يمكنك الاستغناء عنه. ستعود يومًا إلى قريتك أو تنتقل إلى مكان آخر، أمّا أنا فإن انتقالي يعني عودتي إلى حياتي القديمة.
وكانت تتكلم بحماس ولهفة وكأنها ترجو أن تقنعني بحرارة كلماتها.
- أنت تفهمني، أنت لست في بلدك.. لك مكان آخر. أنت غريب ولن تبقى هنا إلى الأبد. ستضطر إلى الذهاب يومًا ما، وما دمت هنا فإنه لا يهمّك أين تعيش.
- ولماذا. أريد أن أستقر أنا أيضًا. لن يكون لي عمل آخر، وقريتي لا تريدني وأنا لا أريدها. ثم إنني لم أطردك ولم إفكر في ذلك، ولكنني لا يمكنني التفكير أيضًا في طرد نفسي.
- ولكن مستقبلك ليس هنا، أما أنا فقد أصبح هذا البيت هو كل حياتي ومستقبلي.
قلت بعنف:
- وأين هو مستقبلي؟ إنه في أي مكان هنا، وليس في أي مكان آخر.
قالت بيأس وحيرة واستجداء، وكأنها توشك أن تسجد عند قدميّ:
- أنت.. أنت غريب.. سأعطيك كل..
وأجبت بسخرية مشوبة بالغضب:
- أنا غريب!! إنني أعرف هذه المدينة قبل أن تطأها قدمك. إن بيت خالي لا يزال جدار منه يواجه البحر.. وهذا المسجد! إنه يخصّني أنا.
ثم بسخرية أشد:
- وكيف أكون في هذا المكان ولي فيه أجمل الذكريات... ألم أعش معك هنا. لقد قضيت هنا ثلاث سنوات جميلة حقًا.
وساد بيننا صمت طويل. وأخذت تبكي محاولة إخفاء صوت بكائها.
وفجأة وجدتني أضحك بصوت عنيف وغريب معًا. تملكتني رغبة محمومة في الضحك. وبدا لي كل شيء مضحكًا وتافهًا إلى حد بعيد. ولم أستطع أن أتوقف إلاّ بعد أن رأيتها تنظر نحوي بتساؤل وقلق، وكأنها تخشى أن أكون قد جننت حقًا.
وقلت من خلال الرجفة التي تركها الانفعال الضاحك في صوتي:
- هل أصبحت تجدين لي طعمًا آخر؟ أم لعلك تجدين لنفسك ذلك الطعم؟ إن الحرب لم تغير شيئًا من نكهة عريك.. أؤكد لك. والنمش الذي في وجهك، إنه لا يزال على حاله. وبالنسبة لي، فإنني أيضًا لم أصبح أكثر سمرة ولم تؤثر الحرب في قابليتي للمضاجعة.. هل تنكرين ذلك؟
وقال بعصبية:
- أنت تهذي فقط.. إن الخوف وحده هو الذي يدفعني إلى ذلك.
وتابعت الحديث دون أن أعبأ بكلامها:
- لقد كان يجب أن أفطن إلى ذلك.. لقد اختلفت المواقف وكان يجب أن نتفاوض من جديد. ولكن لا تظني أنني سأتشبث بك. نني لن أمنحك القيمة التي تدّعينها لنفسك. ولكنني لن أتنازل عن العيش هنا. يجب أن يكون هذا واضحًا لك. ولن أغيب أكثر من أسبوع، وأظنه سيكون كافيًا لك لتقرري البقاء معي أو الذهاب بدوني. غدًا صباحًا سأحمل حقيبتي وأذهب، لقد انتهت الحرب بهزيمتي أنا..
- لقد فقدت "ليزه"، وربما إلى..
- أين أنت أيها الحيوان القذر؟ أخبرني فقط ما الذي حدث لك؟ لماذا لم تقوموا بتنظيف الساحة؟
كان يهدد كالجمل الهائج وهو يتجه نحوي.
- قل لي ماذا أصنع الآن؟ إين سأضع الرمل؟ ثلاث سيارات! وصلت واحدة منها منذ خمس دقائق.. قل لي..
- بم ... بم.
وضاعت كلماته في ضجة الانفجار، واهتزت بنا البناية. نظر إلي بفم مفتوح وانطلق يعدو... وانطلقت وراءه... وخرجنا من البناية وكان الناس يركضون باتجاه محطة الباصات المركزية وضِعنا في طوفان الضجيج والأجسام.
- ألموت للعرب!
- الموت للكلاب!
- إتبعوني.. هاي.. هاي..
وآخر ما أذكره عينان من الجمر وكفّ تشير نحوي، وبدأت أركض... ثم.. وكأنّ جدارًا قد انهار على رأسي، ولم أجد نفسي إلاّ على صوت الشرطي وهو يسألني:
- أخبرني ماذا حدث لك بالضبط؟
المناظر الآن أكثر وضوحًا وثباتًا أمام ناظريّ، أو بالأحرى أمام عيني السليمة. والضمادات لم تعد تعلن عن نفسها بأي شكل، وكأنها قد أصبحت جزءًا منّي.. وليس من ألم على الإطلاق. وكنت أمشي طيلة الوقت، أو هذا ما يبدو أنني فعل، فقد أصبحت قريبًا من الشاطئ أسمع وشوشات الموج الحالمة.
وعرفت أنني يجب أن أتوقف وأن أغيّر اتجاهي. وأخرجت ساعتي من جيبي بيدي السليمة.. الثانية والنصف تقريبًا.. يجب أن أذهب إلى "البراكة" لأستريح. ولكني لم أفعل، وذهبت في اتجاه مصنع الصابون..
وتسكعت طويلاً – أو هكذا تخيلت – قبل أن تظهر "ليزه". ورأيتها تشمل الشارع بنظرة واسعة قبل أن تضع أول خطوة خارج البناية، وكنت على بعد خطوات منها، ورأيت نظرتها تتخطاني بدون أن يبدو عليها أنها عرفتني. وضعت نفسي إلى جانبها وسرت.
وحملقت بي قليلاً ثم هتفت:
- أنت؟!
قلت بسخرية:
- تقريبًا.
- وماذا.. هل كنت هناك؟
- ذهبت لأشاهد ما حدث.
- ولكن كيف حدث لك هذا إذن؟
- كيف؟! لقد فضحني وجهي فنال ما يستحقه.. وهل كنتِ تريدينهم ألاّ يضربوني!!
وسرنا في صمت قطعته مزمجرة:
- الوحوش.
وكانت لهجتها صادقة، وشعرت بالامتنان لها رغمًا عني، وقلت بنذالة:
- هذا شيء متوقع في ظروف كهذه.
ورأيت الاشمئزاز في وجهها ولهجتها معًا:
- متوقع؟
وشعرت بالخجل والمرارة. لقد أخطأت فهمها إذن، وقلت بحقد شديد عليها وعلى نفسي:
- لا تقلقي. إن العرب الذين أصيبوا اليوم بسبب البطولات الحقيقية أضعاف الذين أصابتهم شظايا القنبلة. ومن ناحيتي فإنني قد نلت قسطي من العقوبة، وأنا آسف جدًا. لم يكن جيب أن آتي لمرافقتك ولكني لم أشأ الخروج على العادة.
واستطعت أن ألمح تغير لونها.. ربما كان غضبًا أو خجلاً، لا أدري. ولكنها قالت بلهجة من الاعتذار:
- أنا آسفة.. لقد كنت منفعلة. هل إصابتك بالغة؟
- لقد كانت كافية لإزالة انفعال الذين ضربواني، كما أعتقد.
- يحق لك أن تغضب.. ولكن هل تتألم كثيرًا؟
- ولا قليلاً.. يظهر أن الوقت لم يحِنْ بعد.
- هل أستدعي سيارة؟ بإمكاننا على الأقل أن ننتظر سيارة من سيارات الأجرة.
وقلت باختصار:
- أستطيع المشي.
وكنا على بعد مئة خطوة من "البراكة" حينما اكتشفنا الأمر. نظرتْ إليّ بدهشة ثم برعب، وأخذت تركض، ومشيت على مهل.. لم أكن بحاجة إلى ذلك فقد كان كل شيء واضحًا. ولا أدري لماذا لم يصدمني ذلك، بل لماذا شعرت بسرور خفيّ يتلصص من خلف مشاعري المخدّرة.
كانت "البراكة" أشلاء متناثرة من الأخشاب والألواح، وكان الدخان يتصاعد من كومة هامدة من الملابس.. "تكة" سروالها الوردي، موضع الحزام من بنطلوني الرمادي، مقبضحقيبة ملابس.. حطام بعض الأواني الزجاجية.
لقد اكتمل منظر الخراب الآن، وعاد الخلاء الواسع إلى أصالته بعد أن زالت تلك الندبة الخشبية عند طرفه الجنوبي، حيث بقايا المسجد وحطام الحي القديم.
وأسندتْ رأسها إلى حائط المسجد مغمضة العينين وانسدل شعرها القصير على جانب من وجهها الذي أصبح بلون الظل.
نظرت إليها بعيني السليمة ولم أتكلم.
فجأة، بدأتُ أحسّ بالأم في وجهي ويدي، وشعرت بارتخاء مفاصلي فجلست إلى جانب كومة الرماد..