الملك
أغلق الشارع الرئيسي الوحيد في المدينة تمامًا. توقفت السيارات في كلا الاتجاهين عن الحركة وتراصّت في خطين طويلين بعرض الشارع من الرصيف إلى الرصيف. ومع كل لحظة كان الخطان يزدادان طولاً، وكثافة أيضًا. أمّا أبواق السيارات فقد انطلقت تصرخ بجميع اللهجات التي يمكن لأذن مثقفة أن تتخيلها، فبينما كانت أبواق السيارات الأمامية المشرفة على المشهد تنطلق بهتافات ساخرة أو مبتهجة يغلب فيها الإيقاع الراقص، كانت السيارات الأخرى – حسب معلومية سوّاقيها وانشغالاتهم – تنصبّ بصرخات مختلفة يتكوّن منها هدير مخيف يمتزج فيه الغضب والتعجب والتسامح والهستيريا، إلى آخر ما يمكن تصوره في موقف كهذا.
وبنفس المدى تقريبًا فرضت الكتل البشرية وجودها على المشهد المكتظّ بالمرئيات والأصوات فملأت الرصيف على الجانبين، بالإضافة إلى ذلك القطاع العرضي الضيق من الشارع الذي كان يجتازه موكب (الملك) والذي كان السبب في كل ما جرى ويجري في ذلك الجزء من المدينة الصغيرة.
ومرور موكب (الملك) ليس مناسبة نادرة في حياة المدينة تقتضي حدثًا بمثل هذه الضخامة، فـ(الملك) بكل ما يصدر عنه ظاهرة يومية في حياة الناس هناك، يملأ من وقت كل واحد منهم تقريبًا لحظات قصيرة عابرة ينسى فيها صرامة الحياة وغرورها السخيف. واجتيازه الشارع لم يكن يقتضي أكثر من وقفة عابرة مصحوبة بابتسامة صغيرة فيها الكثير من الحبّ والولاء التلقائي لظاهرة "وطنية" تقليدية خاصة، إذ أن ذلك هو أمر يوميّ محتوم، محكوم بنظام الزمان وإن لم يكن محكومًا بنظام المكان. فهو كعادة الكثيرين من (الملوك) في التاريخ يحمل دوافع معيّنة تجعله يقضي – وبإصرار – يومًا في شرقيّ المدينة ويومًا في غربيّها. فإذا كان في إحدى الناحيتين لم ينتقل إلى الأخرى إلاّ قبيل غروب الشمس بفترة مضبوطة عفويًا كصياح الديك. وكعادة معظم (الملوك) أيضًا، لم يكن يعبر الشارع مرّتين من نفس المكان، وهذا أمر مفهوم طبعًا، تقتضيه عوامل العدل والتكريم والحذر.
والموكب أمر تلقائيّ بالنسبة لمن يتمتع بحبّ المواطنين وولائهم حتى وإن لم يبد الأمر رسميًا أو مفتعلاً.
وهكذا.. فقد كان يكفي أن يُرى (الملك) في نقطة معيّنة من المدينة قرب لحظات العبور حتى يتجمع الأطفال في تلك الناحية لمرافقة (الملك) بالهتاف والسير في خطاه، إلى أن يجتاز الشارع. وفي بعض الأحيان كانت تُتخذ بعض الإجراءات الاحتفالية إذا كان الوقت يسمح بذلك. وفي الحقيقة فإنه نادرًا ما كان يخلو الموطب من طفل يضرب على صفيحة فارغة، أو طفل يرفع علمًا أحمر أو أبيض أو ملوّنًا. أمّا (الملك) نفسه فقد كان أمينًا لكل مظهر من مظاهر السلطان، لا يسمح لنفسه بإهمال أقلّ الأمور أهمية؛ فهو يتمهّل طويلاً قبل أن يدلّي أول قدم من قدميه الحافيتين على الرصيف إلى أرض الشارع، يحوّل رأسه الضخم الذي لا يتناسب مع جسده حجمًا ولا لونًا، إلى كلا الاتجاهين وببطء شديد كأسد شركة "غولدن ماير" للأفلام السينمائية، رافعًا في كلّ مرّة صولجانه المكوّن من حديدة في خشبة وكأنه يبارك جمهورًا على الجانبين ثم يبدأ التقدّم.
وتخفف السيارات من سرعتها في البداية ولكنها بعد قليل تضطر إلى التوقف، إذ لا يمكن لسيارة، مهما بلغت من الضخامة أو السرعة أو قوّة النفير، أن تجعل (الملك) يلتف بربع بوصة عن يمينه أو شماله أو أن تجعله يزيد أو يخفف من سرعته بمقدار جزء من المليمتر في الساعة: يثني يده الممسكة بالصولجان على صدره، ثم يسير ببطء هائل رتيب نحو الرصيف الآخر، يتبعه المرافقون على بُعد نصف خطوة خلفه لا تزيد ولا تنقص. وكثيرًا ما كان يعنّ لـ(الملك) أن يستكمل أبّهة المُلك بوقفة قصيرة يعدّل فيها من وضع جاكيتته الحمراء الهائلة المزيّنة بجميع أنواع البقع المحتملة والنياشين المكوّنة من صور المجلات وشعارات البضائع المختلفة كالسجائر والسردين ومستوردات الضفة الغربية والنشرات التبشيرية، بالإضافة إلى فرشة أسنان مستعملة وبعض الأمشاط الملوّنة – ثم يتابع السير.
وكان مرور الموكب يحتاج أحيانًا إلى دقيقة أو أكثر يحسّ بعدها المارّة في تلك اللحظة وسوّاقو السيارات ذوو الميول العدوانية ببعض الراحة النفسية ويبتسمون بتسامح لكل ما صادفهم من متاعب في ذلك اليوم.
أمّا هذه المرّة، فقد استطاع (الملك) أن يفوز بحشد من الناس والسيارات يحسده عليه أيّ ملك حقيقي، وبضجّة لم يُحدثها أيّ تحوّل سياسي خطير أو حتى وفاة مغنّ كبير في إحدى الدول الناطقة بالعربية. لقد ألهبت هستيريا الانفعال الأعين والحناجر والأيدي وتحوّلت تلك البقعة من المدينة إلى مهرجان مجنون.. عاش الملك! عاش لويس السادس عشر! عاشت ماري أنطوانيت! كل هذا و(لويس) السادس عشر يتقدم بخطاه المعهودة بينما تعلقت بساعد يده الممسكة بالصولجان عروسه الفخمة (ماري أنطوانيت).
ولم يعرف أحد من أين جاءت (ماري)، ربما من إحدى القرى المجاورة، ربما من الضفة الغربية أو قطاع غزة، بل ربما من تل أبيب نفسها. إذ إنه كان من الواضح أن (ماري) لم تكن من الناطقين بالعربية بل وحتى من الناطقين بأيّ شيء. فقد كانت بين الفينة والفينة ترسل زعقة خاصة تتبعها بضحكة خاصة أيضًا تدلّ على أن هذا هو كل قاموسها التعبيري. وكانت تتعلق بذراع زوجها (لويس) بطريقة ملكية خاصة ربما لم تعهدها الملكات من قبل؛ فقد كانت ترافقه بربع جسمها فقط بينما كان ثلاثة أرباعه يتبع الاثنين في مشية ضخمة مهيبة تليق بأيّ فيل مهراجي. وبينما كان رأسها الصغير ومقدمة صدرها الوثير المنجّد يسيران بمحاذاة (لويس) كان باقي جسمها يبدو وكأنه جزء من الموكب المتدافع كالسيل على بعد نصف متر من قدمي (لويس) الحافيتين.
لم يعرف أحد من أين جاءت ولا كيف التقت بـ(الملك) الذي أصبح الآن يدعى لويس السادس عشر. ولم يُعرف حتى من دعاهما بهذا الاسم. كل ما حدث أن الناس رأوهما لأول مرّة يتجهان نحو نقطة العبور وقد تعلقت بذراعه ومدّت أمامها زعقاتها الضاحكة العجيبة، وبُهر الناس أمام هذا المشهد التاريخي بحق. فقد كان مشهدًا على درجة من الطرافة لا تخطر ببال أحد. كان زواجًا من صنع التاريخ وحده. طريفًا كالتاريخ وعظيمًا كالتاريخ.
هبّت ضحكات الناس ونداءاتهم كما تهبّ الزوبعة. تصارخ الأطفال والمارّة وأصحاب الحوانيت والباعة المتجولون. ترك كل الناس في ذلك الجزء من الشارع أعمالهم وانسلخوا عنها كما ينسلخ الإنسان عن ذاكرته إثر صدمة كبيرة. وامتدّت عدوى الضجيج زحفًا إلى أن وصلت أمكنة لا يصلها الصوت العادي. ولكن الأمر ظلّ في حدود المعقول إلى أن أطلّت امرأة من شبّاك بيتها المشرف على الموقع ورأت المشهد الرائع، لم تملك المرأة نفسها - أو أنها أرادت عن وعي إكمال الصورة الناقصة - فبعثت بأحرّ وأصفى زغرودة يمكن أن تطلقها امرأة، فانفتحت شبابيك البيوت المجاورة وانهالت الزغاريد كالرصاص في ساحة المعركة، وطغى الهياج إلى أن تحوّل إلى هستيريا جماهيرية لا ضبط فيها ولا نظام، ولكن الأمور جرت كما يقتضي ذلك الموقف الهستيري: برزت باقات الورود وكأنما نبتت بين أرجل الناس، وهطل العطر بأنواعه على رأسي العروسين (الملكيين)، وكما تنفجر القنابل الموقوتة انفجرت اللافتات والهتافات محملة بشعارات موهوبة لا أثر فيها للارتجال أو الافتعال. "عاش الملك! عاشت الملكة!".. "عرس مبارك يا (لويس)".. "ملكنا أحلى عريس!".. "يا ماري بدنا خِطاب.. تنجمع شمل الأحباب".. "يا ملكنا احنا اخترناك.. بعنا الناس وشريناك".. وشعارات وهتافات بعدد الناس الموجودين أو أكثر.
وبلغ الاحتفال ذروته عندما أقيمت منصّة أمام مقهى في الناحية الغربية المقابلة لمكان الحشد زُيّنت بالصور والشعارات والزهور، وأُعدّت الأمكنة لجلوس العروسين والخطباء، واستُحضر مكبّر صوت من دار البلدية، وبدأ الموكب الهائل بالتحرك في اتجاه المنصّة.
أمّا السيارات فكان قسم منها قد توقف بدافع حب الاستطلاع عند سائقيها، ولكن عندما بدأ الموكب بالتحرك أصبح توقف السيارات أمرًا اضطراريًا، وأصبح من المتعذر مرور الهواء نفسه من جانب إلى الجانب الآخر. ولم يكن يبدو إزاء الكتلة البشرية الهائلة التي غطت كل مكان يمكن الوقوف فيه، أن السيارات يمكن أن تتابع سيرها خلال أقل من ساعات عديدة، فقد كان الأمر رهنًا بانتهاء الاحتفال وتفرُّق الناس. وجُنّ جنون بعض سائقي السيارات البعيدة عن مكان الاحتفال، وترجّلوا من أمام عجلات القيادة ليستوضحوا الأمر. عبثًا.. فحتى أقرب الناس وأكثرهم فعالية فيما يجري لم يكونوا يعلمون تفسيرًا أو سببًا لهذا الذي يحدث. وكان أقرب وصف منطقي لذلك هو أن حالة جنون غريبة قد حلت بالناس ففقدوا السيطرة على أي شيء. وفي مكان قريب من مركز الاحتفال وقفت سيارة إسعاف تبعث بعويلها وإشاراتها الضوئية إلى فضاء مجنون لم يعد يعي معنىً لأي صوت. أمّا رجال الشرطة الذين حشروا أنفسهم حشرًا من بين أجساد السيارات والبشر، فقد ضاعوا كما تضيع حبّات من الفول في كومة كبيرة من بذور الفستق.
بدا الأمر ميئوسًا منه. وتوجّه مئات السواقين إلى مركز الشرطة في المدينة ودار البلدية في مظاهرة صاخبة، وبعد تشاور بين الجانبين تقرّر أن يحاول رئيس البلدية الوصول بؤرة الاحتفال ومحاولة تفريق الناس بالإقناع فإن لم ينجح خلال ساع واحدة استدعت الشرطة طائرات الهيليكوبتر المزوّدة بخزانات الماء الساخن لتفريق المتجمّعين.
وكان وصول رئيس البلدية إلى المنصّة الملكية أشبه بمحاولة نملة الوصول إلى قمّة جبل، ولكن الأمور كانت من الخطورة بحيث وصل، رغم كل شيء. وتعالت الهتافات المجنونة بحياة رئيس البلدية لمشاركته في الاحتفال، وتقدم الرجل فصافح العريسين (الملكيين) وانتظر إلى أن انتهى الخطيب المهنئ من خطابه ثم أمسك بسماعة مكبّر الصوت.
جاش الهتاف مرّة أخرى ثم خفت بالتدريج. وهمس رئيس البلدية بكلام في أذن أحد مرافقيه فانطلق الرجل يشق طريقه بين الأجساد إلى وجهة غير معلومة.
- أيها المواطنون!
كان صوت رئيس البلدية هادئًا وغريبًا في نفس الوقت، وكان من السهل على الأذن الإحساس بما فيه من تعب وانكسار وحزن وخطورة، واستحضر بعض المثقفين في مخيّلتهم صوت نابليون بعد (ووترلو)، كما حاول البعض الآخر استحضار أو تذكر أصوات كبار القادة في أيام المحن.
- أيها المواطنون! إن ما جرى اليوم أخطر بكثير مما يمكن لأحد أن يتخيّل. وأنا لا ألومكم، فما حدث كان لا بد أن يحدث، إو التاريخ لا يلهو ولا يعبث، إنه يختار أدواته ويعلن عن نفسه بالطريقة التي يحبّ. وقد كنتم اليوم، وبدون أن تشعروا، أداة في يد التاريخ.
جفّت حلوق الناس، وانعقدت أفكارهم وألسنتهم أمام هذه المفاجأة الجديدة.
- إن التاريخ نظام خفيّ كالهواء، لا نحسّ به إلاّ حينما يصفع وجوهنا بقوّة، ولقد وجّه إلينا التاريخ هذا اليوم صفعته على شكل نبوءة.
نعم أيها المواطنون، لقد ألقى التاريخ بواسطتكم نبوءته الجديدة، لقد كان التاريخ في ما مضى يوجّه نبوءاته التي تسبق الأحداث بواسطة أشخاص.. أي بواسطة أفراد مختارين، ولكن هذا عصر الشعوب، وقد انتقلت القدرة على التنبّؤ من ذهنيات الأفراد المبسّطة إلى ذهنيات الشعوب المركبة لتلائم تعقيدات العصر وتقدر على احتواء مركّباته العديدة التي تعجز ذهنية أيّ فرد عن احتوائها.. وهكذا كان، لأن التاريخ – كما قلت - أسلوبه وأدواته.
كم منكم يتذكر لويس السادس عشر أو ماري انطوانيت!؟ وكم منكم يذكر ما حدث في أعقاب زوالهما!؟ عدد ليس بالكثير! ومع ذلك انظروا إلى هذه اللافتات! استعيدوا ما انطلقت به حناجركم من هتاف. طبعًا إن الكثيرين منكم يعرفون من هو (لويس) ومن هي (ماري) ولكن كم منكم كانوا يتذكرونهما من قبل. إنهما يعيشان في لاوعيكم بكل ما يرمزان إليه من معنىً تاريخيّ، وبكل ما يمثلانه من رمز لمعاناتكم اليومية في هذا العصر، ولذلك وفي اللحظة الحاسمة عندما اكتمل الشبه طفت النبوءة على سطح وعيكم لتشير إلى مرحلة حاضرة ومرحلة لاحقة لازمة لزوم النتيجة للفعل.. (مرحلة المقصلة).
أيها المواطنون!
وتغيّر الصوت بشكل واضح وداخلته نبرة ثخينة أشبه بالضرب على كيس مملوء بالقش:
- أيها المواطنون!
لقد أعلنتم باسم التاريخ، أن عهد المقصلة قريب. أعلنتم باسم التاريخ أن عصر الإرهاب على الأبواب، أن (دانتون) و(مارا) و(روبسبير) يتهيأون لدخول المسرح كممثلين رئيسيين في مسرحية هذا العصر. أنتم أعلنتم ذلك! فتهيأوا لاستقبال الأيام السوداء بكل ما تملكون من ذكاء ومقدرة على اتقاء النكبات. لا مكان لليأس، فإنه إذا كانت مقصلة هذا العصر أكثر دموية، و(مارا) هذا العصر أقبح وجهًا فإن إنسان هذا العصر أيضًا أكثر حنكة ومرونة وقابلية لمجانبة الأخطار وتذليل الواقع.
وهنا رفع رئيس البلدية يديه وقال بصوت كهنوتيّ يبعث على الرهبة:
- أيتها الأيام السوداء!
أقبلي بسرعة، لكي تذهبي أيضًا بسرعة، لأن خلف ردائك المعتم عصرًا جديدًا وإنسانًا جديدًا لديه الكثير من المهام والواجبات.
وفي هذه اللحظة بالذات، وكأن الأمر مرسوم سلفًا، انطلقت أصوات الأذان من مكبّرات الصوت فوق المآذن، وقرعت عشرات الأجراس فوق أبراج الكنائس، وسقط على الجمهور المحتشد صمت ثقيل كالظلّ، وبدا كأن التحجر قد أصاب أجساد الناس. ولكن ذلك لم يستمرّ إلاّ ريثما انقشع الذهول، فبدأت الأجساد تتململ، وانبجست خيوط من البشر من أطراف الحشد الأخرس أخذت تزداد ثخانة وتسير باتجاه معاكس للتحلل الذي أخذ يدبّ في الكتلة البشرية المتراصّة ويقترب ببطء وإصرار من المركز.
وفي خلال أقل من ساعة بدأت السيارات تتحرك بطيئة وكأنها تفيق من نوم ثقيل وعاد كل شيء ببطء أشدّ إلى سابق عهده. وعلى المنصة نظر (لويس) إلى (ماري) بأبّهته المعهودة وانزلقت يده إلى صدر جاكتته الحمراء المبقعة، فأرسلت (ماري) إحدى زعقاتها العجيبة وسقطت على كرسيّها ثلاث مرّات قبل أن تستطيع الوقوف لتتعلق بالساعد (الملكيّ) وتمضي مع (لويس) باتجاه الدرج الهش للمنصة التي كانت تهتزّ تحت ثقل المجنونين.
(الشراع، عدد تموز 1978)