الماعز
كانت الغرفة مفروشة من ثلاث جوانب بجلود الماعز السوداء، وعلى مقربة من الباب ثلاثة أزواج من الأحذية، اثنان منها من أحدث ما توصّلت إليه صناعة الأحذية الإيطالية والثالث قديم إلى درجة الأصالة. وفوق رأس المضيف تدلّى سيف خشن المظهر كانت هدبة متدنّية في حمالته تلامس أذن الرجل باستمرار فيحكّها بكلّ أصابع يده حينًا وببطن كفّه حينًا آخر. ولم يكن يرتاح قليلاً من ذلك إلاّ حينما كان ينحني على الموقد الطيني المعقد الصنع أمامه ليصبّ لنا أو لنفسه من قهوته البالغة المرارة أو ليعالج الجمرات المتلاشية – بدون أيّ مبرّر عمليّ – سوى الهرب من تلك الهدبة وإراحة أذنه على ما أعتقد. أمّا المصباح المدلّى من السقف فقد كان الشيء الوحيد الذي شعرت نحوه بالألفة منذ دخلت الغرفة، إذ يبدو أنني قد رأيت واحدًا مثله من قبل وإن كنت لا أذكر أين.
وكان الباب والنافذة الوحيدة في الغرفة، يقعان في نفس الجهة جنبًا إلى جنب ويكوّنان معًا ما يصلح أن يكون لوحة سريالية تمثل الأمومة. وحينما فكّرت في ذلك قفز إلى ذاكرتي قول صديقي ونحن نجلس في كافتيريا "الملك" ظهر هذا اليوم:
- سنقضي ليلة نادرة يصعب عليك نسيانها.
وقد بدأت فعلاً أشعر بندرة الجوّ الذي يحيط بنا، وقد زاد من ذلك الإحساس الهدوء الليليّ العميق الذي لم تكن تعكّره الأصوات الصغيرة، الخالية من الصخب بقدر ما كانت تزيده جمالاً.... عبث الملقط في رماد الموقد، الغنات السريعة في فنجان القهوة، العواء المتأنّي الذي كان يبدو بعيدًا أكثر مما هو حقيقة بفعل العمق الساكن، ثم تلك الحركات الأنثوية التي كانت تأتي من وراء الباب الجانبي المغلق والذي لم أفطن لوجوده إلاّ أخيرًا بسبب الرشق الطيني الموحّد له وللحائط..... كل تلك الأصوات لم تكن إلاّ جملاً موسيقية معقّدة في سيمفونية الهمس التي غمرتنا.
أسند الرجل ظهره إلى الحائط فاختفت الهدبة وراء رأسه المحلوق بالموسى، وضرب بكفيه المبسوطتين على ركبتيه بحركة واحدة ثم قال:
- آه ....
تململ صديقي إلى جانبي فعرفت أنه سيدخل في موضوع الماعز الذي لم أكن أعرف عنه شيئًا سوى أنه كما أخبرني قبل ساعات:
- لهو لا تعرف عنه شيئًا حتى الآن.
ولكن الذي تكلم مرّة أخرى كان الرجل:
- لم تزرنا منذ زمن طويل. ولم تقل من هو صديقك.
- الإفلات من المدن صعب، ومشاغلها أكثر من وقت الإنسان، ومع ذلك فقد جئناك كما ترى. وصديقي مثلي من تجّار الماعز.
وقال الرجل وهو يتفحّص ذهولي:
- أهلاً بكما.
شعرت أن بحيرة السكون تزداد عمقًا فوقي وإحساسي بالغربة يبعدني حتى عن صديقي.. تجّار الماعز!!
قال لي ونحن نشرب البيرة في كافتيريا "الملك":
- أعدك بمتعة طريفة قد تكون قريبة إلى قلبك أنت بالذات.
قد يكون بين علم الآثار والماعز صلة غير مباشرة، وهذا السيف رغم أنه لا يتجاوز الزمن إلى أكثر من أواخر العصر التركي إلاّ أنه قد يكون له قيمة أثرية ضئيلة. ولكن المكان ليس موغلاً في البعد عن العالم المتمدّن بحيث يصبح فيه طلبة علم الآثار تجّار ماعز. ثم كيف يكون هذا الأمر قريبًا من قلبي!!
وازددت غربة حينما قال الرجل بشيء من اليأس:
- الناس يزدادون عجبًا في هذه الأيام. لم يعودوا يطيقون الستر أو الحلال أو يفهمون معنى الشرف. وهذه أشياء كما تعرف تبور معها تجارة الماعز. ومع ذلك نحمده.
كان يأسًا صادرًا من القلب كاد ينسيني تلك المعادلة العجيبة التي وردت في آخر كلامه. وفي الحقيقة، أنني حاولت جهدي نسيانها، وعدم التفكير فيها، فقد وصل ذهولي حدّ التطرّف الخطر. ولو كنت أعرف السواقة لهببت إلى السيارة واندفعت بها في القفر على غير هدى حتى ولو وصلت الربع الخالي.
وأخيرًا قال صديقي:
- هل نجد لديك سخلتان لي ولصديقي؟
ومرّة أخرى أسند الرجل ظهره إلى الحائط وضرب بكلتا كفيه على ركبتيه ونظر إليّ بتأمّل شديد وكأنه يتوسّل فيّ إلى قوّة خفيّة وقال مرّة أخرى:
- آه ...
أشفقت على الرجل رغم حالتي النفسية العدجيبة. فقد كان يبدو اليأس والإحباط في كل حركة يقوم بها وكأنه قد فقد للتوّ عالمه بكلّ ما فيه. وحينما وقف على قدميه سقطت عباءته الحائلة اللون عن كتفيه وظهر تحتها رداؤه التقليد، وقد برزت منه رجلاه حتى الركبة. كانت له أعضاء صارمة، توحي بالقوة الجسدية المخبوءة فيها، رغم أنه تجاوز منذ زمن سن الشباب. وحينما زال عن موضعه بدا جلد الماعز تحته متآكلاً في موضع جلوسه المحدد، بحيث لم يتبقّ سوى القليل من الشعر في ذلك الجزء، وكأنه جلس عليه دهرًا لا يتحرك ولا ينحرف أبدًا. وتذكرت هدبة السيف؛ كانت مدلاّة في مكانها تقوم بدوريّتها المعتادة بين الحائط وأذن الرجل، التي زالت الآن. ودون أن تحيد هي الأخرى عن طريقها المحدد شعرة واحدة.
ومشى الرجل إلى أقصى الغرفة من ناحية الباب الجانبي ثم تناول أحد جلود الماعز عن الأرض ودفع الباب بقدمه بحذر فانفتح جزء منه سدّه بجسده.
لم أر ما يحصل في الجانب الآخر ولم أسمع سوى همهمة قصيرة لم تكن كلامًا مما يقال. وبعد لحظة أخرى رأيت جسم الرجل ينحرف جانبًا عن الباب إلى ناحيتنا ثم خبط بيده على شيء لم يكن ظاهرًا بعد وقال بصوت مسموع:
- سك!
وعاد الرجل إلينا تتبعه على أربع معزى تلبس نفس الجلد الذي أخذه عن الأرض. كانت صغير الحجم خفيفة، ربما لم تبلغ العشرين بعد. لها ضفيرتان ولكنهما مليئتان يلمع فيهما السواد بشكل حادّ. وكان جلد الماعز على ظهرها مع وجهها الذي ظل منذ دخلت في موازاة الأرض يستران كل ما فيهما من جمال أو قبح. وشعرت برغبة شديدة في لمسها أو النظر إلى وجهها. ولكنها وقفت في وسط الغرفة على أربع كما دخلت، ولم تقم بحركة واحدة تكشف عمّا كان مستورًا فيها منذ البداية. وحتى جانب وجهها فقد غطّت ساعدها جزءًا كبيرًا منه جعله مبهمًا تمامًا. وبحثت عيناي بشراسة عن منفذ إلى أية نقطة لها علاقة مباشرة بجسدها فلم تعثرا إلاّ على الكف النحيلة الشابة اليت اتخذت مكان الحافر. وحاولت أن أولي نظراتي إلى الاستدارة المفترضة في جانب الصدر إلاّ أن ثوبها كان فضفاضًا عديم الملامح.
وكنت مستسلمًا إلى حالة مريحة من اليقين بخصوص ما يجري، إذ لم يعد لديّ شك في أن مسألة الماعز هي مجرّد مظهر افتعالي يُقصد به التعويض عن غياب الجو المستفز الخليع الذي يشبع في أماكن اللهو الجريئة.
ولقد كان تفكيرًا مبدعًا حقًا ذلك التفكير الذي اهتدى إلى مثل هذه اللعبة التي تحمل كل مجون وطرافة اللهو. وكان تأثيرها عليّ خياليًا حقًا. فقط سيطرت عليّ بهجة حيوانية خرافية وضعت أمام عينيّ كل طقوس الوثنيين وأجساد الجواري وهي تُجسّ في الأسواق، وتحرّك في داخلي حيوان بحجم جسدي ملأني بضغط حارّ إلى درجة الألم. وكنت على وشك أن أقول أو أفعل شيئًا سخيفًا حينما تذكرت كلمات الرجل عن الستر والحلال، فسقطت ثانية في حالة من البرود وعدم الفهم أشدّ مما كنت عليه من قبل.
سوّى الرجل عباءته على كتفيه ثم جلس في مكانه المحدد تمامًا فبدا لي وكأنه لم يقم منه أبدًا، ثم نظر إلى صديقي وقال:
- اشترِ!
وابتسم صديقي وقال وهو ينقل بصره بين الرجل وبيني:
- إنه ضيفنا ولا يصحّ أن أتقدم عليه.
ومرّة أخرى رأيت تلك النظرة المليئة بشعاع الأمل واللهفة المرتقبة في عيني الرجل وهو يحول بصره وحديثه إليّ:
- على بركة الله، اشترِ!
ولم أجد بالطبع ما أقوله أو أفعله، إلاّ أن صديقي ضربني بكوعه، ثم قال لي وهو يغمز بعينه غمزة مفهومة:
- تقدّم، جسّ واشترِ، ثم خذ سخلتك واذهب بها حيث شئت، وسأنتظرك هنا.
وهبّ حيوان الشبق في داخلي دفعة واحدة، إذ لم يعد هناك مجال لأيّ شك، وعادت إليّ تلك البهجة الساخنة بنكهتها الخرافية فوثبت إلى الفتاة وثبًا ثم وضعت يدي على ظهرها فوق جلد الماعز وأخذت أجسّها بقسوة، ولكن أصابعي لم تبلغ ذلك الإحساس الطريّ الدافئ بسبب كثافة الشعر وبلادة الجلد. وكان شوقي إلى اكتشاف الفتاة يوازي شوقي إلى امتلاكها فدفعت بالجلد بعيدًا ثم دفعت بيدي إلى تحت ذقن الفتاة ورفعت بها إلى الأعلى برعونة أجبرتها على رفع جذعها كلّه ثم قلت:
- أرني وجهك أيتها الحلوة.
وكان انفعالي طاغيًا إلى درجة أنني لم أشعر بما حدث حولي من بدايته، وحينما انتبهت كان الرجل واقفًا بدون عباءته وهو يرتجف من الغضب والسيف في يده يلوح به ويصيح:
- خسا يا كلب!
وقفت على قدميّ أنظر إلى الرجل بأناة لأشهد نهاية اللعبة، ولكن الغضب الذي في عينيه كان حقيقيًا، وقد ازداد غضبه كما يبدو مع ازدياد الاستغراب في وجهي فتقدم نحوي بسيفه وهو يصرخ:
- بيني وبينك السيف أو الشرع.
عندها فقط قام صديقي من مكانه وهو يقول:
- بيننا وبينك الشرع!
وصرخ الرجل:
- أبعده عن نظري!
وتقدّم صديقي إليّ وقال وهو يوجّه إليّ نظرة لائمة:
- اذهب إلى السيارة! ألا تعرف كيف تجسّ الماعز!
لم يكن صوتي معني، وبحثت في فمي عن بصقة أضعها في وجهه فلم أجد أثرًا للرطوبة، بل لا أذكر أنني وجدت لساني. أمّا الرجل فقد اندفع خارجًا وهو يلغط بصياح لم أع منه شيئًا.
وصلت السيارة ودخلت إليها لا أذكر كيف، ولكنني مع ذلك لم أنس تأمين إغلاق الأبواب من الداخل ثم جلست أبحث عن نفسي.
كان الحلم ثقيلاً يكاد يُحسّ باليد وملحّاً إلى درجة أنني كنت أعرف أنني أحلم. وكنت أريد أن أستيقظ حالاً ولكنني لم أستطع، خاصة بعد أن بدأت أسمع أصواتًا جديدة تنبت من أمكنة خفيّة في الفضاء الممتدّ حولي. ثم بدات أرى أشباحًا تقترب من الضوء الشاحب أمام باب الغرفة ولا أذكر أنني رأيت بيوتًا أخرى عند حضورنا. كانت الظلمة ما تزال خفيفة بعد، بحيث يمكن رؤية أشباح البيوت عن بعد كبير، ولقد تفحصت المكان جيدًا وقتها فلم يلفت نظري سوى ذلك الخلاء الصحراوي الساجي الذي يملأ النفس بشعور العزلة الشجية، ولكن منطق الأحلام غريب.
وكنت لا أزال مسترسلاً في لعبة الحلم التي اخترعتها لمراوغة الرعب، حينما سمعت نقرًا على زجاج نافذة السيارة، وغمرني خوف حار دفع بالدم إلى منابت الشعر في جسدي، ثم انكمشت في مكاني استعدادًا لما سيأتي.
وازداد النقر حدّة، ثم سمعت صوت صديقي باهتًا وثخينًا من خلف الزجاج. وأنزلت الزجاج قليلاً فجاء الصوت إليّ واضحصا:
- انزل!
وحرّكت لساني داخل فمي فشعرت بألم شديد في عضلاته المتوترة ثم قلت متلعثمًا:
- اصعد، ولنذهب من هنا!
فقال بخبث واضح:
- حسنًا، افتح الباب.
وحرّرت مسمار الأمان في باب السيارة ففتحه ودخل نصف جسده فقط وقال:
- هيا! يكفي ما أثرت من مشاكل حتى الآن! هل يتكلم أحد مع الماعز؟
لم أجد شيئًا أفعله، فقد كنت أعزل إلاّ من قبضتي ولذلك قلت بحقد لم أعهده في نفسي:
- سأقتلك!
فقال ببرود لئيم:
- دعني أخلصك من ورطتك أولاً.
- الورطة التي حملتني إليها مسافة عشرين كيلومترًا!؟
- لا وقت لهذا الآن. قم ولا تفسد ليلتنا!
قلت بإخلاص:
- إن كراهيتي لك الآن هي كراهية عمياء فلماذا تريد أن تزيدها عمىً؟
فقال بنفاذ صبر:
- اكرهني كما تشاء! ولكن قم معي الآن، وستفهم كل شيء في أوانه.
وبلغ غيظي درجة الجنون.
- أفهم! ولكن كيف كنت سأفهم لو ذبحني بذلك السيف؟
- لم يكن ليذبحك، فلا تعقّد الأمور!
- لا تقل إنه كان يمثل! لقد رأيت القتل في عينيه.
- لا. لا. ولكنه أيضًا لم يكن ليمسّك بسوء قبل حكم الشرع؟
وقلت بسخرية:
- أيّ شرع! شرع الماعز؟
- بل شرع الشرف.
وكدت أجنّ:
- يبيع بناته لمن يرغب ويحكّم الشرف!!
فقال بصبر يكاد ينفد:
- إنه لا يبيع بناته. إنه يبيع الماعز فقط. ألم تفهم حتى الآن؟
وفهمت فعلاً. وطأطأت رأسي بينما امتدّت يد صديقي إلى كتفي:
- الأمر أسهل مما تظن، ومع ذلك فلا بدّ أن تفعل ما أقوله لك. هيّا!
خرجنا من السيارة، وقبل أن نخطو في اتجاه الباب قال صديقي:
- ضع هذا في عنقك. لا تجادل!
كان عقال الرجل بالطبع، وكانت تفوح منه رائحة غريبة، وحينما وضعته حول رقبتي أحسست بوخزات صغيرة مؤلمة فقلت بمرارة:
- أهو من شعر الماعز أيضًا؟
- لا بدّ!
وقبل أن نصل إلى الباب توقفت لأسأل:
- ماذا سيفهم علماء الآثار من كلمة ماعز في المستقبل، وهل سيعرفون لماذا كانت تستعمل جلود الماعز؟
- أدخل! ولا تقل شيئًا. دع ذلك لي!
كان في الغرفة ثلاثة رجال آخرين غير مضيفنا، وكانوا جميعًا يجلسون في صدر الغرفة قبالة الباب ملتفّين بعباءاتهم وصمتهم وقد اصطنعوا جميعًا تعبيرًا موحّدًا من الجدّ والصرامة ممّا أكسبهم هيبة كهنوتية حقيقية.
مسّ صديقي كتفي، فتوقفت في منتصف المسافة بين الباب وبينهم. وخيّل إليّ أن الصمت قد طال كثيرًا قبل أن يقول الرجل الجالس إلى يمين مضيفنا:
- من غريمك!
فقال المضيف:
- أسود الوجه، عديم المروءة، فعله في رقبته.
- ماذا فعل؟
- كشف ستري وأرادني بغير الحلال.
- خسا!
- خسا!
- خسا!
- ماذا تقول يا عديم المروءة؟
أردت أن أضحك وليكن ما يكون، ولكن صديقي أسرع يقول:
- يقول إنه ينزل على حكم الشريعة.
فقال الرجل بعد فترة من الصمت وافتعال التفكير:
- الشرف لا يوزن براحة اليد، ولا يُكال بالصاع ولا يُقاس بالفتر. والعار لا يمحوه إلاّ الدم، قم إليه بسيفك وخذ منه حقك.
وقام الرجل إليّ بسيفه كمن يقوم إلى دجاجة، ويبدو أن صديقي قد أحسّ بتشنّج جسدي وتسارع أنفاسي فشدّ على ساعدي مطمئنًا. وتقدم الرجل فطمأنتني ملامحه المسترخية ولكنني كدت أطير من الهلع حينما وضع حدّ السيف البارد على رقبتي.
- هل أنت على وضوء؟
فقال الرجل:
- نعم. أصلّي المغرب والعشاء بوضوء واحد.
- أذكر اسم الله!
- قف!
كان الذي تكلم واحد من الرجال الثلاثة غير الأول:
- أتبيعني رقبته؟
فقال غريمي:
- أنت عزيز، ولكن الشرف أعزّ منك.
فقال الرجل:
- ألله أعزّ. وهو غفور رحيم.
- غلبتني. اشترِ.
- رقبته عليّ بعشرة دنانير، وأنت كريم.
ضغط الرجل السيف على رقبتي فالتوت ركبتاي وقال:
- ألله أكرم!
وقال الرجل الثالث لأول مرّة:
- عليّ بعشرين، وأنت كريم.
وزاد الضغط على رقبتي:
- ألله أكرم!
ومرّت فترة أحسستها ساعة كاملة، ثم قال الرجل الأول من بين الثلاثة:
- عليّ بخمسين ولا أزيد.
ارتخى الضغط على رقبتي ثم قال غريمي وهو يبعد السيف:
- لم أبعك سوى رقبة كلب وهي عليّ رخيصة.
وقال الذي اشتراني:
- لا أشتريه إلاّ مع العفو والمسامحة.
فقال الذي باعني:
- ثمنه مع العفو أغلى!
فقال الأول:
- أشتري منك المسامحة بعشرة دنانير أخرى!
- بعت! وقد أرخصت لك فيه فما بعتك إلاّ سيد الرجل.
- سامحه إذن.
امتدّت يد غريمي تنزع العقال من رقبتي ثم قبّل رأسي وقال:
- برئت ذمّتك.
وهبّ الرجال الثلاثة وقوفًا، فقال صديقي بينما هم يسوّون عباءاتهم:
- لقد اشتريتم رجلاً يصلح لغواية النساء ولا يصلح للخدمة فهل تبيعوني إيّاه؟
فقال الذي اشتراني مبتسمًا:
- يرعى الماعز بعيدًا عن البيوت.
فقال صديقي مبتسمًا هو الآخر:
- ليس له أمان كما رأيتم.
- كم تدفع فيه؟ لقد رأيت بنفسك.
- خمسة وسبعون دينارًا، ولا أزيد.
فقال أحد الرجال:
- تزيد قليلاً.
فقال صديقي:
- خذوه!
فقال الرجل الأول ضاحكًا:
- لقد تغيرت. ادفع ولننتهِ، فلديّ ضيوف أنا الآخر.
ودفع صديقي المبلغ وخرج الرجال الثلاثة يتبعهم المضيف بعد أن أعاد السيف إلى غمده وعلّقه في مكانه. وحينما ابتلعتهم العتمة قلت بعجلة المتلهّف:
- من أين جاء هؤلاء الشياطين؟
وقال صديقي ضاحكًا:
- من الليل. هذا البيت هو المقرّ الدائم فقط.
- ولكنني لم أر أحدًا حينما أتيت.
- لقد جاءوا بعدنا.