الخمرة وطن
يُقبِلُ في الموجةِ، يرحلُ في الموجةِ، وَجهُك بيتانِ مِن الشِّعرِ على ساحلِ حيفا:
لونُ عينيكِ نَخيلْ لونُ عينيكِ بَيادرْ1
لونُ عينيكِ رَحيلْ وطني فيهِ مُسافرْ
آهِ أخي النخلةُ، آهِ أخي البيدرُ آهِ أخي حيفا!
يخترعونَ الحُبَّ لأجْلِ الوطنِ، لماذا نخترعُ الوطنَ لأجْلِ الحُبّ!
مَنْ قالَ بأنّ الكرملَ يرفضُ غاصِبَهُ مِن أجل عجائزَ ملتحياتٍ يتغوَّطنَ على أسوارِ القدسِ حضارةَ حرْباواتِ الصحراءْ!
هلْ وطنٌ ينبتُ فيهِ الزيتونُ يَقيءُ الوحشَ لِترْتعَ فيهِ الفئرانُ ودودُ الأرضْ؟!
لونُ عينيها رجالْ
يلبَسون الفَرْوَ في الصّيفِ، تعالْ
نشربُ الأشعارَ في القدسِ القديمة
أنتَ لا تحزنُ فالموتى ظِلالْ
أنتَ لا تأكلُ والقدسُ وليمة
وأنا منذُ تلاقينا فِراقْ
لمْ أجدْ حزني إلى الآنَ فأعلنتُ النّضالْ
وكتبتُ الشعرَ كالناسِ وصالحتُ الهزيمَة.
لونُ عينيها – كما قلتَ - نخيلْ
لا تُرى الصّحراءُ في المُستشفياتْ
إنما...
لونُ عينيها رَحيلْ!!!
(والقدسُ أحفَلُ مُدنِ الله بالمقاهي، وتلكَ أحفلُ أماكنِ العبادةِ بالناسِ. دعاني صديقي الشيخُ الجليلُ مُحمد عبد السّلام - إمامُ الجامعِ الأحمرِ - الى إحداها قُبيلَ صلاةِ الظهرِ فوجدتُ فيها أنماطًا منَ الناسِ ينتسبونَ إلى خمسةِ أجيالٍ أوْ أكثرْ. كلّهمْ في غيابٍ متصلٍ عنِ العالمِ لا يكادُ الواحدُ منهمْ يحسُّ حضورًا لشيءٍ حولَه.
قلت: إيش هذا؟
قالَ: إنّ السّلطانَ هنا يؤاخِذُ على الغيبةِ والنميمةِ فينصرفُ الناسُ إلى حالاتٍ مِنَ الوجْدِ هَداهُمْ إليها بعضُ المُفتَّنينَ يتلهّوْنَ بها عنِ الخوضِ فيما يُغضبُ السّلطانَ.
ولفتَ نظري جماعةٌ يعالجُ الواحدُ منهمْ آلةً غريبةً كأنّها العجوزُ الشمطاءُ، نصفُها الأسفلُ زجاجٌ فيهِ سائلٌ لمْ أدرِ ما هوَ، ونصفُها الأعلى نحيلٌ مصنوعٌ منْ معدنٍ أو خشبٍ ينتهي برأسٍ مستديرٍ فيهِ جمَراتٌ، ويمتدُّ في وسَطِها أنبوبٌ غايةٌ في الطولِ مصنوعٌ منْ مادّة لينةٍ لا أدري ما هيَ إلى اليومِ، طرفهُ متّصلٌ بفمِ الواحدِ منَ الجماعةِ، يتحدّثُ فيهِ بشيءٍ أو ماذا... فيهيجُ السائلُ الذي في الزجاجةِ – وقدْ ظننتهُ الزّئبقُ أوّلَ الأمرِ – فيأتي برقصٍ وعزفٍ عجيبٍ يَطربُ لهُ السّامعُ ولوْ كانَ حَروريًا، ثمّ يفثأ الرجلُ فاهُ فيتصاعدُ منهُ الدّخانُ.
قلتُ: وما هذا العجبُ!
قالَ الشيخُ الفاضلُ: هذا يدعونهُ النّارجيلة، وما فيهِ هوَ الماءُ.
وخطرَ ببالي أنَّ لليهودِ في كُنُسِهمْ رقصٌ ونفخٌ وللنصارَى في كنائسِهمْ عزفٌ جميلٌ فلماذا لا تكونُ هذهِ الآلةُ في المساجدِ فيكونُ لنا مثلُ أولئِكْ! وَأسْرَرْتُ في خاطري أنَّ أعرضَ الأمرَ على السّلطانِ إذا وقفتُ بينَ يديهِ، ثمّ بدا لي أنَّ الأمرَ لا يصحّ فالعزفُ لا يستقيمُ معهُ ذِكرٌ ولا حديثٌ وقدْ أغنانا اللهُ عنْ ذلكَ كلِّهِ بحلاوةِ الترتيلِ.
وما نشعرُ – الشيخُ وأنا – إلاّ ووقتُ الظهرِ قدْ أظلّنا، فقالَ الشيخُ: قمْ بِنا!
قلتُ: وما لهؤلاءِ لا يقومونَ؟
قالَ: قمْ! لا حاجةَ للهِ بهمْ، وَسَترَى.
ووصلنا المسجدَ فامتلكني منَ السّرورِ وَالانبهارِ ما لا مَزيدَ عليهِ، فقدْ كانَ في المسجدِ أضعافُ أضعافِ مَنْ كانَ هُناكَ، ورأيتُ أطفالاً دونَ العاشرةِ يُقبلونَ على الصّفِّ بوجوهٍ تشرقُ بنورِ الإيمانِ فتكادُ تضيءُ لوْلا ما يُخالطُها مِنَ الخشوعِ، فحمدْتُ اللهَ، وقلتُ للشيخِ: لقدْ صدقتَ! ما أكثرَ جُندَ اللهِ!
قالَ: غيرَ منْ رحلَ.
قلتُ: وهلْ معَ كلِّ هؤلاءِ رحيلٌ!
قال: لكلِّ شيءٍ أوانٌ، وهذا أوانُ الصّلاةِ.
قلتُ: أنتَ مُباركٌ!)
لونُ عينيْكَ الرّحيلْ!
لونُ عينيْها الهزيمَة
والذي ظلَّ منَ الإنسانِ في عَكّا القديمَة
وصلاةُ الظهرِ والمقهَى
وأطفالٌ صغارْ
يَعِدونَ اللهَ باللّحيةِ إنْ صاروا كِبارْ
وَرجالْ
منعوا اللهَ عنِ الحُبِّ وجبهاتِ القتالْ
لونُ عينيْها المُحالْ
لونُ عينيْها المُحالْ.
1 من قصيدة القدس في عينين لراشد حسين