القتل والموسيقى
"إلى طه محمد علي"
قالوا: الحزن؟ قلت الثلج والنار.
قالوا: الأهل؟ قلت اللي ضاعوا زغار.
قالوا: الغريب بتعرفُه دارُه؟
لا تسألوا، ضاعت حجار الدّار.
عند زاوية المقبرة توقّف. واستطاعت أشعة الشمس بانعكاساتها العفوية عليه وعلى جملة من الأشياء الأخرى حوله أن تربطه بالأرض بشكل بارع، فبدا وكأنه جزء منها يرتبط معها بأواصر اللون والسكون والتناسق. ورغم حركاته الصغير المتعاقبة لم يبد أن في الأمر خدعة، فملابسه باهتة أقلم الغبار صلتها بالتراب، ومن أعلى الساق وحتى القدمين الحافيتين كانت البشرة العادية المغبرّة تميل إلى اللون البني بتعمّد لتلائم حافة المقبرة المرتفعة عن مستوى الطريق بما يوازي الركبتين والتي كانت تكشف عن حقيقة مفاجئة وهي أن لون التربة باطنًا كان يخالف لون قشرتها. أمّا الوجه وما يليه من شعر خروبي – في حقيقته – فقد تكفّلت أشعة الشمس – وبشكل خاص – أن تمزجه مع نصيبة القبر الذي أوشك أن يلتهم الطريق أو تلتهمه.
عند زاوية المقبرة توقّف. فهنا يبدأ الانحدار نحو البقعة المظلمة المحدبة كـ...
إنه لا يعرف شيئًا يشبهها، ربّما البيدر في الليل.
هنا يبدأ الانحدار وعليه أن يقرّر الآن، الاستمرار أو العودة.
الاستمرار... معناه القرش والغولة. أمّا العودة فمعناها: "... خوّيف".
لن ينجيه شيء من لسان "عباس" عندما يصله الخبر بشكل ما،
وبعد "عباس" يبدأ الجميع:
- خوّيف.
وأحسّ في صدره بذلك الشيء الذي كان يجعله يتمنى الاختفاء في كلّ مرّة يحسّه بها، الاختفاء بأية طريقة: التلاشي، النوم، الموت وحتى الوقع في بئر.
وحتى لو نجا من "عباس" والأولاد، فكيف ينجو من "أنور"! هل سيظلّ يهرب من وجهه إلى الأبدّ
"إخص! ضبع حتى في النهار!"
وتحرّك فجأة جزء من الأرض انفصل عن حافة المقبر وبدأ الانحدار.
. . . إن "أنور" يعرف أنه لا يمكن أن يكون خوّيفًا فهو ابن "الفهد" ولذلك اختراه دون الجميع، فابن السبع سبع، والذي قاتل جيش الإنكليز لوحده لا يمكن أن يخاف ابنه من الذهاب إلى أي مكان حتى ولو قالوا إن الغولة تظهر في بالليل... الذي لا يخاف الإنكليز لا يخاف ابنه الغولة... هرب كل الثوار وأبوه لم يهرب، ظلّ يقاتل ويقتل حتى قُتل، فهل يهرب هو الآن! لا... ابن السبع لا يخاف... كم مرّة قالتها أمّه! وكم مرّة قالها هو للأولاد!
ولكن لماذا أنت خائف؟ إخص يا "عيد"!
الدنيا عزّ الظهر، والغولة لا تطلع في النهار.
ورفع جبينه كأنه يتحدّى، فاختلج الضوء في حبات العرق ولمعت أطراف الشعر المبتلّ.
إخص يا "عيد"! لو تعرف أمّك؟؟
لست خائفًا! سأحضر "الموس" وآخذ القرش وسأريها إيّاه!
وأخذ يركض، ولكنه عاد فأبطأ فجأة وكأنه يريد أن يتوقف. لقد أحسّ مرّة أخرى بذلك الشعور الذي يجعله يودّ الاختفاء.
حمار! كيف لم يتذكر ذلك الآن؟ كيف نسي؟ ألم تجعله يتمنى الموت حقًا يوم أخذ القرش من ذلك الرجل!
حمار.. بغل.. تيس..
كيف نسي ذلك؟
كان "أبو موسى" هو السبب. كان يلعب عند البيدر، ولفت نظره حذاء الرجل، كان حذاءً غريبًا مربوطًا على رجليه بأربطة متصالبة من الجلد تمتدّ حتى الركبة، ووقف ينظر إلى حذاء الرجل من بعيد وعندما اقترب منه مع "أبو موسى" لاحظ أيضًا أن الرجل كان طويلاً جدًا ونحيلاً جدًا وأسمر جدًا كالفحمة.
وكان يستدير ليذهب عندما ناداه "أبو موسى":
- "عيد"! تعال!
وعندما وصل إليهما أمسك "أبو موسى" بيد الرجل وقال بتحدّ:
- إحزر ابن مين!
ونظر إليه الغريب، وكانت له عينان كالنار. هزّ رأسه عاجزًا فضحك "أبو موسى"، ولكن الغريب انتفض فجأة وقال بصوت عالٍ ومتهدّج:
- ابن "الفهد"!؟
وصاح "أبو موسى":
- عربي! بخافش عليك. يوم ما استشهد أبوه كان ابن شهرين.
وركع الرجل الغريب أمامه ليصبح وجهاهما في مستوىً واحد، ورأى كيف أن العينين زادتا التماعًا وخيّل إليه أنهما مبتلّتان، وظلّ الرجل يضغط كتفيه بيديه المعرورقتين ويردّد بهمس:
- ابن "الفهد"! ابن "الفهد"! ابن السبع!
إلى أن بدأ هو يشعر بالضيق، ثم صمت الرجل قليلاً وقف بعدها ومدّ يده إلى جيبه وأخرج قطعة النقود.
وأراد أن يهرب، ولكن الغريب لم يتركه وقال بصوت متوسل:
- أنا عمّك! بوك كان خوي.
واستغرب أخوّته لأبيه وأصرّ على الرفض ولكن "أبو موسى" قال مشجّعًا:
- هذا صاحب أبوك يا "عيد". بهمّش!
ومع ذلك فلم يشأ أن يأخذ القرش، ولكنه كان يريد الخلاص فتناوله ومضى هاربًا.
ولم تغضب أمّه فقط، لكنها بكت حتى أبكته معها:
- بيّنت علينا اليتم يا "عيد"!
وها هو يعود إلى ذلك مرّة أخرى.
- محروم يا "عيد"!
لا. كثيرون غيره لم يعرفوا القرش، عرفوا الملاليم والتعاريف فقط، أمّا هو فقد عرف القروش أكثر من مرّة.
- من شانك خدمت اللي كانوا يخدموني يا "عيد"!
والآن!! سيعود. نعم! إنه لا يريد ملء الدار قروشًا وتبكي أمّه.
وبدأت القدمان الحافيتان تصعدان المنحدر من جديد، وكان الوجه الأسمر الآن قبالة الشمس، ضربته الأشعة على الجبهة وأرنبة الأنف فغاصت تعابيره الحائرة واكتسب جمود وصلابة التمثال.
وعند الخطوة الثالثة توقّف.
- خوّيف!
- محروم يا "عيد"!
- خوّيف!
- بيّنت علينا اليتم يا "عيد"!
وتقلصت ملامحه، وخاصة الشفتان، شكل واضح.
وتريد أن تبكي أيضًا؟! ماذا حدث لك يا "عيد"! أحضر الموس لأنور ولكن لا تأخذ القرش.
وانبسطت الملامح وازداد لمعان الأشعة على الجبهة وأرنبة الأنف، وتحركت القدمان مرّة أخرى باتجاه البقعة المظلمة التي أخذت تخضرّ رويدًا رويدًا...
... إنه لا يخاف التينة.. إنه يخاف المغارة فقط.
ولكن لماذا يخاف أياً منهما؟ ثم إنه لن يدخل المغارة...
- عند الشرش. قبال باب المغارة تمام. حتمًا نسيته هناك.
عليه فقط أن يخطف "الموس" ويطير، وسيعطيها لـ"أنور" ويطير أيضًا، لا.. سيقول له إنه لا يريد القرش وإنه أحضر له "الموس" حتى لا يتهمه بالخوف كما ادعى في حينه:
- خايف تروح! أبوك "الفهد" يا عيبك.
- أنا مش خايف! بسّ بعيد.
وضحك "أنور"!
- بعيد، هاه؟ شاطر بالحجج!
ولم يعد هناك مجال للخلاص.
ووصل التينة... قبّة عظيمة من الأوراق الخضراء تتشبّث بالأرض ليس فقط بجذورها وإنما بأوراقها أيضًا. وفي الحقيقة فإن جذورها بالنسبة لمن يقف خارجها هي فقط مجرّد استنتاج بديهي، فهي كالمغارة وكالغولة مخبوءة في ذلك الحضن المخيف من الأوراق الشبيهة بأيدي الآدمين.
وأحسّ ببرودة عرقه، ورغمًا عنه التفت خلفه نحو أعلى المنحدر... كم هي بعيدة حقًا! وعندما عاد ببصره إلى التينة خُيّل إليه أنه لمح جسمًا يتحرك عند حافة المقبرة ثم يختفي بسرعة.
"أنور"!! وعاد الدفء إلى وجنتيه... لقد تبعه ليرى فيما إذا كان خائفًا.. حسنًا.. إنه ليس خائفًا على الإطلاق. ومرق بسرعة بين أغصان التينة وألقى بنفسه في حضنها المخيف.
النائحة:
وقفنا أنا والدرب حتى اعاتبه
قاللي "عن المكتوب إسأل كاتبه"
كنا أنا ويّاه غريبين التقوا
وضعنا، ما بدري مين ضيّع صاحبه.
هل هذا هو الخوف!إنه لم يعد يشعر بجسمه.. إنه الآن بدون يدين أو قدمين.. بدون رأس أيضًا. فقط يشعر بأن له عينين لا غير.
نعم! لا بدّ أن له عينين، إنه يرى بوضوح متزايد كلّ شيء.
الغولة تستطيع أن تتشكل بكلّ الأشكال، فهي تستطيع أن تكون "صفيّة" زوجة "عيّاش" ولكن من هو "حسين"؟ هل هو غولة أخرى؟
إنه لا يزال بدون رأس أو يدين أو قدمين ولكنه مع ذلك لا يزال يرى... "صفيّة" لم تقم بعد من مكانها، بل حتى لم تتحرك حركة واحدة... ساقاها ما زالتا منفرجتين حتى النهاية وعاريتين أيضًا حتى النهاية، وجهها فقط هو الذي تحرّك.. بل تغيّر، إنها الآن ليست "صفية".. إنها الغولة.
و"حسين" أيضًا لم يتحرّك منذ أن وثب عنها، تحجّرت حتى نظراته.
وأحسّ بقديمه تعودان إلى الظهور... لماذا لم يعرف ذلك منذ البداية، إنها الغولة وقد صرعها "حسين"... إنه بطل!
وعادت يداه إلى مكانهما أيضًا.
لقد رأى "حسين" بعينيه جاثمًا عليها... ولكن لماذا تركها عندما جاء هو؟ لماذا لا يكمل عليها!
- شو و و . . .
وامتلأت الغرغرة الجافة طويلاً ثم توقفت، وسمعه يتنحنح:
- شو جاي تعمل هون!
عجيب! إنه ينبح كلاكلاب، إنه ليس "حسين" بل هو غولة أخرى!
وعادت قدماه إلى الاختفاء من جديد.
- آ آ آه.. آ آفضيحتي!
وكانت الغولة هي التي تكلمت هذه المرّة. إنها لم تستر ساقيها. ولكنها انقلبت على جنبها وخ\غكّت وجهها بيديها.
- آ آ آه.. دخيل ألله!
مالها! إن "حسين" لم يعد يضربها، وهي تصرخ كأنه يفعل.
- شو جابك!!
مرّة أخرى الصوت الممطوط المتحشرج كنباح الكلاب. ولم يكن السؤال موجّهًا إليه، فـ "حسين" كان ينظر بعيدًا عنه إلى جهة غير معلومة تحجبها أوراق التينة، ثم ما لبث أن رآه هو الآخر يغطي وجهه بيديه.
وبدأت الغولة تزحف نحوه، وتمامًا كما توقّع، على يديها وركبتيها، وأحسّ للحظة بأنه لم يعد يرى أيضًا.
وعندما أفاق كانت الغولة عند قدميه، كان وجهها مخيفًا أكثر من قبل.. أزرق يحيط به شعر منفوش ومن العيني يسيل ماء لا ينقطع.
- دخلك يا "عيد"!
وبدأ يتعجّب.
- دخيل ألله! ببوس إجرك!
وعندما أحسّ بشفتيها الملتهبتين سرت في جسده آلاف من الإبر الحامية والباردة.
ماذا تريد منه أن يفعل؟
- قلت لك الفضيحة يا "حسين"، قلت المكتوب.. آ آ آه يا وعدي!
إنه يعي ولا يعي... طرق ثخين على موضع الرأس من جسده الذي كان يختفي ويظهر ثم يختفي ويظهر.
وأحسّ فجأة أنه يريد أن يبكي ولكنه لم يعرف كيف يفعل ذلك. أراد أن يقول: دخلك يا عمّي "حسين"، دخلك يا غولة! ولكنه أيضًا لم يستطع أن يجد فمه أو حلقه.
وعاد العواء الممطوط.
- منين جيتلي يا ابن الحرام؟
آه.. إنه غاضب منه وسيطعمه للغولة. وفتّش مرّة أخرى عن أداة الكلام في جسمه فلم يجدها.
وفجأة حدث شيء.. اختلجت أغصان التينة اختلاجة سريعة وعنيفة، وصدر عنها صوت كالرعد فسقط في بئر عميقة وظلّ يهوي إلى أن انتشلته يد "أنور".
- لقيته؟؟
ولكنه لم ينتظر ليسمع الجواب فقد أدار بصره وهتف بصوت غريب:
- يا حلو! العرس بحاله!!؟ كيف حالك يا عروس!
أين هي العروس؟ وأحسّ بأنه لم يعد خائفًا بعد ظهور "أنور".
- آ آ آ آ آه ...
وظلت كما كانت كالكومة عند قدميه.
- عاشت الصحبة والأصحاب! الحلو للحلو والرّدي لا عاش؟
- آ آ آآ ...
- طلبنا ودّ الحلو تاري للحلو خلاّن!
كان "أنور" يتكلم بصورة غريبة وكأنه يعاكس.
- طلعنا وراك تلول ونزلنا وديان لكن قليل الحظ خايب!
تتهنّوا يا جماعة! يالله يا "عيد".
وفوجئ عندما نجح أن يجد صوته.
- الموس!!؟
- الموس!؟ آه.. لقيتوا هالموس يا جماعة؟
وتحركت الغولة ورفعت رأسها وقالت بصوت واضح هذه المرّة:
- "أنور"! اللي بحبّ ما بيخون.. وأنت قلت بتحبّني.
- العلم عنده يا "صفية"، لكن أنت بدّك اللي يستاهلك.
- أنت ع الراس يا "أنور".
- ياما أوصيت وياما حكيت، لكن أنت مش هون.
- غلطة يا "أنور".
- "حسين" رايه غير! قاللي مرّة: الحلو للحلو والرّدي لا عاش.
وتكلم "حسين" لأول مرّة، وبصعوبة في بادئ الأمر:
- "أنور"! إحنا خوان. والعرض يا "أنور".. العرض! "عياش" زلامه كثار وبخافش ألله، وأنا مثلك ماليش حدا. و"صفية" بتموت يا "أنور".
إذن فهي "صفية" حقًا.
وقال "أنور":
- وأنا مالي يا خي!
وقال "حين" بصوت منخفض:
- أنا عارف! أنت بعثت "عيد" تتفضحنا.
- "عيد" بعثته يفتّش ع الموس. كنت هون امبارح وسقط منّي.
وقال "حسين" بدون احتجاج:
- أنت زعلت منّي ع الحكي اللي صار بينّا.
أنا غلطان يا "أنور"، هات أبوس إيدك.
وقال "أنور" وهو يتراجع:
- شو بدّك منّي بسّ!
- أستر يا "أنور".
- لو كنت فضّاح حكيت من زمان! ما أنا عارف زيّ ما بتعرف.
- لو قلت أنت بيقولوا إشاعة! و"عياش" إيده طويلة، لكن "عيد" ولد، ما بيقول إلاّ اللي شافه.
ثم أضاف بصوت ذليل:
- أنت شاطر يا "أنور".
وضحك "أنور" وقال وهو ينظر إلى "صفية" وكأنه يوجّه إليها الكلام:
- لو كنت شاطر ما أخذت صيدتي.
وهتفت "صفية" وكأنها تستنكر كلامه:
- صيدتك إلك يا "أنور". أنا خدّامتك في كل وقت.
واختنق صوت "أنور" وهو يقول:
- العفو يا "صفية"!
- أنت عندي مثل "حسين" وزيادرة.
وردّ "أنور" للمرّة الثانية بصوت متحشرج:
- تعيشي يا "صفية".
وركع إلى جانبها ووضع يده تحت ذقنها وقال:
- ماليش عنّك صبر يا "صفية"!
- أمرك يا "أنور".
وقامت مستندة إلى ذراع "أنور". وعندما وقفت على قدميها اهتزّ جسدها وكادت تسقط فأمسك "أنور" بخصرها وجذبها نحو المغارة.
ماذا تفعل "صفيى" هنا! ولماذا دخلت المغارة مع "أنور"؟ والموس!!
ونظر إلى الأرض عند جذع التينة مقابل باب المغارة تمامًا.. ولم يكن هناك شيء سوى أثر "صفية" وهي مستلقية على ظهرها وساقاها منفرجتان حتى النهاية...
هل هو ذلك الشيء! لا يدري بالضبط ما هو، ولكنه يذكر أنه سمع مرّة عن شيء كهذا من الأولاد... ولكنهم قالوا إن المرأة وزوجها يفعلان ذلك، و"حسين" ليس زوج "صفية" وكذلك "أنور" ليس زوجها.. إن زوجها هو "عياش".
- شو قالّك "أنور" لما بعثك هون؟
ونظر إلى "حسين". كانت عيناه تمتدّان إليه كمخلبين من النار، وعرف أن "حسين" يوشك أن يبتلعه، وأحسّ بالرعب مرّة أخرى ولم ينجح أن يقول أكثر من كلمة واحدة:
- الموس!!
وأراد "حسين" أن يقول شيئًا ما ولكنه صمت وأدار وجهه بعيدًا عنه، وأحسّ برغبة شديدة في الذهاب ولكنه قرّر أن ينتظر "أنور".
وظهرت "صفية" أولاً، ثم تبعها "أنور".
وقال "أنور" بسرعة:
- خلي "صفية" تروح بالأول.
ونظر إليه "حسين" نظرة طويله باسمة وكأنه يهزأ به، ثم قال:
- على مهلك يا شاطر. عقدت عقدة، حلّها.
ونظر إليه "أنور" باستفهام.. فقال "حسين" بنفس اللهجة والنظرة والابتسامة:
- المأذون اللي جبته معك!
وأومأ برأسه إلى "عيد".
- عيد ؟
- عيد !؟
عيد؟ أنا !؟
النائحة:
يا "عيد" رجع العيد، عنّك ما سأل
باس الولاد ولملم الكعك ورحل
وقفت أسأله بدمعي، جاوبني بدمعته
قاللي اندبي ع اللي انقتل واللي قتل!
ونظرت إليهم "صفية" ببلاهة، ثم بفهم، ثم برعب:
- آ آخ يا فضيحتي!
وقال "أنور":
- "عيد"! أوعى...
قال "حسين" ساخرًا:
- بدري! بعد ما تموت بتعاتبه.
وأخذت "صفية" ترتجف بكل جسدها، وسمع أسنانها تطقطق..
- خذوني من هون.. أموت بالبلطة يا ناس! آ آ آ ...
وصرخ "حسين":
- اسكتي!!
وكان يرتجف هو الآخر، والعرق يسيل على وجنتيه:
- "أنور" ... بسّ طريقة واحدة.
ولاحظ أيضًا أن شفتيه لم تكونا تسيطران على الكلمات، وأنهما تتلوّيان بدون لزوم:
وأجاب"أنور" بدون وعي:
- شو؟
- "عيد" ولد! ما بعرف إلاّ يقول.
وصاحت "صفية":
- آ آ آ ...
وقال "أنور" من بين أسنانه:
- وقعت مثل الحمار.
وأعاد "حسين" بصوت لا يكاد يُفهم:
- بسّ ... بسّ طريقة واحدة.
- نهرب؟!
- نهرب؟! نهرب وين!؟
- شو الحل؟
وصمت "حسين" قليلاً قبل أن يجيب:
- "عيد" لازم ما يقولش!
وامتدّت يده إلى جبينه تمسح العرق، ثم أضاف:
- لازم.. لازم يسكت على طول.
وانتفض "أنور" كأنما لسعه شيء.
- مجنون!
وفهمت "صفية":
- "عيد"! لا.. لا.. لا.
وصرخ "حسين" بغضب مجنون:
- إخرسي! ما بعد إلاّ تجمعي الناس بصياحك!
وقال "أنور" بتحدّ:
- لا.
وقال "حسين" متحدّيًا هو الآخر:
- لا؟ لا! مثلي مثلك.
ثم أضاف بعد فترة صمت:
- تعال أقولك!
وجذب "أنور" جذبًا إلى الناحية البعيدة خلف جذع التينة.. وسمع "حسين" يهمس بتواصل. وأحسّ بأنه يجب أن يذهب الآن. وتحرّك من مكانه للمرّة الأولى منذ أن جاء. ولكنه قبل أن يستدير فطن وقال:
- عمّي "أنور"! بدّيش القرش.
واستدار ليذهب.
وصاح "حسين":
- "عيد"! استنّى!
وهمست "صفية" خلفه:
- روح يا "عيد" روح.. استعجل!
ولكنه قبل أن ينفد من بين أوراق التينة تناولته يد "حسين" وأعادته إلى مكانه. وأحسّ بالغضب وصرخ في وجهه:
- فلّت! بدّيش القرش. إمّي بتزعل.
وصرخ "أنور" بغضب:
- أتركه!
ماذا يريد منه "حسين"؟
- "أنور" خلّيك زلمة.
- قلت اتركه!
- بتموت وبتنقبر بدون راس!
- قلت .. قلت ..
ولم يكمل "أنور" كلامه، وضع يديه على وجهه وأخذ ينتحب بكلّ جسده كالأولاد.
وصرخت "صفية":
- فلّته! هسّه بصيح وبجمع الناس!
وقال حسين من بين أسنانه:
- بسكّتك بنفس الطريقة!
وصاحت مرّة أخرى، وضربها "حسين" برجله في بطنها دون أن يفلته.
وصرخ هو بخوف هذه المرّة:
- فلّتني!
ولكنه ظل متشبّثًا بذراعه، ونظر إلى "أنور" وهو يقول بهدوء:
- آخر مرّة! شو قلت؟ أفلته؟
ولم يجب "أنور". كان قد كف الآن عن النحيب ولكنه ظلّ مغطيًا وجهه بيديه.
وقال "حسين":
- يا الله، إيدي وإيدك!
ولم يتحرك "أور" من مكانه فعاد "حسين" يقول:
- إيدي وإيدك! على الأقلّ فوت معي. وأنت يا عاهرة!
وقالت "صفية" وهي تزحف على مؤخرتها إلى الخلف وتعوي بكلام غير مفهوم:
- لا... يا... يا... يا
ونظر إليها "حسين" وقال:
- طيب! أوعي تتنفسي! واعرفي أنك شريكة حتى لو ما اشتغلتيش.
ثم أضاف بصوت مرتجف:
- يا الله يا "أنور".. إجمد.. إجمد!
وأحسّ "عيد" بقبضة "حسين"تشتدّ حول دراعه، ولدهشته الشديدة أخذ "حسين" يجرّه نحو باب المغارة.