مقدمة ديوان قناديل - الشاعر أحمد حسين
الشعار هو محاولة اقتراب نثرية من الشعْر، محاولة لشحن الكلمات بطاقات غير عادية، واستغلال إيقاعية الفكر واللغة في خلق نصٍّ مؤثِّر. ومن الناحية الشكلية فإِنَّ هذا الكلام ينطبق على الشعر أيضاً في سعيه نحو منصبيِّة الشعار وقدرته على الاسترسال في الزمن والثقافة. ما يفرق - أو ما يجب أن يفرق - بين الاثنين هو أن الشعر يحاول ان يخفي استعلاءَه بوسائل قريبة من السِّحر كالإدهاش والاستئناس وإثارة الشجن، بينما يتوقف مدى نجاح الشعار على الاستعلاء العلني والمواجهة الحازمة واستدعاء المباشرة والغيبية. أي ان هذا الأخير في النهاية، وبغض النظر عن مصداقيته، هو ظاهرة "هيلمانية" هجومية، في مقابل الشعر الذي هو ظاهرة إِغواء.
والشعار - على هذا الاساس - هو لغة التاريخ المُعْتَمدة. هو اللغة السُّلطانية المُناهِضة للعقل والإحساس والإِرادة في علاقة البشر بتاريخهم الحقيقي، وبالتالي بذواتهم. وإِذا كان البشر صياغة تاريخية - كما يُـقال - فإِنَّهم ليسوا صياغة مباشرة لوقائع حياتهم او حياة من سبقوهم، وإنَّما هم صياغة لوصف هذه الوقائع وتفسيراتها وابداعاتها في الفهم بلغة الشعار- لغة التاريخ الرسمية. وبالمقابل، فإِنَّ الشعر هو لغة التناقض الناشيء عن هذا الوضع الذي يضع الإنسان بين ما هو عليه قسراً، وبين تصوراته عن نفسه وعن العالم. هذه الأزمة الجوهرية المستمرَّة بين الشعر والشعار هي اساس ما يسمَّى بإشكالية الحرية والمصير.
إذن، العلاقة بين الشعر والشعار وثيقة على مستويين: مستوى القصد المشترك في التأثير على العينة ذاتها - أناس كما هم - وما يخلق ذلك من تشابه ومفارقة بينهما، ومستوى أنَّ كليهما طرفان لأزمة واحدة تقع بين الدَّعوة الى مفارقة الذات والدعوة الى البحث عنها. وبالتالي فهي أزمة بين الفرد وثقافته، بين خضوعه لإملاء الذات او اكتشافها. وبالاستطراد مع تعييناتها الاكثر تجسُّداً هي أزمة بين التراث والإبداع، بين إرهابية اللغة واباحية الفكر، وأخيراً بين الكتاب المقدَّس - أيَّ كتاب - وديوان الشعر.
لقد استطاعت الكتب المقدسة - ما اعرفه منها - أن تحقِّق أقصى اقتراب ممكن للشعار من الشعر. جمعت بين أقصى ما يمكن ان تبلغه اللغة من استعلاء وسلطانية وبين أقصى ما يمكن ان يبلغه الشعر من قدرة على الإغواء والإثارة، مُحقِّقة بذلك اكبر فعل تاريخي للشِّعار في البشر. فماذا عن محاولة الشعر الاقتراب من الشعار؟
إنَّها نفس القصة. فمنذ الكهانة الأولى والشعر الأول كانت العلاقة بين الطرفين كالعلاقة بين الرجل والمرأة، اندفاع عدواني نحو امتلاك كل طرف ما ينقصه في الطرف الآخر. ولم يُغْرَم الشعر قديما وحديثاً بشيء كما أُغْرِمَ بالأسطورة. والأسطورة ليست مجرَّد نصٍّ مقدَّس بالنشأةِ فقط، وإنَّما هي أرقى نصٍّ مقدَّس استطاع مشروع الهيمنة التوصُّل اليه قبل انفصال الشعر والكهانة عن بعضهما.
يبدو الأمر، إذن، وكأنَّ مشروع الشعر ومشروع الشعار يلتقيان في النهاية عند نقطة واحدة هي الجمع بين تأثير الشعر والشعار معاً في نصٍّ واحد، ولهدفين مختلفين. فمشروع الحرية، أي المشروع الشعري، مع أنه يبدو وكأنه هدف ذاته، إلا أنه يتضمَّن محاولة واضحة للانفلات من المشروع الحضاري. بينما يهدف هذا الأخير الى تحقيق نصٍّ اجتماعي محدَّد وموحَّد يخدم اهداف السيطرة وصياغة العينة البشرية الملائمة لمرحلة النصّ. وهذا التضاد في الاهداف هو ما يحدِّد الفرق بين خصائص النص الشعري والنص الشعاري من حيث الشكل والمضمون - وبقطعيّة تامة في التلقِّي - رغم تجانس الخامات التي تشكِّل النصَّ في الحالتين:
إنَّ كنتُ قلتُهُ فقد علمتَهُ ( شعار متحقِّق في الشعر.)
رفقاً بالقوارير ( شعر متحقِّق في الشعار.)
ولستُ بسبيل الاسترسال في محاورة هذا الادِّعاء من جانبي، فالموقف لا يتَّسع لذلك. ما قصدتُ الوصول اليه هو أن الشاعر محكوم بأن يعيش أزمة الشعر والشعار في طريقه نحو تحقيق الشعر، وانَّ معظم الشعراء يفقدون الشعر في طريقهم الى الشعار بحسن نية (عجز الموهبة) او بسوء نية (المهمة البديلة) فيحقِّقون الشعار دون الشعر، ويفقدون الإثنين معاً. قليل منهم يستطيع ان يحقِّق الشعر ويلامس الشعار بدرجات متفاوتة، او حتى ان يتبنَّى الشعار - تحت ظروف معينة - دون أن يفقد الشعر. وفي اعتقادي أن فوزي البكري هو واحد من هؤلاء.
يثقل عليَّ في كتابة هذه السطور أمران: احدهما أنَّني مجرَّد مُدَّعٍ في "علم" المقدِّمة، لا احمل من مناهجه ومصطلحاته ما يكفي عشاء لـِ "د. دجاجة"، بدالين في أولها، ولم أدرس الأدب العربي بلغة أجنبية، والثاني أن فوزي البكري هو - للأسف - صديقي الحميم. وكلا الأمرين كما ترون ليسا في صالحي او صالح الشاعر، لأنَّهما لا يتركان لي أية مصداقية مسبقة، وتصبح اية مصداقية لاحقة رهناً باقتناع القارئ بأمانتي، وتجنُّبي للتشبُّه بـِ "علماء" المقدِّمة المُجَازين.
أما عن نفسي فقد قدَّمتها بأقصى ما استطيع من الصدق. وأما الشاعر، وهو في هذه الحالة فوزي البكري، فإِنَّه لا يترك لمن يعرفه مجالاً للتكلُّف في الكتابة عنه. إِنه عينة نادرة، مكشوف من جميع جوانبه، وصادق حتى الفضيحة، عدواني لبق، وغاضب يقدِّس الضدِّية بشكل تلقائي. وقد تبدو هذه الظواهر كلها مرضيَّة - وهي كذلك فعلاً - ولكنَّها كلها أيضاً مبرَّرة من حيث كونه فلسطينياً يعرف أنه من عيِّنة مُعرَّضة للانقراض.
العدوانية، من جانبه، والغضب والضدية التلقائية هي مجرَّد وسائل دفاعية يائسة. شرعية لكن لا طائل تحتها، سوى أنها تجعل منه شاعراً في سياق خاص. هذه الخصوصية لدى فوزي البكري، وإنْ لم تتعدَّ المضمون الى الشكل في بعض الاحيان بحيث يُذكِّرك بأكثر من نفس شعري، إلا أنَّها تبقى لونه الخاص، الذي يصنع بتدرُّجاته وانبثاقاته المدهشة في اكثر من موقع لوحةً من لوحات شعر الرفض الفلسطيني، لا يحقُّ لأحد غير فوزي البكري ان يضع توقيعه عليها.
وفوزي شاعر يهمل موهبته ومشروعه الشعري اهمالاً شديداً. فقد سيطرت عليه الضدِّية والغضب الى درجة أنَّه لم ينشغل بتطوير موهبته او أداته الشعرية بمدى ما انشغل بحرارة التعبير، والتنفيس عن كيديته تجاه ظواهر السقوط والانتهازية التي دمَّرت حلمه الوطني ومعقولية التزامه الجماعي. ولولا أنَّه يكتب الشعر بذات الصدق الذي يتنفَّس به لفـقد الكثير مما يجعله شاعراً فريداً. هذا الانسياق مع معاناة الغضب، وحدِّة الموقف الرافض تجعلني أتصوَّر فوزي وهو في عنفوان غضبه يقذف المرحلة بما تيسَّر دون ان يستثني لغةً او نهجاً او قالباً من قوالب التعبير يقع في متناوله.
في هذه الحالة المُفعمة بالتلقائية، ومعاناة المضمون دون معاناة الشكل في التجربة الابداعية، ضيَّع فوزي على نفسه فرصة التألُّق والنجومية التي يوفِّرها التزام "الموضة" او الحداثة كما يقول النُّقاد، الذي يظنُّون أنَّ الحداثة هي مجرد مفارقة المألوف التعبيري، ويوزِّعون انعاماتهم النقدية على هذا الاساس. إنَّ الطاقة الشعرية لدى فوزي هي امرأة زاخرة بالجمال والحرارة ولكنَّها ترفض قضية المظهر وتُضيِّع على نفسها فرصة الاعجاب الذي تستحقه.
وفي اعتقادي ان الشاعر الذي يستطيع، ولا يريد أيضا، ان يقع في الشعار ويفقد الشعر، عليه ان يحذر اكثر ما يحذر التلقائية في الأداء. عليه ان يحاور احساساته ومضامينه وكلماته وأن يرفضها أحياناً لأنَّها قد لا تمتُّ اليه كمبدع بصلةٍ، بل إِنها تمت الى ذاته الأخرى العقيمة - النموذج التاريخي - التي يحاول الخروج عليها بالإبداع. إِذْ، بالعودة الى ما سبق، فإِنَّ هذه الذات العقيمة هي مجمل املاءات النصِّ السلطاني داخل المبدع. ذلك النص المكوَّن من ايداعات التاريخ الهمايوني وشعاراته التي تحاول باستمرار التدخل في سياق المعاناة والتجربة الذاتية والاستيلاء على نتائجها. ورغم رفضنا الواعي احياناً لهذا النص، إِلا أننا منخرطون فيه الى درجة أنه لا يمكننا التخلص منه تماماً. كما لا يمكننا - ابداعياً - الابتعاد عنه الى درجة قطع الصلة. والمبدع هو إنسان يحاور ثقافته حواراً خلافياً، ليس لأنها قيده فقط، ولكن لأنَّ الإبداع موجود بعدها مباشرة وليس فيها. إنَّها إبداع المراحل الذي يؤدي تجاوزه الى تجاوز الشعار واللغة السلطانية الى الشعر، الى إبداعنا نحن. وفوزي من هذه الناحية عديم الحذر تماماً. بل إنَّه غارق في التلقائية الى أذنيه، يصرفه سياق الغضب والتنديد عن سياق التمعُّن في أداته فيضرب - كما قلت - بما يقع في متناول يده. ولكنَّه أحياناً يتورَّط الى درجة أنه يضرب الطبل بالعصا فتعود اليه الضربة وتشجُّه. وينقلب رفضه عليه من خلال موقف أقل ما يُـقال فيه أنَّه موقف يسيطر عليه السهو:
حَرِّك عِظَامَ الغارِ تحْتَكَ
وادْنُ مِنْ قَبْرِ الحنيفةِ والحنيفْ
رُحْماكَ، ابراهيمُ،
يا جَدَّ التُّقـاةِ المُرْسلينْ
هَلْ كُنْتَ إِلا مُسْـلِـمَـاً لـلَّـهِ
سجَّاداً ومَوْسومَ الجبينْ
ما كُنْتَ سفَّاحَ الدِّماءِ
فَهَلْ نَظَرْتَ الى ضريحِـكَ
كيفَ يَغْرَقُ في دِمَـاءِ المُسْـلِـمينْ؟!
لا شكَّ أنَّ هذا الابتهال المخلص لسيدنا ابراهيم التوراتي يقرِّب فوزي من الله، لكنَّه يُقرِّبه أيضاً من غولدشتاين دون أن يدري. إنَّه يضيِّق الهوَّة بينهما الى درجة الاقتصار على الخلاف الطائفي، مما يقوِّي موقف غولدشتاين الى حدٍّ بعيد. وتحكيم سيدنا ابراهيم التوراتي في الموضوع أمرٌ ليس في صالح فوزي. فهو - أي ابراهيم - ذات الشخص الذي قذف بهاجر وابنها الى الصحراء إرضاءً لسارة، ومن غير المحتمل أن يقف الآن في صف فوزي ضد غولدشتاين، إذا أخذنا هذه السابقة بعين الاعتبار.
ومع أنَّ شرط الصدق في العملية الإبداعية لا علاقة له بموضوع المعرفة او حتى الصدق المعرفي، بل على العكس هو اقرب الى الموقف الوحشي والبساطة والعزلة عن وعي الالتزام المعرفي او محاورته إلا ذاتياً فقط، غير أنَّ البساطة المعرفية هي شيء غير البساطة الإبداعية. فالأولى مرتبطة بوعي الشعار، وبالتالي بالمباشرة، بينما ترتبط الثانية بالصدق والاكتشاف في مساحة غير معروفة، حيثُ يكون أي لقاء مع الذات عَرَضيِّاً. والابتهال المبسَّط لدى فوزي في النصِّ الآنِف هو بساطة معرفية. لذلك ظلَّ رغم كلِّ الصدق الموضوعي، بل وبسبب هذا الصدق بالذات، مشهداً فيه كثير من الشعر، إلا أنَّ الشعار هو سيِّد هذا المشهد.
إنَّ الطاقة الشعرية التي أهدرها فوزي في انسياقه العفوي وراء محفوظات وعيه الهجري، حرمتني من فرصة التمتُّع بطلاوة الخطاب الشعري وانسيابيته وصدقه المؤسف المؤسَّس على السهو. ولكن كان يعوضني عن ذلك باستمرار من خلال توهُّج مفاجئ يضعه في مقدمة شعراء الرفض الملتزم:
جَـلَسُوا على الارْهابِ عَرْشَاً زائلاً
ووقفْتَ في قِـمَمِ النِّضالِ الفذِّ.. اجْـلَسْ
وَتَمَـتْـرَسُوا خَـلْـفَ النَّفيسِ مِن السِّلاحِ
وكُـنْتَ بيْنَ أصابعِ الأطْـفَالِ
أغلى مِنْ طفولتِهِم وانْـفَسْ
بُوْرِكْتَ يا وثنيَ العَظيمَ
القاهِرَ القَهَّارْ
بُوْركْتَ
أيُّهَا الحجرُ المُقدَّسْ
لقد اكتشف "الشيخ" هنا، وبشكل عرضيٍّ كامل، من خلال حيوية الفعل والانفعال والتموضع في مساحة الإبداع الحقيقية، ولنقل بشكل أكثر تحديداً من خلال جدلية المواجهة الحُرَّة، أنَّ المقدَّس هو الضروري، هو الوجداني المتماثل مع مصلحة الإنسان في الوجود. اكتشف بالصدفة الحتمية كيف يتحوَّل الحجر الى وثن، أيّ الى متعلَّق وجداني، من خلال موقع علاقته بالفعل الملتزم في مهمة الوجود. وفي لحظة إبداع غير عادية، اكتشف أيضاً معادلة جديدة للقيمة تقع خارج مألوف المقايضة، حين صوَّر الاستشهاد النفسي للطفل وهو يقايض طفولته بحجر لا بُدَّ منه لاستكمال معادلة الموقف الوجودي.
ويواصل فوزي الانزلاق، ولكنَّه أيضاً يواصل التعويض من خلال اطلالاته الإبداعية في سهو عن ذاته المهجَّرة، فيكاد يقترب من ذاته الأخرى الى درجة العناق:
الجوعُ وعدُكِ
والحصادُ المرُّ وعدي
ايمانُكِ المَغْدورُ ايماني
وذاتُ الوَجْـدِ وَجْدي
إنَّ الحياةَ
هِيَ الحياةُ بِغَيرِ قَيدِ
هِيَ رَعْشَةُ الشُّهداءِ
ما بينَ التحدِّي والتحدِّي
هذا هو بالذات جدل الوجود الذي يحاول الشعار المتخلِّف من زمن الدسيسة واستبدال الوعي أن يحول بيننا وبينه، لنعيش في جدل التخلُّف والمراوحة العبثية في التاريخ. وأيضاً:
أنْصِتْ يا مَجْروحاً في كَبـِـدِ أمَـانِـيهْ
قبضاتُ اليأسِ تدقُّ ببابكَ
تَخْـلعُ متراسَ التاريخِ
وتَسْحَـلُ جَوْهَرَكَ المَـنْخُورَ
على شطِّ المتوسِّط.. عريانْ
هل تسمعُ هذا الصمتْ..؟
صَمْتٌ سرياليٌ
يَعْجزُ عن تفسير بلاغتِهِ
حتَّى مَن فسَّر كلَّ المتشابِهِ في القرآنْ
يقترب في حسِّ الفجيعة حتى حافة المشهد التاريخي للنكبة كما فعل هنا، ولكنَّه - للأسف - يعود ليبتعد في التصوُّف التراثي الى تيه المغادرة بحيث لا نعود نراه. ولكنَّ الرفض في كل الحالات يظلُّ لدى فوزي سيدَ الموقف. ومن الطبيعي أنَّه ليس كل رافض مبدع، ولكن كل مبدع رافض ولا يمكن ان يكون غير ذلك. فالإبداع هو تجاوز ثقافي أساساً، ولا يمكن أن يتم خارج دائرة هذا التجاوز إلا باستغلال الثغرة التي تتيحها خلافية التعريف من جانب بعض السطحيين. ولكن حتى الرفض السياسي المجرَّد في حالتنا نحن الفلسطينيين يُشكِّل ميزة ابداعية، لأنَّه لا يمكن لأي فلسطيني أن يكون مع المرحلة بدون أن يكون مُدجَّجاً بالتفاهة والسطحية والرداءة، التي تجعل من أية تجربة ابداعية هراء، حتى لو كان هراءً جميلاً مثل شعر نزار قبَّاني مثلاً. لذلك فلا بُدَّ أن يكون لرفض المرحلة دلالة على بُعد الاستشراف وحيوية الاحساس وإدراك الموقف الوجودي، وهي كلها أمور في صالح التجربة الإبداعية. ولكن هذه الميزة تظل ميزة جزئية، وقد تتحوَّل تحت ضغط الاتباع الى ميزة شكلية، ما لم يتحوَّل الرفض السياسي الى رفض ثقافي.
إنَّ الرفض لدى فوزي - مثل كل ظواهر الرفض الأخرى على الساحة العربية عموماً والفلسطينية خصوصاً - هو رفض ميداني محكوم بالاستعجال والعفوية التي تفرضها آنية المواجهة والحاحاتها المتسارعة. هذا النوع من الرفض يستهدف الواقعة المرفوضة في موقعها المرحلي دون أية محاولة للتمعُّن الايديولوجي او تحرِّي الخصوصية، او التشوُّف الاستراتيجي. وهو موقف مفهوم ولا غنى عنه على مستوى الحضور المضاد ومواصلة الصمود والانجاز المعنوي.
والانتفاضة مثل جيد على أهمية هذا الجانب من المواجهة، ولكن هذا - في حالتنا نحن - يجب أن يكون مقدِّمة لوعي جديد مؤسَّس على خصوصية الصراع من حيث هو تسييس معاصر لحكاية غيبية موغلة في القدم اتَّخذت شكل الحكاية التاريخية. والمطلوب هو تحرِّي أسباب الاسترسال التاريخي الطويل لأسطورة استيطانية استطاعت أخيراً أن توظَّف في اقتحام وجودنا بكل هذا العنف والعنفوان السياسي والعسكري. مَنْ المسؤول عن هذا الاسترسال الذي تحوَّل الى واقعة ضدَّنا؟!
ولو حاول فوزي تحرِّي أسباب هذا الاسترسال لاكتشف أنَّ أي رفض من جانبه لا يتضمن رفض ذاته الهجرية هو مجرَّد موقف بطولي أساسه الغضب وحده. وهذا أمر لا يكفي في حالتنا لأنَّه يترك باب المستقبل مفتوحاً أمام استمرار المشهد التاريخي والوجداني الذي أسفر عن الواقعة الصهيونية، ويعطي لتلك الواقعة التي نرفضها حقَّ الاستفادة من الاسطورة التي نتبنَّاها. لو فطِنَ فوزي لهذا لعرف أنَّ الوطن ليس "عُش عندليب فوق مئذنة" لأنَّ عشَّاً كهذا تستطيع ان تودي به زوبعة عابرة كما حصل لنا فعلاً. وهو أيضاً وبنفس المدى ليس "بحَّة ناقوس" محكومة بحتمية التلاشي.
إنَّه، أيّ الوطن - وكما يقول هو نفسه في ذات القصيدة الرائعة رغم كل شيء - أقرب الى أن يكون "ضُمَّةً من النعناعْ تُداسُ في بوَّابةِ العمود، لا تُباعْ" او "طفلةً جائعةً في عَقبةِ السَّرايا" او "نَجْمةً مَذْبوحةً في حِضْنِ أطفالِ الخليلْ." وفي الحقيقة أن الوطن هو كل شيء. إنَّه جسد من الناس والتراب يحمل ثقافة وروحاً وزياً متفرِّداً. وهي أمور فقدناها كلها - او كدنا - في ضياعنا الهجري، وعلينا أن نستعيدها أو نواصل رحلتنا العبثية في الآخَر. على ضوء هذا كله - وفي لحظة اكتشاف نادرة - يقول فوزي بكل ما يمكن للغةِ ان تحمل من صدقٍ وإبداع:
لم يبقَ في جسد الحقيقةِ
غيرُ روحِ الرفضِ
والقلبُ الفدائي
ويواصل بذات الشاعرية، ولكن بإدهاش أكثر:
تَرْكضُ الخيلُ
تعُـضُّ لجاماً من حديـدِ الرفـضِ
والمهْمازُ
قلْبُ الفارسِ المَـشْـحـونِ وعياً
وأنا في سِـيَاجِ القَـهْـرِ
اُضْحكُ مِـنْ رَيْـثِ خُطايْ
ما اجمل هذا الشِّعر. وكم كنتُ أتمنَّى أنَّ اتوقف عنده كي لا اضطر انا - بعد قليل - الى الانفجار من الضحك على ورطة فوزي مع فرعون:
يا خفافيشَ القَوَافي
إِذْرَعُوا الليلَ كَمَا شِئْـتُمْ
فإنِّي جـِئْـتُكُمْ
احْمِلُ في كفِّي النَّهَار
الا يكفيهم رعباً أنَّك تحمل لهم عدوَّهم اللدود، النهار، حتى تنزلق بعد اجمل ما قرأت في شعر التخويف، الى محاولة إرهابهم بما يدخل على قلوبهم السكينة والاطمئنان:
وعصا موسى
فأينَ الشَّعْـوَذاتُ.. الإِفْكُ
بل أينَ الثَّعَابينُ.. السَّحَالي
أيْنَ فَرْعُونُ الوصاياتِ
على أدبِ الرَّوْثِ وفِـكْـرِ الاجْـتـِرارْ؟!
هل اوصى فرعون فوزي او أوصى غيره بمثل هذا الكلام الذي يقوله ليجعل منه مسؤولاً عن فكر الاجترار؟ أنا بالطبع لا أتملَّق فرعون، فقد فقد انشغاله بما يُقال عنه بعد حادثة البحر الاحمر، ولكنني أحاول الدفاع عن الشعر الجميل والشاعرية المظلومة التي حالت ثقافة السهو بينها وبين الانطلاق.
صحيح أنَّ كل ما كتبه فوزي في هذا الديوان يقطر شاعرية،وأنَّك لا تكاد تجد لديه شطرة واحدة تتكيء على التسامح، ولكن فوزي أشبه بالفراشة التي تُبعثر ألوانها عفواً أثناء انهماكها في مهمةٍ أخرى غير رقصة اللون التلقائية. ولو حاول فوزي أن يخرج من العفوية الى المعاناة الإبداعية، من الغضب الصاخب الى النقمة المتأمِّلة، من مهمِّة الرفض بالشعر الى مهمة الابداع بالرفض، لكان مشروعه الشعري من ابرز المشاريع الشعرية على الساحة الفلسطينية. وفي اعتقادي أن الوقت لم يُفت بعد، فالموهبة والأداة الشعرية ووعي حتمية الرفض، أيّ حتمية الإبداع متوفِّرة لدى فوزي احيانا إلى درجة الاكتمال. وحينما يقرِّر أن ينشغل بمشروعه الشعري بذات الجدية التي ينشغل فيها بمحاورة الألم، وينتقل من الصخب اللا إرادي الى الكيدية الحضارية، أي الى الحداثة، فسوف يكتب فقط مثل هذا الشعر او ما يفوقه:
لَـحْـظـةُ الـحِـقْـدِ:
فـقـيرٌ تَحْتَ سورِ القُـدْسِ،
صبيٌّ في مُـخَـيَّـمْ
يَـلْـبـسُ العُـرْيَ،
شهيدٌ مَـيِّـتُ الـثـأرِ
وَنَـذْلٌ
يَسْحَبُ الأرضَ لِـتَـجْـثـو رُكْـبَـتَـايْ
كـفِّـنـوهُ
سوف امشي حافياً
لم يعُــدْ في الأرضِ شوكٌ
كيف تدمى قدمايْ
أُنْظُرُوا
ها هُـو الأفْـقُ
شعاعٌ.. ليْـلَـكٌ
طِـفْـلَةٌ تضْحكُ مِـنْ دُمْـيَـتِـهـا
بُـلْـبُـلٌ يَـنْسِـجُ العُشَّ
فراشٌ يَحْـرُثُ العِـطْـرَ
وَنَـايْ.
* * *
وقبل أن انصرف، لا بُدَّ من وقفة على "كرز الحرملك" مع فوزي وهو يعابث النساء حيناً، ويصلِّي لهنَّ أحياناً أخرى. يعابثهنَّ بشعر لا ينقصه الجمال ولكن ينقصه الوَلَه. وانا شخصياً - وهذا لا يلزم احداً - لا أعترف بوجود أية مساحة للابداع من خلال العلاقة بالمرأة - سواء كانت أماً او أختاً أو حبيبة - في غياب الوله. وَلَه الأمومة، وَلَه الأخوة، وَلَه العشق. وما دام الوَلَه الأخير - وَلَه العشق - هو موضوع الحديث لأنَّ فوزي لم يلمس في شعره جوانب العلاقة الأخرى بالمرأة، فإنني اعترف سلفاً بأنني عاجز عن تذوُّق شعر المعابثة الغزلية مهما كان جميلاً. ليس فقط لأنَّ فيه تسطيحاً لأعمق واهم علاقة بشرية وجدانية، ولكن لأن الشاعر أيضاً يكون واقعاً تحت تأثير الافتعال والتصنُّع، لأنَّ المعابثة او الطُرفة تشترط التملُّح والبساطة معاً، وإلا أصبحت غير ممكنة. وكما أنَّها تشترط التصنُّع واعتماد البساطة لدى الشاعر، فإِنَّها أيضاً تشترطهما لدى المتلقِّي. وهذه هي المعادلة التي عاش من خلالها شعراء مثل نزار قباني.
وحتى حينما يستطيع شاعر مثل فوزي البكري أن يضيف الى شعر المعابثة بُعداً فلسفياً نادراً - وليس بطريق الصدفة - فإنَّ هذا الشعر يتحوَّل الى رؤية فلسفية نادرة وليس الى شعر غزلي:
حبيبتي
تريد ان تكونَ
ساعةً في حائطٍ
لا فترةً مجهولةً
في زمنٍ مجهولْ
هذه اللمسة البارعة لاشكالية علاقتنا بالزمن بين الاجتماعية والوجدانية، بين التموضع التاريخي والوجود الخالص في التجربة، تتمرَّد على سياقها النَّصِّي وعلى فوزي، وتختار سياقها الخاص لدى المتلقِّي.
لقد اعترفت مسبقاً أن شعر المعابثة قد يكون جميلاً، إذا توفَّرت له خفِّة الدم والتمكُّن من الأداة ونزعة الابتكار، ولكنَّه يظلُّ جمالاً فكِهاً يلامس سطح الإحساس بنعومة عابرة ويمضي دون أن يترك أي أثرٍ في الوجدان:
حـبـيـبـتي تقـول إنَّـهـا :
خبيثة!
يا روعـةَ الـدلالِ
عندما يكـونُ ثـالـثَ
الجمالِ والأنـوثـةْ
و:
ألستِ تعلمينَ
أنَّ منْطقَ العُشَّاقِ
أنْ لا يخضعوا
لأيّ منطقِ
و:
وأشْـربُ مِنْ كأسِ خمري
فأصحـو..
وأشربُ مِـنْ كأسِ عينيكِ
أَسْكَـرْ..
كلامٌ لا ينقصه الجمال او الظرف، لكنَّه كلام ظرفاء. مجرَّد ذلك! ولن اذهب بعيداً فأقارن بين فوزي وغيره، سأقارن بين فوزي وفوزي:
تعالي إليَّ على غيرِ مَهْـلٍ
وَهَـلْ يَصْدقُ الوعدُ
إنْ جاءَ مَهْـلا؟
لَـئِـنْ كانَ طَـيْـفُـكِ في النَّفْسِ
حُـلْواً
فَإِنَّ حُضورَكِ في العَيْنِ
أحْـلى
و:
لَكَأنِّي ألقيتُ بُذوري
في أرضٍ
لا تعشقُ رائحةَ الوردِ
ولا تعرفُ طعمَ الرُّمانْ
وبشكلٍ خاص:
عـيـنـاكِ اشـعـاعٌ يُـضيءُ حـقـيـقـتي
ويـقـودنـي عَـبْـرَ الـزَّمـان الـمُـظْـلِـمِ
فَـتـَدفَّقـي أُنـثى عـلى شُــطـآنـهـا
ألـقـيــتُ مِـرْسَـاتي ونـامـتْ أَنْـجُـمي
هنا توجد المرأة الحقيقية. المرأة التي تشارك الرجل داخل وجودهما الواحد عمليةَ تعديل مزاج التجربة لهذا الوجود الواحد، من خلال الحبّ. وهو حب - مشروط في هذه الحالة - بالشغف الوجداني وليس بالشغف البيولوجي وحده. إنَّ الإنسان وجود خاص ومتميِّز، وليس مجرَّد وجود. وهبوط الرجل بالمرأة او المرأة بالرجل إلى مستوى الشيئية الجميلة سواء في النص الشعري او في الإحساس الصامت للعلاقة، هو مرض شخصي او اجتماعي ناجم عن التخلُّف العاطفي والوجداني، واختلال موازين القوى في العلاقات الاجتماعية. وعلى سبيل المثال فإِنَّ انعكاس المرأة الشيئي في مرآة شاعر مثل نزار قباني، على شكل جسد حامل للملابس في مشروع تعرية او زنا، هو بنفس المدى انعكاس لمرضيَّة طبقيَّة أساسها هواية الصيد والتعلُّق بالمظهر كمصدر وحيد للانشغال لدى أصحاب النشأة المدلَّلة المعرضين تلقائياً للتنرجس. وبالتساند بين الضحالة واضطراب الذوق الحضاري والميل الى التقليد في مجتمع ما، فإِنَّ هذا النوع السهل والمبتذل من الشعر يصبح بالعدوى لازمة "إبداعية،" لكلِّ الطبقات. وبالعدوى وحدها انتقل هذا المزاج الشعري إلى فوزي:
ونلتقي
شفتيْنِ في شفتيْنِ
تَحْتَ رفيفها
تلهو وتلعبُ
في مراجيحِ الأصابعِ
حلمتانْ؟!
مهما بلغ هذا المشهد-النص البورنوغرافي من الجمال التعبيري، فإِنَّه لا يصبح شعراً في الغزل، أي شعراً في المرأة. إنَّه شعر في الرجل صاحب النص الذي يريد أن يبهر المرأة برجولته. ومهما بلغ هذا الجانب البيولوجي الممتع في العلاقة بين الرجل والمرأة من الأهمية، فإِنَّ تنصيصه لغوياً لا يختلف عن تنصيصه بالكاميرا، لا علاقة له بالوجدان أو المرأة وبالتالي لا علاقة له بالإبداع.
* * *
اعرف أنني أطلت، ولكن هذا الديوان استفزازي الى حدٍّ بعيد. إِنَّه - حتى في أسوأ حالاته - مساحة خالصة من الشعر تستفزُّكَ فيه الشاعرية الطليقة، ويستفزُّك أحياناً الإهمال الذي تتعرَّض له من جانب صاحبها. وفوزي - كما أزعم - هو أهم شعراء "الأرض المحتلة" حتى مع إهماله، ولكنَّها في حالته أهمية إبداعية لم تترجم إلى انجاز إعلامي لأنَّ فوزي ليس من أوغاد المرحلة.
الشاعر أحمد حسين
مصمص- تشرين ثانٍ 1996