قناديل فوزي البكري
بقلم إبراهيم الزنط أو "غريب عسقلاني"
-ها قد وصلنا إلى باب العامود، فأين فوزي؟ نجوس في البلدة القديمة، نصعد الدرجات الأصيلة ونهبط الدروب، نتأمل الفقراء والصعاليك والمجاذيب، يحدقون فينا ويمضون، يحملون قناديلهم في رابعة النهار، تردعنا الأسئلة، الصعاليك يضيئون القدس في شمس النهار، يشبحنا الجنود على الجدران، يفتشون عن الأسئلة والأجوبة، ويستنكرون علينا ما علق بأجسادنا من غبار وتراب الحواري والجوامع، وصيحات الصعاليك والمجاذيب، يحسبون علينا ما نفد بين ضلوعنا من شمس القناديل، ونسأل: أين فوزي؟
يردد الصعاليك وبائعو الكعك والسميط والصبيان الذين يصطادون السياح: فوزي يوزع القناديل على سور المدينة.
ندور حول القدس، نسد عليه الطريق، يتكئ على عصاه، يكابر على آلام ظهره، يرشقنا:
لم يبق في جسد الحقيقة
غير روح الرفض
والقلب الفدائي
نعابثه، ونستفز الوقت فيه، ضيعك عروة بن الورد يا فوزي، وحاصرك السور، وزملتك القناديل.
يقرعنا في وجوهنا، وعلى أقفيتنا يسوطنا أمامه إلى داخل السور، تخذله آلام ظهره، يتوقف...
تركض الخيل
تعض لجاماً من حديد الرفض
والمهماز
قلب الفارس المشحون وعياً
وأنا في سياج القهر
أضحك من ريث خطاي
وفي يوم ناكفناه، فقد عقد مؤتمر إسلامي في الرباط تحت شعار "أبشري يا قدس"، قلنا له: غداً تعبر السور سنابك الخيل وترتفع الرايات. تركنا واعتصم وراء السور ووزع القصيدة...
يا قدس لا تنتظري
يا قدس لا تستبشري
دوسي على المؤتمرين
دوسي على المؤتمر..
تحلق من حوله الفقراء والصعاليك، وبائعو السوس والخروب وصبيان الأزقة، صدقوه ولم يصدقوا المؤتمر، بايعوه ولم يبايعوا المؤتمرين، ناوشناه حتى يفيق من غيبوبته، خفنا عليه من فوهات البنادق المصوبة نحوه، قلنا له: ومن تكون حتى تحرض البلاد والعباد على المؤتمر؟ صاح فينا مؤنباً:
لحظة للحقد
فقير تحت سور القدس
صبي في مخيم
يلبس العري
شهيد ميت الثأر
ونذل
يسحب الأرض لتجثو ركبتاي
فوزي البكري، يكتب القصيدة، تتمرد عليه، لا يسعها صدره الكبير فيطلق سراحها، حتى لا تنفجر فيه، ويتناثر معها. يفرح لدرجة الإغماء، عندما تمتشق قصائده ألسنة الناس من حوله، ويدخل في الغيبوبة عندما تغدو القصائد كائنات حية، تتنفس، وتعطس، وتجأر قيئاً من مرأى جنود الاحتلال، يتنازل عن كيانه وكل ملامحه ويركب صهوة صعلكته، ويمد لسانه لكل من يرطن بلسان غير عربي في حواري القدس، ويقبل الهواء والحجارة والعابرين إلى الأقصى، ومع ذلك يصطاد نفسه من نفسه، ويتذكر أن في صدره قلبا، يهفو، عشقاً مقيماً. في القدس، يتعرف على حبيبته، يستدعيها، تظلله برموشها الطويلة تغمض عينيها، تهمس في قلبه، يرضع معها حليب المآذن والكنائس، يطيران مع صوت المؤذن، يتباهى، يؤكد أنها ترصد الوقت معه.
حبيبتي
تريد أن تكون
ساعة في حائط
لا فترة مجهولة
من زمن مجهول
وعندما أصدر فوزي ديوانه الأول "صعلوك من القدس القديمة"، اصطف من خلفه جميع الصعاليك في الوطن، ونصبوه حارساً للسور. واليوم يفيض صدره، ويصدر ديوانه الثاني "قناديل على السور الحزين" للصعاليك، إن القناديل تحافظ على بهاء الشموس الصغيرة حول السوق والمدينة، فيقرر فوزي أن حقوق الطبع محفوظة للصعاليك.. حراس القناديل.
ويبقى هذا الديوان والكلام هذه المرة للشاعر أحمد حسين صديق فوزي البكري "استفزازياً إلى حد بعيد، انه حتى في أسوأ حالاته، مساحة خالصة من الشعر، تستفزك فيه الشاعرية الطليقة ويستفزك أحياناً الإهمال الذي تتعرض له من جانب صاحبها، وفوزي – كما أزعم – هو أهم شعراء الأرض المحتلة، حتى مع إهماله، ولكنها في حالته، حالة إبداعية لم تترجم إلى إنجاز إعلامي لأن فوزي ليس من أوغاد المرحلة.."
قبلة على جبين فوزي، تجتاز البوابات، تمتطي متون الريح مع آذان الفجر، تتوهج مع فتيل القناديل الساهرة على السور الحزين، لعل الصعلوك يغفو قليلاً.