شيء فلسطيني
نظرت الواحدة منهما في عيني الأخرى دون أن تلتقي النظرتان. كان في نظرة كل منهما شيء لا يعني الأخرى. فالمرأة الجالسة على المقعد في القاعة الواسعة كانت تحاول أن تقرأ في عيني المرأة الواقفة في إطار الباب دليلاً معيّنًا على شيء لا بد وأنه بالغ الأهمية، بدليل تلك اللهفة التي طفت على وجهها إلى درجة تغير الملامح. أمّا الأخرى فقد كان في عينيها استغاثة تكاد تُسمع، وفي وجهها علامات عديدة على أنها مرّت خلال اللحظات القريبة السابقة بتجربة قاسية تحتاج إلى أكثر من شجاعة امرأة. كان وجهها شاحبًا وعيناها زائغتين تحاولان عبثًا التسمك بنظرتهما وقتًا كافيًا. كل شيء في جسدها بدا يقاوم انهيارًا ملحاحًا يعاودها باستمرار بحيث لم تجد بدّاً من الاستناد إلى إطار الباب لتحمي نفسها من السقوط.
وازدادت اللهفة حدّة في وجه المرأة الجالسة، وما لبثت أن تحولت إلى لهفة مضيئة تشبه الفرح المتردّد وقالت بلهجة باهتة لا تناسب حدّة المشهد:
- يبدو أنك عرفته...
وأغمضت المرأة الواقفة عينيها، وأسندت وجنتها إلى خشب الإطار دون أن تجيب بشيء. فقالت المرأة الجالسة، بلهجة أكثر وثوقًا هذه المرة:
- لقد عرفت منذ البداية. إنه لم يكن زوجي، ومع ذلك فليس هناك غيرهما.
ولم تعد تستطيع إخفاء فرحها:
- لقد وضح لي الأمر منذ رأيت الجثة، ولكن كيف أتركك لوحدك.. أيتها المسكينة..
وبدا على الجسد المتشبّث بإطار الباب بتهالك طفيلي أنه أخذ يستعيد بعض صلابته. عاد يتشكل من جديد، فبرزت انحناءاته بالتدريج واستعاد الوجه بعض لونه الحي، بينما امتدت اليد اليمنى تمسح عليه ببطء وإتقان، وكأنها تزيل عنه شيئًا متراكمًا غطى على ملامحه. وعادت الأخرى تقول:
- لم يكن هناك أحد غيرهما، وما دام أنه ليس زوجي...
وسكتت فجأة وكأنما فطنت إلى أنها قد قالت ذلك من قبل. وتحرّك جسد المرأة الواقفة، ثم اتجهت بخطىً مترنحة نحو المقعد المقابل من ناحية الباب الجانبي الذي دخلت منه، ثم ألقت بنفسها عليه بتثاقل. وهنا قالت المرأة الأولى بلهجة متعاطفة:
- أثبتي.. إن هذا يحدث كل يوم كما تعرفين، بل كل ساعة. كوني فلسطينية وكفى.. ستبحث المصائب بنفسها عنك. ولكن كيف استطعت التعرف عليه؟
واستطاعت المرأة الثانية أن تكيل لها نظرة على درجة لا بأس بها من الحدّة، فأسرعت تقول لتقاوم قلقًا ظهرت علاماته على وجهها:
- أعني.. لقد رأيت بنفسك، إن هذا الذي يسمّونه "النابالم" لا يكتفي بقتل الناس. ولولا ذلك لما كان حاجة لكل هذا... أعني لما وجدت أنا على الأقل هنا.
وقالت المرأة الأخرى بهدوء بارد:
- كيف؟
وخفت حماس الأولى وهي تجيب، وازداد القلق واضحًا على وجهها:
- ليس كل من يُقتل بحاجة إلى تشخيص، ولكن هذا "النابالم"... إنه لا يبقي الكثير من الضحية... وكأننا نستحق أكثر من مجرد الموت. فلو عرفوا أن المرحوم.. أعني الجثة.. أعني المرحوم.. هو زوجك، لما استدعوني أنا.
كانت اللهجة عدائية بعض الشيء وقالت المرأة الثانية بحيرة واضحة:
- ولكنه زوجك بالطبع؟
وازداد العداء واضحًا:
- ولماذا بالطبع؟!
ونسيت المرأة الثانية للحظة أنها بنت اعتقادها على مجرد الاستنتاج، فقالت بسرعة:
- ولكنك أنت قلت..
وتوقفت قليلاً، وشحب وجهها وهي تفيق من الوهم الذي صنعته لنفسها، ورفعت عينيها إلى وجه صاحبتها فلسعتها النظرة الباردة الرفيعة المنبعثة من العينين النصف مغلقتين. وفجأة أحسّت بالغضب، شعرت وكأنها قد خُدعت بدون مبرر، وراودها إحساس بالظلم فقالت بلهدة مترنحة ولكنها عنيفة:
- نعم، لم تقولي. ولكن كل شيء في وجهك كان يدلّ على ذلك. ما فائدة الإنكار، هل سيعيده ذلك إليك؟ إنه ليس زوجي وقد تعرفتِ عليه فعلاً.. لقد كنتِ على وشك الإغماء.. شعرتُ بالشفقة عليك... ولكنك...
وهبّت المرأة الثانية كالزوبعة:
- إنني لست متحجّرة القلب.. لو كانت جثة أمريكي لما استطعت إلاّ أن أتأثر. ثم إنني لم أفعل مثلك. لقد دقّقت النظر قدر استطاعتي على تحمّل المنظر إلى أن تأكدت أنها ليست لزوجي...
وقالت المرأة الأولى منذرة:
- تأكدت من أنها ليست لزوجك..!!
- بالطبع..
- زوج من إذن..؟
- لا يعنيني. إنه ليس زوجي وكفى.
وكانت اللهجة الآن قد تصاعدت إلى مستوى من الهستيرية:
- ولكنك تعرفين أنه لم يكن أحد غيرهما في العيادة وقت الغارة.
- أعرف. ولكن ذلك لا يعنيني ما دام الذي وجدوا جثته ليس زوجي.
- وكيف تأكدت من ذلك؟
- إن زوجي أطول قامة، ثم إن الأنف لا يشبه أنف زوجي.
وداخل المرأة الأولى بعض الاطمئنان فقالت بسخرية:
- ولكن الجثة التي رأيتها لم يكن لها أنف ولا قامة.. مجرد كتلة من الفحم.
- لقد قلت لك، إنك لم تنظري إليها جيدًا، ولست ألومك على ذلك، فليس من السهل أن تنعمي النظر إلى جثة محترقة بهذا الشكل، خصوصًا إذا كانت تلك الجثة لزوجك.
فقالت الأولى تجيب:
- ولماذا كان من السهل عليك أن تحدّقي فيها؟ هل كنت تعرفين سلفًا أنها ليست لزوجك؟
- لقد رأيت بذلك أن ذلك لم يكن سهلاً عليّ. لقد كدت أصاب بالإغماء، ولكن ماذا أفعل؟ تصوري أنه حدث خطأ ما وتسلمت الجثة ثم تبيّن بعد المأتم أنها لزوجك أنت.. كيف سيكون إحساسي وقتها؟..
- حمدًا لله. لقد كنت معرّضة لمثل هذا الخطأ.
ووقفت المرأة الثانية وقالت بلهدة مفتعلة وهي تنظر في ساعتها:
- لماذا لا يتركوني أذهب؟ لم يعد لي ما أفعل هنا، ربما يكون زوجي قد عاد في هذه الأثناء.
ووضعت المرأة الأخرى نظرة رثاء مصطنعة في عينيها وقالت متفلسفة:
- فعلاً، لماذا لا يتركونك تذهبين؟
ثم بعد سكتة قصيرة:
- ليتهم يعودون.. واحسرتاه.. ما أسهل أن يفقد المرء عقله في هذه الأيام.
وتشنّج جسد المرأة الأولى، وملأت رأٍها دفقة سريعة من الغضب، وصلت منابت جفنيها، ثم اختفت بنفس السرعة التي ظهرت بها.. لقد كادت تخسر المعركة، وتمنّت ألاّ تكون صاحبتها قد انتبهت إلى غضبها الأرعن. وعليها الآن أن تجد وبسرعة شيئًا مناسبًا ومؤثرًا تقوله وإلاّ فقد هُزمت ولم تواتها الفرصة.
- آسف. لا بد من توجيه بعض الأسئلة، فنحن لم نتقدم خطوة واحدة.
ونظرت المرأتان إلى الرجل الموميائي بمعطفه الأبيض ووجهه المعروق الطويل، ولم تجب إحداهما بشيء.
كان الرجل يحمل في يده اليمنى أوراقًا ويسراه قلمًا مائي اللون ذا قمّة سوداء. وتقدم حتى بلغ منتصف المسافة بينهما تمامًا، وكأنه قد حسب ذلك سلفًا. فتح فمه ليقول شيئًا ولكن الجو امتلاأ بأزيز مرعب لطائرة نفاثة بدا وكأنها قد عبرت تمامًا فوق بناية المستشفى. وخفت الصوت قليلاً فقال الرجل:
الأسئلة واحدة لكلتيكما. أجيبا بنعم أو لا، وأرجو أن تعتبر كل واحدة السؤال موجّهًا إليها:
- هل كان لزوجك سنّ ذهبية أو فضية، أو صناعية.. إلخ.
- كلا.
- كلا.
- هل أصيب بكسر في العظم في أي جزء من أجزاء جسده؟
- كلا.
- كلا.
- تذكّرن جيدًا من فضلكما.
- كلا.
- كلا. كلا.
- هل كانت جميع أسنان زوجك سليمة؟
- لا أعرف.
- لا أعرف.
- هل أجريت لزوجك عملية جراحية؟
- كلا.
- كلا.
- حتى قبل الزواج؟
- لا أعرف.
- لا أعرف.
وقال الرجل بلهجة خالية من أي تعبير:
- إن لكما زوجين سليمين من العيوب تمامًا، وهذا يزيد الأمر صعوبة.
ثم أضاف بعد أن طوى أوراقه:
- حسنًا. في هذه الحالة فإن الجثة ستُعتبر لمجهول، وسوف يُعتبر زوجاكما في عداد المفقودين.
وقالت المرأة الثانية وهو يستدير ليذهب:
- هل نستطيع الذهاب الآن؟
- دقائق قليلة من فضلك. يجب توقيع بعض الأوراق.
ودوّى صوت انفجار غير بعيد فارتعشت المرأة الأولى وثالت:
- ماذا ستفعلون بالجثة؟
- سنتخلص منها بالطبع. هذا شأننا.
- شأنكم؟ كيف؟ يجب أن أعرف، إنها قد تكون جثة زوجي.
- لا يوجد ما يثبت ذلك. آسف. ثم آن هذا لا يختص بنا، إنه القانون.
وقالت المرأة الثانية بشيء من الحدة وكأنها على وشك البكاء:
- ولكن يجب أن تكون هناك طريقة للتعرف على هوية الجثة. إنها لواحد من اثنين فقط، وليست لواحد من مئة.
وقال الرجل:
- وما الفرق؟ نحن نتعامل مع كل جثة على حدة. تفضلي بالتعرف عليها وخذيها.
وقالت المرأة الأولى وهي ترتجف:
- انتظروا يومًا آخر أو يومين، هناك... هناك رجل آخر، وما زال البحث عن الجثث جاريًا.
وقال الرجل مصطنعًا الصبر:
- لقد مرّ يوم كامل. وهذا كافٍ. ثم إن ظهور الرجل الآخر أو التعرف على جثته لا يعني شيئًا ما دام لم يتعرف أحد على الجثة الموجودة. لقد قلت إننا نتعامل مع كل جثة على حدة، وهذا هو القانون.
واستدار ليذهب، ثم غيّر رأيه وقال ملتفتًا مرّة أخرى:
- متأسف، لا يوجد أسلوب آخر يمكن الاعتماد عليه. لقد انتهت كل الإجراءات الممكنة للتعرف على الجثة. لم يعد ما يمكن عمله.
وقالت المرأة الأولى بهستيرية دون أن توجّه كلامها إلى أحد:
- مجرد زبالة. أعرف، مجرد زبالة. سوف يلقونها وكأنها مجرد زبالة. لا جنازة، ولا قبر، ولا مراسيم..
وقال الرجل:
- أنت مخطئة يا سيدتي. طبعًا لن يكون هناك جنازة ولا مراسيم خاصة، ولكن الدفن يتم حسب أصول الشريعة، وهناك هيئة خاصة تتولى ذلك.
وقالت المرأة الثانية:
- أية شريعة؟
ورفع الرجل حاجبيه:
- الشريعة، الشريعة الإسلامية طبعًا.
وقالت المرأة برعب:
- ولكن زوجي مسيحي.
وصمت الرجل قليلاً، ودوّى صوت سيارة إسعاف من بعيد، واستندت المرأة إلى الحائط.
- لا أدري. إن هذا ليس عملنا نحن. هناك هيئة خاصة كما قلت. ربما في هذه الحالة يقومون بمراسيم مزدوجة. لا أدري.
وبدأ صوت سيارة الإسعاف أكثر قربًا بينما تابع الرجل كلامه وهو يختفي خلال الباب الجانبي.
- دقائق من فضلكما. سوف آتي بالأوراق لتوقيعها.
كانت المرأة الأولى تنتحب بهستيرية، ولكنها صمتت فجأة وكأنما خطر لها شيء، ثم أخرجت من صدرها منديلاً جففت به عينيها وقالت باستسلام:
- ليفعلوا ما شاءوا. لن أنتظر دقيقة واحدة.
وامتدت يدها تسوي شعرها بحركة تلقائية، ثم اتجهت نحو باب القاعة الرئيسي وقالت المرأة الثانية بلهجة ودودة:
- انتظري دقائق، ولننته من كلّ شيء.
وتوقفت زميلتها وقالت:
- ولكن على ماذا يريدوننا أن نوقع؟ إننا لم نأخذ شيئًا.
- ولن نخسر شيئًا من التوقيع.
- أريد الخروج من هنا، لا أريد كابوسًا إضافيًا. يكفيني ما ينتظرني في البيت.
وعادت إلى الانتحاب، فقالت زميلتها:
- هل لك أولاد؟
- خمسة.
- وأنا أيضًا خمسة. من أين أنتما؟
وأجابت المرأة بصوت ضائع:
- أنا من حيفا وهو من صفد.
- نحن من شفاعمرو وهو من عكا.
- هل سنترك لهم الجثة؟
- وماذا نفعل؟
- إنه قد يكونه زوجي أو زوجك.
- إنه واحد منهما بالتأكيد. ولكن كيف نعرف أيّهما هو؟
- سنعرف حتمًا في النهاية. لا بدّ وأن يظهر الآخر حيًا أو ميتًا.
- لقد مضى يوم كامل، يومان تقريبًا ولم يظهر أحد.
- ربما كان مع الجرحى.. إنهم بالعشرات.
- أعرف. وربما يكون أيضًا قد أصيب بصدمة فهام على وجهه. إن هذا يحدث كثيرًا. ولكن هذا الاحتمال يعقّد الأمور ولن يسهّلها.
- وربما يكون قد مات.
- ربما.. إنهم يجدون جثثًا جديدة كل ساعة.
- لكن العثور على جثتين تحت أنقاض بناية صغيرة كالعيادة، ليس أمرًا بالغ الصعوبة. أعتقد أنهم لا يولون الأمر اهتمامًا كافيًا.
- هناك بنايات،... عشرات... ثم إن هذا "النابالم" يجعل من الصعب أحيانًا التفريق بين جثث الناس وقطع الأثاث المحروقة.
- إذن، فسوف نتركه لهم؟!
- أنا لا أستطيع أن أخوض تلك التجربة، زوج ميت.. زوج مفقود.. نفس النتيجة.
- نقيم له جنازة مشتركة؟
- لقد فكرت في الأمر، ولكن يجب أن تتعرف إحدانا على الجثة حتى يوافقوا على تسليمها.
وفكرت المرأة قليلاً، ثم قالت باستسلام يائس:
- لا فائدة إذن.
فقالت المرأة بذهول:
- هكذا يبدو.
- المسكين.
سألت المرأة بمأساوية:
- من؟
وترددت المرأة ثم قالت:
- كلّهم. هل تظنين أنهما الوحيدان؟ الموتى موتى. نعم. إنهم حقًا لا يشعرون بشيء، ومع ذلك تصوري ماذا سيحصل لو قيل لأحدهم سلفًا إنه سيموت على هذا الشكل. إنه سيُجنّ حتمًا.
- مطارَدون حتى ما بعد الموت.
- غربتان.
- غربة في الحياة وغربة بعد الممات.
- لاجئون أبدًا.
- كوني فلسطينية، وكفى.
- لن يحاول أحد حرماننا من هذا.
وامتلأ الباب الجانبي بجسم الرجل الموميائي الأبيض مرّة أخرى. كان في وجهه شيء جديد هذه المرّة، ولم يكن يحمل أوراقًا.
- لقد عثروا على جثة أخرى في نفس المكان.
صمت الرجل برهة، وكأنه ينتظر أن يسمع شيئًا يقال، ثم تابع الحديث:
- بقايا جثة.
بدأت المرأتان تتقدّمان بدون وعي. كان لهما تقريبًا نفس الوجه. لم يعد للملامح أي قيمة في حضور ذلك التعبير الواحد الذي التهم وجهيهما.. تعبير لا يُقرأ ولكنه خاص جدًا وعلى غير مثال سابق.
وتابع الرجل:
- لا حاجة لأي تشخيص.
وتابعت المرأتان تقدمهما وظلّ الرجل يتكلم، ولكنه كان يبتعد.. يبتعد، ويبتعد معه الصوت.
... مجهول.
تلامس كتفا المرأتين فتوقفتا.
... بالإمكان... الهيئة.. مراسيم مشتركة... مزدوجة... من هنا.
اهتز جسد المرأة فطوقت المرأة كتفيها بذراعها... الذهاب... نتصل بكما.
دوّى صوت انفجار بعيد، فازدادت المرأتان التصاقًا إلى أن أصبحتا امرأة واحدة.