فتوى جحا بشأن ذات الإثنين
مرّوا بجحا تحت الشجرة وكأنهم لم يمرّوا. وما كان ذلك عن إعراض منهم وإنما عن انشغال. بانَ له ذلك من حالهم في الإقبال بعضهم على بعض، في الحديث والكليّة حتى لتكاد خطواتهم تلتفّ وأنوفهم تتلامس. وصفق بيديه، ثم تنحنح، فلم ينفعه هذا ولا ذلك. وغصّ بغيظه فما استطاع كلامًا. ولو استطاع لشفى منهم غيظه، ولناداهم كما ينادي المرء دابّته، ولكن قصارى ما أطاق من التعبير كان أن قال في نفسه:
- ويحك يا نصر! ما تهمل الكلاب العظم لأمر يسير.
وقام فعدا خلفهم في عباءته، وحذاؤه تحت إبطه.
وأدركهم بصياحه وما خالطهم بعد:
- أين هي؟
فما بدا على أحد منهم أنه فطن إليه.
- قلت أين هي؟ أم أنه الصَّمم أيضًا؟
ورموا إليه بنظراتهم كما تُرمى اللقمة إلى الكلب اللّحوح ثم عادوا إلى شأنهم ذاك. ويلك يا نصر! أهُنت على هؤلاء هوانًا لا تطمح معه إلى التفاتة منهم أو كلمة! أوليسوا هم جلساء الأمس، من لو حدّثت الواحد منهم بحديث وهو على فاحشة لنسي أن يزول عنها!! أوما كانوا لو تمنّوا على الله المسخ لتمنّوا أن يكونوا آذانًا يسمعونك بها!! لا بدّ أنها القيامة وما تدري بعد.
- أصغوا إليّ يا قوم!
وكان مع الصخب والغيظ في لهجته شيء من العتب، فما استطاعوا بعد أن يهملوا شأنه، والتفتوا إليه على مضض.
- طلاقًا ثلاثًا لأتمجَّسنَّ إن لم تخبروني عن مكانها، ثم لألقينَّ ذلك في أعناقكم يوم القيامة.
وبُهت القوم كأنما صُعقوا. وقال أربطهم جأشًا:
- وما تلك؟
فقال جحا وهو يلهث:
- الدابّة.
- الدابّة!!
- وهل يشغلكم عني كل هذا الشغل شيء أقل من ظهور الدابّة! أين هي؟
وعاد القوم من دهشتهم مبتسمين. وقال ورّاق إمّعة من بينهم:
- وهل حديث الدابّة أعجب من حديث تلك المرأة!
- المرأة!!
- نعم. أوَما حُدّثت بذلك؟
ونظر إليهم طويلاً ثم قال:
- وهل رأيتموني ساكتًا مرّة حتى يحدثني أحد بشيء؟ ما عرفتكم فيما مضى بيننا إلاّ منصتين، فمن علّمكم الحديث بعدي يا آذان البقر؟
وقال أمرد متأدّب من بين الجماعة كان يلازم شاعرًا معروفًا أراد أن ينبه بصحبته فاشتهر به!
- لو أنصتّ مرّة لغيرك لندمت على ما ضيّعت من عمرك في الحديث.
ولم يكن جحا يطيق حديثًا إلى ذلك الأمرد، ولكنه كظم غيظه وقال معرِّضًا:
- أتُراك ندمت على ما ضيّعت في طلب الشهرة بعد أن جرّبت ما جرّبت؟
وخشي عاقل من بين الجماعة أن يلجّا في الجدال، فقال مستعجلاً:
- إنها لامرأة عجيبة حقًا يا نصر الدين! وما شغلنا عنك سواها.
وصاح جحا مغتاظًا:
- ما أكثر ما تتعجّبون منه! أنبيّة هي؟
فقال العاقل وهو يشير بحاجبيه ويديه:
- أعجب!
- أساحرة هي؟
- أعجب!
- أرجل هي؟
- أعجب!
- ما ظلّ إلا أن تكون امرأة نوح!
- أعجب!
وظهرت على جحا دلائل الحيطة والتفكير العميق، ثم قال محذّرًا:
- هل تمكرون بي؟
- أعجب!
وصرخ جحا مهدّدًا:
- إسمعوا! لم يبق سوى واحدة فإن قلتم أنها أعجب أنصتّ إليكم.
وقال الإمّعة:
- قُل! فلو أمضيت النهار تقول أهي كذا وهي كذا لما قاربت الصواب.
وفكر جحا قليلاً ثم قال:
- أين تذهبون؟
- إلى بيت القاضي.
ويئس جحا، ولكنه لم يكن ليفلت فرصة يتماجن فيها على القاضي، فصاح بالقوم:
- عرفت!
- هات!
- لقد منّ الله على سيدنا وعلينا فجعله من الحور العين.
- أعجب!
وهنا نظر إليهم جحا نظرة تفلق الصخر، ثم قال بأناة من لم يبق عنده من الصبر شيء: - لَتُحَدّثُنَّني بحديث أُجَنّ بعده، وإلا لشتمت آباءكم بما لم يسمع به أحد، ثم لنتّفت لحية سخرتم بها، وفارقت هذا البلد على دين حمدان قرمط. هاتوا إذن! وهتف شيخ ذو لحية صهباء لا يعرف فيها الأحمر من الأسود والأبيض:
- لو تركناك على رسلك لكدت تخزينا. إنها امرأة أَدْماءَ كما يقولون تدّعي أنها نسلٌ لهذا الذي ذكرت.
وقال جحا برعونة:
- عجّلْ عليّ بأمرها، فما تهمّني دعواها.
وقال الشيخ باستحياء:
- هذا يفعله غيري، والحديث كالطعام، تختلف أوانيه باختلاف طبيعته.
وحوّم الإمّعة قائلاً:
- إنها امرأة من الثغر الغربي الذي سقط بيد الروم. جاء رجل من هناك بمسألتها إلى العلماء لدينا.
ونفث جحا نفثة حرّى:
- والله لا أنصتُّ لأحد بعد هذه أبدًا. تُراكم تحدّثونني أم تَشْوونني!
وصمت القوم هنيهات قال بعدها الأمرد:
- إنها كما يقول الرجل، امرأة عجب بين النساء، تملك اثنين مما لا تملك المرأة منه إلا واحدًا، وليس للرجل مثله.
وقال جحا بلهجة من غُرّر به:
- تعني أن لها بعلين؟
- كلا. بل شيئين. شيئين. ألا تفهم!! يعني عضوين!
وبسط جحا عباءته ثم جلس على الأرض، وقال:
- أمّا هذا فعجيب. هاتوا ولا تبطئوا!
- بل نذهب إلى بيت القاضي فنسمع من العلماء، فإنهم مجتمعون الآن هناك.
وقال جحا وهو يلمّ عباءته ثم يماشي القوم:
- ولكن ما المسألة في ذلك؟ فهذا أمر يخصّ القوابل.
وقال الإمّعة:
- المسألة في ذلك أن المرأة قد فتنت الناس لديها، وكادت أن تصرفهم عن الروم إلى بعضهم البعض، بما تقول وما تفعل.
- وما شأن الروم وأهل الثغر فيما بينهم بعجائب النساء؟
وقال ذو اللحية الشهباء:
- بل قلْ ما شأنها هي بذلك، إنها في فعلها أعجب مما هي في خلقتها، تأخذ من كل أمر بناحية.
- ولكن كيف؟
وقال الإمّعة:
- المسألة أن تلك المرأة تتنقّل بين التفريط والصون. أباحت واحدًا مما تملك وحفظت الآخر، وعملت بعمل امرأتين معًا، إحداهما فاجرة تخالط الفُسّاق وتلزم مخادع الكبراء من الروم ومن والاهم من ذوي البغية والانتفاع، والثانية عفّة مصون تلوذ بمن هجا الروم وفارقهم من الفقراء والغيورين وأرباب العقيدة. في الليل فاجرة ذات صحبة ومكانة لدى الغزاة، وفي النهار عذراء نقية لها كلام أحلى من الفالوذج تخطب الناس وتحرّضهم على الروم ومن والاهم. وقد فُتن الناس في أمرها حتى تفرّقوا فئات وطوائف، وكادت تقع بينهم العداوات في وقت لا تجوز فيه الفرقة ولا غنىفيه عن الجماعة. فرقة تقول بنبذها ومعاداتها وتردّها إلى الروم، وأخرى تردّ انحرافها في الليل إلى شيء من المستور عن إدراك العباد وترى أن تأخذ بما تبديه في نهارها ولا تزيد.
- وما تقول هي؟
-
- تقول ما لا سبيل إلى دحضه ولا سبيل إلى الركون إليه.فلو قالت أنها عذراء نقيّة لصدقت ولها ما يشهد على ذلك في البعض الذي حفظته. ولو قالت إنها تناوئ الروم وتهجوهم لصدقت أيضًا ولها من نهارها ما يشهد على ذلك.
-
- وهل يطيق الروم منها السبَّ والشتم؟
-
- هذا ما يتعجب منه الذين يرفضونها. فالروم يطيقون منها ما لا يطيقون من غيرها، فإذا سئلت في ذلك أجابت بأنها خير ممن عداها، فهي تنظر باثنتيها فترى الروم وترى نفسها، وغيرها يغمض عينًا وينظر بالأخرى فلا يرى إلا الروم فيُمالِؤُهم أو لا يرى إلا نفسه فيودي بها. بعض يعطي للروم ولا يأخذ منهم، وبعض يأخذ ولا يعطي، وهي تعطي وتأخذ لها ولغيرها، وما خلقها الله على غير مثال إلاّ لأمر.
- وماذا عن العفّة
-
- تقول أن الله وهبها عفّتين لأمر يريده. وقد فرّطت بواحدة منهما لتصون الأخرى في زمن عمّ فيه الفجور، وما اختصّها الله بذلك إلا لتحمل الراية في زمن المحنة وتقوم مقامًا لا قِبل به لغيرها ممن ضيّع سائر عفّته.
هذا وقد بدأ جحا الآن ينتف عثنونه نتفًا:
- وكيف يأتمن الناس ليلها على نهارها؟
وقال الشيخ ذو اللحية الشهباء:
- ألم نقل لك إن الناس هناك في محنة من أمرها لا تفوقها سوى محنة الروم؟ لقد بعثوا برجل منهم يطلب من العلماء لدَيْنا في مسألتها رأيًا لا يُردّ. فقد تعدّدت فيها لديهم الآراء التي لا غناء فيها لاجتماع ولا تحظى بإجماع. لذلك بعثوا بالرجل يطلب لهم الغوث لدينا في رأي فصل وعلى نحو لا يحتمل الإفاضة أو التأويل: أفي الجنّة هي أم في النار؟ ففي الإجابة على ذلك شفاء للناس من مُجمل أمرها وتفصيله.
وخفّف جحا النتف عن عثنونه دون أن ينصرف عنه تمامًا، ثم قال:
- أملحدة هي أم كافرة؟
ولمّا لم يسمع جوابًا صاح مرّة أخرى:
- أملحدة قلت هي أم كافرة؟
وقال واحد من القوم بتسامح:
- كيف تكون ملحدة أو كافرة يا شيخ نصر؟ إن هذه مسألة تشبه معضلة المرأة ذاتها. أتُراك تريد أن تسأل: أمؤمنة هي أم كافرة؟
وفطن جحا إلى خطئه فقال عابسًا ليداري حرجه:
- نعم. كذلك هي أم كذلك؟
فقال الأمرد متظرّفًا:
- بل كذلك.
رفع جحا بصره إليه، فزاد وجهه المشبوه من الضيق الذي سبّبه له الخطأ وأصابته به معضلة المرأة، فلغزه قائلاً:
- دع غيرك يا ابن أخي يتكلم. فما لك في ذلك وذلك وقد علِمناك تخلط بينهما؟
فقال الأمرد مغتاظًا:
- فما لك أنت خلطت قبل قليل. أم لعلّك خرّفت!
وزاد من غيظ جحا أن يراه الناس في لجاجة مع مأبون:
- ذلك غير ذلك. وليس ما في المرأة أعجب مما فيك، ولكن احمد الله على الغُفْل!
- أتشتمني!
فقال جحا وقد أيس من السلامة:
- والله ما شتمُك عليّ بهيّن. وما شتمت أحدًا مثلك قبل اليوم قط. ولكن ضيق عليّ صدري أنني وإياك في جمع واحد، وما يهوّن عليّ هذه المحنة سوى
قول أحدهم في شأن كشأني معك:
وما أنتَ منهم، غيرَ أنّكَ واحدٌ
وفي العدِّ ديّوثُ العشيرةِ، واحدُ
ولو كنتَ في نعْلي وضاعَ، تركتُهُ
فما يستطيبُ الوطأَ فوقَكَ ماجِدُ
وصاح الأمرد مهتاجًا:
- لقد عبث انصراف الناس عن مجلسك بعقلك، فصرت تهذي بكلام الـمُجّان. أيها القوم! هيا بنا! ماذا نريد عند رجل كهذا في وقت يتناظر فيه العلماء.
وقال جحا:
- سترى منّي هناك أيضًا ما يسوؤك. أسرعوا بنا! فما أظنّ العلماء إلاّ وقد اقتتلوا بينهم.
وأسرع إليهم صخب القوم في مجلس العلماء قبل أن يدخلوا الباب:
- هي في جهنّم! ومن قال بغير ذلك كان من شهودها هناك.
-
- وما أدراك بذلك وعليها من الإثم مثل ما لها من الفضل. أفلا يكون القول أنها من أهل الأعراف أجدر بها؟ ناهيك عن رحمة الله، أم أنك تدعو إلى القنوط؟
وصاح القاضي:
- ما أرى أن امرأة من مثيلاتها أجدر بها من دخول الجنة. أوَما تكون منهنّ من تصل ليلها بنهارها في الفجور وليس لها إلى ذلك إلا سبيل واحد؟ فكيف بهذه المرأة وقد ضوعف لها ذلك فما غوت إلا نصف غواية ثم شفعت ذلك بمثله من العفّة والفضل؟ والله لولا ما كان من تقصّعها وَتَمرْكُحِها في الليل لدخلتم النار بقولكم فيها.
إلى مثل هذا وأكثر منه وصل التماري بين جماعة العلماء حينما ولج جحا وصحبه المجلس. وكان الرجل صاحب المسألة يصكّ وجهه ويصيح:
- يا قوم! والله ما أرى هنا إلا مثل ما تركت! أجمِعوا على رأي، ولو كان باطلاً، أحمله إلى الناس هناك قبل أن ينزغ الشيطان بينهم. أما إنهم والله لو أفتيتم بما يأباه العقل لرضوا به، فقد عظم عليهم أمر الفرقة، وما يبغون عندكم الرشاد بقدر ما يبغون الوسيلة إلى الاجتماع.
وصاح أحد العلماء ممن يتصدّرون المجلس:
- ما أراك أيها الرجل إلا قد مُسِسْت. أنُفتي بما يُرضيك ويُغضب اللّه؟
وقال الرجل وقد تملّكه يأس عظيم:
- تاللّه ما يغضبه أن تقولوا في تلك المرأة ما فيه صلاح إخوتكم. وما أظنّه فاعلاً بها غير ما يراه هو آخر الأمر، وما أنتم إلا عون لنا أو علينا.
وقال عالم آخر بعناد:
- ما أقول إلا ما أرى أنه الحقّ. وإني لأدعو لقومك بالصلاح.
وكان الأمر أثناء ذلك قد بلغ بجحا مبلغ الغضب. وشقّ عليه ما رأى من كمد الرجل وتشدُّد العلماء بغير وجه حق، فوثب يتخطى رقاب الناس إلى أن رمى بنفسه وسط المجلس وصاح بمن حضر:
- يا قوم! إن لي فيما سمعت رأيًا عليكم أن تسمعوه. فما يجوز أن نترك إخوانًا لنا على فرقة في وقت هم أحوج ما يكون إلى الوفاق، وما دام العلماء لا يريدون أن يقطعوا بينهم برأي، فليسمعوا من غيرهم ثم يحكموا دون أن يسرفوا على أنفسهم وعلى الناس بتشدّدهم.
-
- هل لك علم؟
وصاح الإمّعة من آخر المجلس:
- إسمعوا، ثم احكموا!
وتوجّه جحا إلى الرجل صاحب المسألة وقال:
- ما يجوز الفصل بشأن تلك المرأة قبل أن نخرج من مسألة أهملها العلماء. أهي على ما أنتم عليه من الإيمان أم تمتّ بسبب إلى غيره؟
فقال الرجل مؤتنسًا بمنطق جحا:
- لها أحوال، حينًا هذا وحينًا ذاك، كما هي في كل أمر.
-
- ما أكثر ما تدعو الناس إليه في النهار؟
-
- أكثر ما تقول: إلعنوا الروم ولا تخرجوا عن ذلك. أغروا بهم فقراءهم وفضلاءهم يكونوا عونًا لكم عليهم واكتفوا من كل شيء بالنصف، فما قيل الإنصاف إلا على غراره. إن الاعتدال نعمة والتطرّف في الأمور نقمة، والثبات على حالة واحدة جمود. وقد خلق الله الدنيا متغيّرة، فاطلبوا التغيير في كل شيء، فإنه غاية في ذاته. إقتدوا بي حتى ولو بدوت لكم على غير ما تحبّون فإن ذلك يعود إلى مبلغ علمكم الناقص بالأمور.
طال سكوت جحا حتى ظنّ الناس أنه لن يتكلم.
وبدأ الهمس يتطاول ويتّسع حتى كاد القوم يعودون إلى صخبهم. ولكنه رفع رأسه وتخلّل عثنونه بأصابعه، ثم نظر الى صاحب المسألة وقال:
- إن هذه المرأة ما تزال تُفسد الأمر بنقيضه، فما تستقيم على شيء. جعل الله لها مولجين إلى الجنّة أو مولجين إلى النار، فظنّت أن تعدّد المسالك يبيح تعدّد الغايات. وما فطنت إلى أن اللّه حينما جعلها بدعًا في الخلق لم يجعلها بدعة في الناموس، ونسيت أن الزمن حركة واحدة وليس حركتين، وما هو إلا اتجاه واحد غاية ما فيه أن يستقيم أو ينحرف. وما مراوحتها بين حالتين مراوحة للزمن كما تدّعي، وإنما هي مراوحة لذاتها وإفساد لجوهرها. تمرّ بالفجور إلى التقوى وبالتقوى إلى الفجور، كما تمرّ بالليل إلى النهار وبالنهار إلى الليل، فما تثبت على تقوى ولا تغادر فجورًا، والأخير بها ألصقُ، لأن التقوى أصل وفطرة وواجب، والفجور ابتداع في المعصية يُفسد التقوى ولا يستقيم هو بها إن اجتمعا. فإذا صلّى سيّدنا القاضي وصام وبلغ الجهدَ من عمل الخير، ثم زنى بعد ذلك، فإنما هو زانٍ مع اجتماع شكل التقوى له.
وقال القاضي وهو يُحَوْقِل:
- فعلتَ واللّه فِعْلَ تلك المرأة. أجَدت وأفسدت. أما فتح اللّه عليك بغيري تتمثل به.
وقال جحا:
- لقد مثّلت بك على الشرط، صلّحتك عليه وزنّيتك عليه، وما تختاره أنت هو ما يكون.
وقال القاضي عابسًا:
- بئس المثل.
فقال جحا معاتبًا بلهجة المنتصر:
- أفَترْضى للّه إذن ما لا ترضاه لنفسك! أُجيد معك على الشرط ثم أُفسد على الشرط فتغضب، وتجيد تلك المرأة بالفعل وتفسد بالفعل مع الله فلا ترى في ذلك بأسًا. لقد أفتيتَ!
وبُهت القاضي، وبُهت معه الناس بعِلْم جحا وفطنته. فما جرّبوه في مناظرة ولا إفتاء قبل هذه المرّة، وقد بهرهم منه ما سمعوا. وكلامه ذاك زاد شغفهم إلى سماع فتواه بشأن المرأة، فهُم لم يصلوا معه بعد إلى شيء من ذلك، وهو ما أهمَّهم أكثر من المناظرة. وفرغ صبر الأمرد فصاح من طرف المجلس:
- وماذا بعد!
فقال جحا بمؤانسة ولطف:
- ترفّق بالشيوخ أمثالي.
وتبسّم أو ضحك في المجلس من بلغه شيء من أمر الأمرد، ولكن جحا أعجلهم عن تمام ضحكهم:
- إن مثل هذه المرأة كمثلي ذات يوم حينما وثبت إلى ظهر أتاني في سوق النخاسة. وما كنت قست الوثبة أو قدّرت مداها، فصادفتْ قوية غير مُحكمة، حملَتني إلى ظهر الأرض من الناحية الأخرى، وظلّ ظهر الأتان فارغًا، فقلت: «سبحان اللّه! دخلنا من باب وخرجنا من باب، فما لنا ولا علينا، وإنما خسرنا الجهد وسخر الناس بنا». وما الفرق بيني وبين تلك المرأة فيما فعل كلانا، سوى أنها اتخذت من فعلها ديدنًا تعاوده كل يوم، وتعلّمتُ أنا أن أقيس الوثب إلى ظهور الحمير، فما عدت إلى ما حصل لي في سوق النخاسة أبدًا.
ولو أضفنا إلى ما مضى من شأن المرأة في المراوحة قولها بالتغيير على غير وجهه الصحيح، فما أظن إلا أن يصدق فيها القول: «كما تكونون يُفعل بكم»، فيوازي اللّه لها يوم القيامة بين الجنة والنار، ويجعل لها بينهما بابًا. تلج الجنة هرولةً لا تتوقّف إلى أن يؤدي بها ذلك إلى النار، فتهرول فيها إلى نهايتها، ثم تعود إلى ما بدأت به دواليك وتبقى على ذلك ما بقيت الجنّة والنار، أو تدركها رحمة الله.
غشيت القوم سحابة ثقيلة من الصمت، ثم نظروا إلى العلماء فما كان منهم إلاّ مطأطئ الرأس تبدو عليه الهزيمة، فهبّ الناس إلى جحا يقبّلونه ويتبرّكون به، وما خلّصه منهم سوى صراخ الرجل صاحب المسألة من موقفه أقصى المجلس:
- وما ترى أن يكون شأننا معها أيّها الشيخ الفاضل؟
رفع جحا كفّه مبسوطة فسقط الصمت على المجلس. ثم نظر إلى الرجل وقال:
- لا شأن لكم بها، فما هي منكم!
(نُشرت في مجلة «المواكب»، مجلد١، العددان ٧و٨ ، تموز - آب ١٩٨٤)