قناديل الكلام المر، في أعالي السور الحزين
بقلم محمد حمزة غنايم
عندما وصلت إلى القدس العربية المحتلة لأول مرة، في عام 1978 – مستقراً لا عابراً مرتحلاً – كانا من أوائل الشخصيات التي تعرفت عليها وانطبعت بمزاياها عميقاً، "حتى النخاع". منذ تلك اللحظة وأنا أراهما واقفين هناك في مكانهما، عند زاوية الشارع المار قبالة "باب العامود"، الأول عارضاً وراء ظهره جديد الثقافة والصحافة والسياسة، وبمختلف اللغات بعضه معلق على حبال، وبعضه مستقر فوق رفوف المكتبة المعدنية المتحركة، لاستحالة تعليقه على حبال، والثاني "صعلوك من القدس القديمة" يحمل معلقات من نوع آخر يحتج بها على الرحلة، ويصر بنوع من مأساوية وعذاب سيزيف، على مواصلة ذلك الاحتجاج!
الأول، "أبو سلام"، كان صلتي المتجددة الوحيدة بالمدينة بعد انتهاء إقامتي الأولى بها في ختام ست سنوات متواصلة منذ غادرتها قبل خمسة عشر عاماً وأنا أحرص – كلما مررت بها – على الذهاب اليه، لأجده حاضراً في موقعه كعادته، باشاً ومبتسماً و"مجاملاً على الأصول" العربية أيضاً.. "أبو سلام" الأول، بائع الصحف من "باب العامود"، والمستيقظ كعادته كل يوم على نهار جديد يطلع من داخل السور الكبير المحتفظ للبلدة القديمة بنكهتها العربية الفلسطينية، وسط مشاهد الجنون اليومية المتكررة في شوارعها الصاخبة الصارخة.
أما الشاهد الثاني فهو "أبو إسلام" الشاعر الأول والأبرع، الشاهد على دنيا الصخب المضغوط في شوارع تتلاحم فيها أجساد البشر بصناديق المعدن التي تنفث دخانها الأسود مباشرة في الوجوه، في مدينة تحولت الحرب فيها ضد معالمها البشرية "الفقيرة"، بعد أن ذهبت معالمها التاريخية أدراج الرياح.. أو كادت!
في عرف "أبي إسلام" الشعر – وأنا أسمح لنفسي بالقول أنني أعرفه – أن هذه هي السنوات العجاف، التي كل ما تستطيع تقديمه ليس سوى ظل للأصل المفقود للمعالم الحضارية والبشرية التي اختفت بالتدريج من أمام ناظريه، وهو يرقب من موقعه وراء السور القديم ما يطرأ على أحوال الناس والمدينة من تغيير.. غالباً ما يكون "سلبياً". لذلك فهو متفائل بحتمية التغيير، ويقول لك دائماً.. لا بد أن يتغير شيء في هذه الدنيا، إلى الأحسن، حتى تعود سنوات العطاء. وفي كل المستويات.
هذه سنوات انقلاب القيمة على نفسها، وعهد ارتحال المصطلحات الثورية إلى نقيضها، وليس ما تتميز به معلقات "أبو إسلام" المتواصلة حتى في أيام الشر والتوتر والضغط، سوى "تحصيل حاصل" للرغبة المتأججة بالتحذير من هذا النهج المتواصل فينا منذ سقطت المدينة تحت بنادق الاحتلال، والذي يجدنا جميعاً متلبسين خانة اللامبالاة. دائماً كان الرفيق المقدسي، المثقف الأصيل، "غير المدبلج" أو المؤدلج، يعرف مبتغاه مما يعرضه من معلقات لاذعة تحتل مكانة محترمة في ما تبقى من أسواق الكتاب المنصوبة صيفاً وشتاء عندنا، على أرصفة سوداء في أطراف الشوارع غالباً، في بعض أبرز المواقع في فلسطين وأكثرها ازدحاماً بالتاريخ وحضوراً له.. باب العامود.
آخر مشوار للقدس، قطعته سيراً على الأقدام من "الكويكرز" حتى باب العامود.. محطة "أبو سلام" الأثيرة على نفسي، والمحطة الأثيرة على نفس "أبي إسلام" للقاء ذلك الشخص الذي يميزها بحضوره أولاً، وللحصول على ما تحمله إلينا من إصدارات جديدة من "وطننا العربي الكبير".. ومن "وطننا الفلسطيني" السخي والمعطاء. رغم سنوات الجفاف.. العجاف.
كان "أبو سلام" يؤدي ما خلته تضامن الصديق الرائع وحنانه، عندما مد لي، دون مقدمات، كتاباً سعدت كثيراً للقائه، لأنه حمل اسم فوزي البكري، "أبو إسلام"، ووضعني مرة واحدة أمام استذكار هذا الموقف الإنساني النادر الذي يمثله هذا الإنسان في ضمير المشهد الثقافي – السياسي المقدسي العربي، عندما يجعل من أشخاص كالبكري ليس فقط شهوداً على ما تبقى من "صعاليك القدس القديمة" في وعينا الفلسطيني الراهن، المعذب، وإنما "شهادات" حية تتحرك بيننا وتمشي في شوارعنا، "حاضرة – غائبة"، تواصل تدوين سيرة الحكاية، بالعربي الفصيح.. و.. على الأصول، وبدون لف أو دوران!
جديد فوزي البكري لمطلع عام 1997 هو مجموعة شعرية رائعة اختار صاحبها أن يعلقها "قناديل على السور الحزين". فأسماها بهذا الاسم، وتحول لتغذيتها بالكلمات الدافئة والصادقة زيتاً يكفل لها أن تظل منارات مشعة.. في أعالي السور.
منذ أصدر كتابه "صعلوك من القدس القديمة"، بل قبل ذلك بكثير، و"ظاهرة" فوزي البكري تتعزز بثقة في المشهد الثقافي الفلسطيني المقدسي بشكل خاص، وكلما خيل، لمن انقطعت عنه أخبار الشاعر القابض على إنسانيته بالنواجذ إنها – أي: "الظاهرة" – "تتلاشى"، يرفدها صاحبها بإصدار جديد، مذكراً الجميع بأنه ظل كل الوقت حاضراً، من زاويته، وشاهداً أميناً على "الحكاية"، حتى لو احتفظ بصوته – معظم الوقت – "على نار هادئة"..
لا أرغب في نقد "قناديل.." البكري، في هذه الساحة الصغيرة.. أجدر بهذه "المعلقات" أن تضاء بأن تتواصل خارج مواقعها على السور الحزين، سور القدس الشاهد على المأساة، وتصير ملكاً للجميع. يكتفي بهذه التوصية: اقرءوا فوزي البكري، في هذا الديوان بالذات، تدركوا معنى هذا الإصرار لديه على تعليق قناديل الكلام المر في أعالي السور، لعل من نسوا مرة اسم الفاجعة، أو تناسوه.. يجدون فيها تذكاراً يعيدهم إلى التاريخ الذي غادروه، أو غادروه– سيان، وهكذا يكتب:
أنصت، يا مجروحاً في كبد أمانيه
قبضات اليأس تدق ببابك
تخلع متراس التاريخ
وتسحل جوهرك المنخور
على شط المتوسط.. عريان
هل تسمع هذا الصمت..؟
صمت سريالي
يعجز عن تفسير بلاغته
حتى في فسر كل المتشابه في القرآن.."
إذا أنصتنا مع البكري لضجيج الصمت الذي تحتج عليه قصائده، لن نستغرب أبداً – وخلافاً لـِ "صاحب العبقرية الفذة.. المنسي، تعتيماً، في مثلث برمودا الفلسطيني.. الباصق في وجه المرحلة بلعاب لا ينضب.. أحمد حسين"، بلغة صاحب "القناديل" في صدر الديوان – هذه النبرة الاستفزازية إلى حد بعيد في قصائد الشاعر، من أوافق مع مقدم "قناديله على أنه" أهم شعراء الأرض المحتلة.. حتى مع إهماله.. أهمهم إبداعياً، رغم أن أهميته هذه لم تترجم إلى إنجاز إعلامي لأن فوزي ليس من أوغاد المرحلة.."
لهذا أولاً، ولأسباب أخرى كثيرة، بعضها من داخل النص الإبداعي، وبعضها من خارجه، تصبح قصائد البكري "دعوة – شعرية-بالحضور إلى الميت الذي لا يموت".. إلى كل الأشياء الميتة التي لا تموت، ويخيل أنها كذلك لمن لا.. يبصرون! كذلك كانت قصيدته عن الشهيد غسان الكنفاني، التي حملت العنوان السابق، وتباكى فيها الشاعر على "ما تفعله الأيام بالمناضل البريء":
"..في زمن
تفر من جنونه الساعات والدقائق
وعقرباه يسكبان السم
في حوصلة الحقائق.."
كذلك، أيضاً، لما يتداخل من قدرة على الإدهاش بإعادة اكتشاف حقائق الحياة اليومية في أراضينا المحتلة بعيني شاعر متوجس خيبة وخيفة وقهراً من واقع يرفض أن يصدق بأن "الرصاص يبلغ قمة الفنون... وان ثورة تُصاب بكل ذلك الجنون..." الذي أودى بتلك "الصرخة المذبوحة على حناجر الرجال".. صرخة خالق حنظلة المر كالعلقم، الأشد مرارة من الواقع الذي أودى بحياة ذلك الفلسطيني المبدع أمير الشهداء ناجي العلي؟.. بمثل هذه الرموز يتسلح "أبو إسلام"، فوزي – القادم من داخل السور- البكري.. بها يكتب أشعاره، وباسمها وعنها يواصل رواية الحكاية للأجيال كلها، بلغة أصحابها – صناعها – ضحاياها الذين لا ينضبون فلا يكذبون، ولا يلجأون إلى تلك المفردات التي يستمد منها "الآخرون" تعابيرهم.
ألف تحية لأبي إسلام الشاعر، صاحب القناديل المضيئة في عتمة ليل المدينة المحتلة، ولأبي سلام، مَنْ علقها في أعالي السور الحزين، باعتزاز كبير.