محطة الباصات المركزية
عندما أقرأ الصحيفة، في الأحوال العادية، يكون معنى ذلك أنني قد قرأت جميع عناوين الصفحة الأولى وبعض العناوين الداخلية. وإذا كنت لوحدي تمعنت صور فتيات الإعلانات، لأنهن غالبًا ما يكنّ في وضع أنثوي بالغ التحدّي. وأنا أحبّ جسد المرأة حتى على الورق، ولم يحدث في حياتي أن أهملت تحديًا من أي نوع حتى ولو كلفني ذلك الكثير كما يحدث غالبًا.
هذه المرّة قرأت معظم أخبار الصفحة الأولى، كلمة.. كلمة. ولم أهمل منها سوى الأنباء المحلية التي لا تعنيني كالعادة، لأنها إمّا أن تكون عن الانتخابات، وهذه قضية عائلية يهودية ومن الصفاقة تدخل الغير في الشؤون العائلية للآخرين، وإمّا أن تكون عن ارتفاع أجور السفر، وهذا ما سيتكفّل أي سائق باص بإخباري عنه دون أن أطلب إليه ذلك.
ثم انتقلت إلى الصفحات الداخلية.
الأرق ليس مجرّد يقظة في غير محلها، كما إن الرصاصة في الرأس أو الإصبع في المؤخرة أو المستوطنة في نابلس ليست كذلك. الأرق كابوس لا يخصّ النوم أو اليقظة! حالة بين الاثنتين، يترتب عليها تغيير في السلوك وخروج على العادة بشيء يخص المكان ربما أكثر مما يخص الزمان؛ فهو يشبه وجود الإنسان في أرض مألوفة وغريبة في نفس الوقت، يعرفها ولا يعرفها، له وليست له، جغرافيا غير كونية عائمة في تاريخ أسطوري بدون كثافة على الإطلاق.
وكل هذا مقدمة. القصة لم تبدأ بعد.
خرجت على العادة، وقرأت أخبار "كامب ديفيد" بحذافيرها. وخرجت على العادة، فقمت لأتبوّل حوالي الساعة الواحدة صباحًا. وخرجت على العادة فأحسست بالجوع فتركت الصحيفة وقمت أفتش عن شيء آكله.
لم أجد شيئًا محددًا أُشبع به جوعي فأكلت كل ما وجدت مما يؤكل.. قطعة خبز صغيرة بجبنة صفراء، قطعة من المقانق بدون خبز، حبة جوافة، حبة بندورة مع رأس من الفجل. أكلتها بترتيبها هذا، لأنني أكلت ما وجدت حسب الأفضلية.
كل هذا تابع للمقدمة، والقصة على وشك أن تبدأ.
أعدت نفسي إلى الفراش وعدت إلى الصحيفة. قرأت حادثتي اغتصاب وحادثة رشوة وعدّة حوادث سرقة متنوعة، قبل أن أقع على ذلك الخبر اللعين:
"اكتشافات أثرية جديدة في منطقتي القدس والنقب".
كان هذا هو العنوان وليس فيه ما يلفت النظر في الأحوال العادية.
"اكتشف فريق من المنقبين بإشراف البروفسور ي. روزنبلوم عدة قطع من الأواني البرونزية عليها كتابات باللغة اليونانية تعود إلى فترة عصر الآباء. وكان فريق آخر بإشراف الدكتور هـ. يدين قد اكتشف بالقرب من نفس المكان قطعًا من العملة الرومانية تعود إلى فترة المكابيين. ويُعتقد أن هناك..."
كان كل هذا مقدمة. والآن تبدأ القصة.
يبدو أنني نمت، بل لقد حدث ذلك على الأرجح، إذ أنه لا يوجد شارع أسفلت في الغرفة التي كنت نائمًا فيها، ولا جبال أو سهول أيضًا. والأمر حدث عندما كنت أسير على أسفلت وعن يميني منطقة جبلية وعن يساري سهل ممتد ومن حولي ليل شفاف غير حالك السواد.
خرج عن يميني. لا أدري كيف، ولا من أين، إذ أنني لم أره إلاّ بعد أن جاء. وعندما نظرت إليه لم أر شيئًا سوى بقعة من الليل أشدّ سوادًا مما حولها. مشكلة، ولكنها غير واضحة المعالم، تشبه بيدرًا أسود كبيرًا؛ واسع عند قاعدته ضيّق عند قمّته، ثم أخذ يكبر في كل الاتجاهات ويقترب منّي ببطء مخيف كغمامة من الدخان، ثم جاء الصوت:
- أنت سيارة!
كان صوتًا ضخمًا وصارمًا، ولكنه كان غريبًا أيضًا. صوت وليس صوتًا. أبعاده لا تُحدّ، ومصدره كلّ مكان. وحين وعيته لم يكن لأذنيّ دخل في الأمر أكثر من أي عضو آخر في جسدي؛ سمعته حتى بأطراف أصابعي. وقد يكون الخوف هو السبب، ولكن ما كنت أشعر به لم يكن أيضًا خوفًا عاديًا. كان خوفًا كبيرًا بحجم وجودي نفسه ولكنه كان خاليًا من الذعر أو الذهول. خوف واعٍ مستسلم لخطر محقق لا فرار منه. وفجأة اختفى، أعني الخوف، وحلّ محله شعور بالحذر والهيمان يكاد يكون لذيذًا، وقال الصوت:
- أنت سيارة!
قلت:
- نعم!
وأحسست كيف تكونت عجلاتي، وتحوّل جسدي إلى هيكل سيارة صغيرة من نوع "الجيب". وكانت عيناي هما المصباحان الأماميّان بينما ظلّ في مكان ما من المقدمة عقلي في كامل وعيه. كنت سيارة تحمل كل الصفات البشرية الخفية في كل جء منها؛ العجلات تحسّ، المقعد، الصندوق، المقدمة.. كل جزء بدا وكأنه يحمل إحساسًا سابقًا على وجوده ذاته.
وشعرت به وهو يحط على المقعد الأمامي، وتصلبت عجلاتي.
كان ثقيلاً جدًا، ولكنه كان خفيفًا أيضًا.
كيف؟ لا أدري.
أحسست بكل حركة قام بها منذ أن جلس في المقعد، إلى أن أحسست بذلك الهيجان في داخلي عندما ضغط دوّاسة البنزين وانطلقت بأقصى سرعتي في ذلك الأسفلت الطويل.
كان الليل ناعمًا هادئًا، والطريق خالٍ من العوائق والسيارات. أحسست بلذة حقيقية في أن أكون سيارة، خاصة عندما زاد من ضغطه على دوّاسة البنزين فأحسست بأنني أطير عبر هواء مكيّف في عالم مسحور.
أمّا هو فقد كان مجرد إحساس بالثقل والخفة فوقي، لم أحس له شكلاً محدودًا. وفجأة بدأ يغنّي. لم أدر ماذا قال ولا كيف، فقط أحسست أو سمعت بجسدي كله، أي بهيكلي، أنه يغنّي. ولم يكن غناؤه جميلاً أو قبيحًا، كان غريبًا ككلّ الأصوات الخفيّة.
كنت في أقصى سرعتي، أحسست بذلك بوضوح. وكنت أفكر إلى أين نحن ذاهبان حينما حدث ما حدث. كان الأمر مفاجئًا إلى درجة مذهلة وغير معقولة، إذ كيف يحدث أن يكون بمثل هذا القرب قبل أن أرى تلك المصيبة التي برزت فجأة! الأسفلت خالٍ من المنحنيات، ومع ذلك فقد وجدت نفسي دفعة واحدة أمام ذلك الإطار المربع من الأضواء وهو يقترب ويكبر ويقترب ويكبر.
كان بعرض الأسفلت كلّه، وبثلاثة أضعاف ارتفاعي أو أكثر، ومع ذلك فقد ظلّ يزداد عرضًا وارتفاعًا إلى أن أصبح قبالتي مباشرة. جرار من تلك الجرارات الضخمة التي تحمل عشرة سيارات أو أكثر دفعة واحدة.
حاولت أن أتوقف، أو يبدو أنني فعلت، إذ إن الرعب وحده هو الذي كان حاضرًا في تلك اللحظة. أذكر ولا أذكر أنني حاولت الوقوف. ضغطت سرعتي إلى الخلف حتى أحسست بعجلتيّ الخلفيتين تتمزقان وارتفعت مقدمتي في الهواء. ولكن السيارة الأخرى لم تتوقف. غمرني الضوء وأحسست بلفح الصدمة قبل وقوعها وصرخت.
كان عرق يتصبّب، وصفحات الجريدة تغمر وجهي، ومؤخرة رأسي المستندة إلى حافة السرير تؤلمني. وجلست في الفراش وأنا لا أزال أرتجف. ولا أدري كم مضى من الوقت قبل أن هدأت أعصابي، ولكنني لم أدر ماذا أفعل؛ كنت أشعر بخوف شديد من النوم، إذ كان لديّ إحساس بأنني سأواجه الأمر مرّة أخرى إذا نمت، ولم يكن أمامي غير الصحيفة.
وقعت عيناي على الخبر نفسه. اكتشافات أثرية... ولا أدري لماذا تشاءمت منه وأحسست أن له علاقة بما رأيت وإن لم أستطع الربط بين الإثنين. وقلبت صفحات الجريدة بحثًا عن أخبار مهدئة ولم أجد سوى صفحة الرياضة. فحاولت القراءة فيها ولكنني لم أستطع، فعدت إلى التقليب. وشعرت بالنوم يغالفني، لكن ذلك الإحساس بالخوف لم يكن قد غادرني بعد. بل إنني كنت ما أزال أحسّ ببرودة العرق وبرجفة خفيفة داخل صدري وأمعائي. وضحكت من نفسي حينما عاودني ذلك الإحساس بالتشاؤم والخوف. إن السبب في ذلك الكابوس هو الطعام الغريب الذي التهمته قبل النوم. ويجب أن أقرأ قليلاً لأعطي المجال لمعدتي لتهضمه قبل أن أعود إلى النوم.
"...احتمالات لاكتشافات أخرى جديدة، إذ إن تلك المنطقة غنية كما يبدو بكنوزها الأثرية، وقبل عام فقط عثر بعض الرعاة العرب على أوانٍ زجاجية في إحدى المغاور كانت تحمل كتابات ورسوم فينيقية، وقد تبيّن بعد الفحص أنها تعود إلى عصر القضاة. ومما يذكر في هذا المجال أنه قد عُثر قبل شهور بحوزة بعض البدو في النقب على أدوات للزينة (عقود، وخلالخيل، وميداليات) مختلفة، زجاجية وبرونزية، بعضها يعود إلى فترة الحشمونائيم والبعض الآخر كنعاني من عصر الآباء. وقد عثر هؤلاء البدو عليها... في... أحـ... المـ..."
شعرت هذه المرّة بخوف ممزوج بالغضب والعناد، خرج كما في المرّة الأولى من حيث لا أدري وفي نفس المكان الذي ظهر لي فيه في المرّة الأولى. بدأ يكبر ويقترب ويكبر ويقترب إلى أن غمرني كما في المرّة السابقة. ومع اقترابه وتعاظمه كان خوفي وغضبي يتعاظمان يدًا بيد. وكان العناد يطغى على الإثنين معًا؛ لن يحدث لي ما حدث مرّة أخرى. ليكن ما يكون فإنه لن يكون أسوأ من التجربة الأولى.
وقال الصوت:
- أنت سيارة.
عضضت على شفتيّ ولم أقل شيئًا.
- أنت سيارة!
كان الصوت أضخم وأكثر حدّة، ولم أقل شيئًا إلا أنني شعرت بالخوف يتعاظم.
- أنت سيارة!
كان الصوت مرعبًا حقًا هذه المرّة، وشعرت بإرادتي توشك أن تفلت منّي، بل شعرت أنه من المؤكد أنني سأقول نعم في المرّة القادمة، فوثب الرعب والعناد معًا في صدري وصرخت من أعماقي:
- كلا.. أنا محطة الباصات المركزية.
من أين جاءتني هذه الفكرة. لم أعرف أبدًا. ولكن الشيء حدث. بدأت أمتدّ وأنداح كرغيف الخبز في جميع الاتجاهات، بعيدًا، بعيدًا، بعيدًا إلى حدود أجهلها. سهول وجبال وأنهار وغابات التهمها ذلك الطوفان من الاتساع الدائري وأخذت تصغر وتغيب في اقترابها النسبي من مركزه إلى أن أصبحت مجرّد نقاط صغيرة على خارطة كبيرة. أمّا ذلك الشيء الأسود المسكين فقد ظلّ يصغر ويصغر وأنا أراقبه من كل الجهات إلى أن تلاشى نهائيًا.