الشوط الرابع
- طيري يا حبيبتي... طيري.
وطرت أنا. حقيقة طرت. وضحكت من الأشجار والحجارة من حولي وقد دبّت فيها الحياة وأخذت تتواثب مسرعة إلى أوكارها. وبدا لي أن أصرخ بها لأزيد من ذعرها، ولكنني لم أكن مستعدًا لأن أفلت ولو للحظة واحدة ألذ إحساس عرفته... الإحساس بأنني أطير.
كل شيء يتحرك ما عداي. ومع ذلك فأنا وحدي الذي كنت أطير.
لم يكن عليّ إلاّ أن أحفظ رجليّ في وضع لا تصطدمان فيه مع "البدّالتين" اللتين كانتا تقومان بحركة غير مرئية. وحتى هذا الجهد الصغير فقد كانت تمتصه تلك الموهبة السحرية التي كانت تحوّل الثقل نفسه إلى قوة دفع ويصبح هو الآخر دفعًا جديدًا يزيد من سرعة العجلات المجنونة، ويجعل الطريق المنحدر الذي شقه الجيش البريطاني أقصر ما كان في حياته.
وانشقت عنه الأرض عند قمة المنحدر.
- بسكليت؟؟؟ يا ابـ...ن العرص!!
كل الاختلاف بين ما توقعته طيلة الليل وبين ما يحدث الآن هو في الكلمات فقط.
- وبثلث عجال!! هات أسوق.. هات.
وطغى الحسد على الخوف... يتكلم كرجل حقيقي! كلماته لا تهتزّ أبدًا. لماذا لا أستطيع أن أتكلم مثله! أمي تقول بأنني أكبره بنصف سنة على الأقل، وذلك يعني أنني أكبره بأكثر من سنة. وأنا أطول منه وأعرض، ومع ذلك فلم أقل له كما قررت الليلة الفائتة:
- تريّح! ما فيش ركوب.
وهو كالعادة لا ينتظر.. امتدت يده واستولت على الدراجة، وقبل أن أنجح في استجماع قدْر من الشجاعة لأقول له:
- دير بالك... أوعى تخرّبه..
كان قد طار.
"يا ابن الشرموطة... يا ابن القوادة... يا أخو العاهرة... يا للي إمّك بتضرب في البساتين". ونجحت الخدعة. وتوقفت الدموع التي كادت تنفجر.
وكان هو يصغر رويدًا رويدًا، حتى أصبح نقطة معتمة قرب أسفل المنحدر. ورغمًا عني كانت تعود إليّ شجاعتي الكاذبة... كنت أتشبث بالاستسلام فليس هناك من فائدة على الإطلاق. سوف أفرغ من شجاعتي كما تفرغ الجرة حينما تنكفئ على بابها.
إنه ابن كلب، لا يجرؤ أحد منا على أن يتحدّاه. وما دام "مصطفى" و"شاكر" و"خضر" يخضعون له فليس هناك معنى لأن أتصدى له أنا. إن ترتيبي من حيث القوة يأتي بعدهم.. نظام متفق عليه بين "الجماعة". كل يعرف حدوده ولا حاجة لاستباق الأمور، فأي تغيير يقتضيه الواقع لا بد أن يحدث تلقائيًا، والحظة المناسبة تأتي دائمًا... وفي وقتها الصحيح، كأن هناك عاملاً خفيًا يسيّر الأمور.
وعندما أحضر لي والدي الدراجة كنت أعرف سلفًا من سيكون لهم الحق في استعمالها، فلن يكون بوسعي أن أرفض طلب أي واحد من الأربعة، ابتداءً منه.. من "عوض" وإلى "خضر" في ركوبه، ولكنني لم أكن أشعر بشيء من القلق بالنسبة للثلاثة الآخرين. فهم لا يبالغون في تقدير حقهم المكتسب.. شوط واحد لكل منهم.. وانتهى. أمّا هو فقد ظل يبعث القشعريرة في جسدي معظم الليل. وحينما غفوت أخيرًا أفقت بعد قليل وأنا أبكي.. فقط حطّم الدراجة.
وهذا هو الذي توقعته طيلة الوقت. سيستولي على الدراجة.. ولن يشبع منها أبدًا إلى أن تصبح حطامًا. وإذا لم تصبح كذلك بالصدفة فإنه لن يكون صدفة أبدًا أن يطلب بقاءها في حوزته حتى الغد – فإن تسلطه إذا كان سيعرف حده أخيرًا، فليس من الممكن أن يكون هناك حد لسماجته.. ولم أتصور أن إنسانًا من لحم ودم يمكن أن يكون سمجًا بهذا الشكل، بحيث يثير الشعور بالقسوة اللامتناهية فيجعل الواحد يشعر بلذة حقيقية وطاغية وهو يتصور أنه يضرب رأسه بحجر ثقيل إلى أن يستحيل إلى مجرد لطخة حمراء مسطحة إلى أبعد حد ممكن.
لم يكن هناك فاصل في نظره بين ما يملكه هو أو يملكه الآخرون. وليس هناك من مجال للمناقشة على الإطلاق، فما يقوله أو يدّعيه هو شيء يختلف بدون حدود عما يقوله أو يدّعيه الآخرون...
- شايف يا حمار أنا أطول منك بقدّيش!
ويكون واقفًا على حجر أو على رؤوس أصابعه.
- سبقتك! هات "البنّورة".
ويكون بينهما وبين الغاية أكثر من نصف المسافة.
- برتقان. أنا اللي دلّيت إمّك ع البيّاع... لا. أنا بَقْسِم.
والدرّاجة! سيقول بأن العدلة كانت ستفلت من مكانها لولا أنه ثبّتها! وهذا يكفي لتصبح ملكًا له.
- ياه...
كان يلهث من التعب، ولكن البهجة كانت تلمع حتى في حبات العرق على وجهه. وخفق قلبي بشدة... هل يعيد الكرّة؟
- استنّى لمّا أتريّح شويّ.
ولم يعد هناك مجال لعدم الخوف.
- منلّك ايّاه؟
- جابه أبوي.
- منين؟
- أعطاه اياه خالي.
- أعطاه اياه خالك؟ طز.. هاذ سرقة.
قلت بدون احتجاج:
- أبوي بسرقش. أبوي بصلّي.
- وما يكون. بسرق.
وقلت محاولاً تغيير الحديث:
- تعبت؟
ونظر إليّ مستنكرًا
- أنا بتعبش.
- بدي أروّح.
- روّح.
وابتدأ الشوط الثاني.
ولأول مرّة شعرت بالأسف لأنني أملك دراجة. وتمنيت أن يحطمها فعلاً، أو أن أتركها له وأقول لأهلي إنها تحطمت. وشعرت بحاجة شديدة إلى البكاء، وكنت على وشك ذلك..
- شو بتساوي هون.
ولا أدري لماذا شعرت ببعض الاطمئنان لوجود "خضر".
- بستنّى "عوض".
- وينه.
- هناك. راكب ع البسكليت.
- بسكليت؟؟ شو البسكليت.
- بسكليت إلى. جابه أبوي.
- عن صِحْ؟
وأقسمت بدون حماس.
- والله العظيم.
وكان الحماس والتوتر يستوليان عليه بشكل واضح.
- بسكليت جديد؟
- كأنه جديد.
- تخليني أركب شوط؟
وأحسست بشيء من الراحة وأنا أقول:
- خذه من "عوض".
فقال وقد اختفى الكثير من حماسه:
- خذه أنت وأعطيني اياه.
ثم أضاف بخبث:
- ولاّ مش مستجري تقول له هاته؟
ومرّة أخرى شعرت بحاجة إلى البكاء.
- خايف منه! ما أنت أكبر منه.
الدجّال! وتمنيت لو أنه كان مكاني لأرى ما سيفعل. وكدت أقول له ذلك، ولكنني لم أكن في وضع يسمح لي بكسب أعداء جدد. ووجدتني أقول صادقًا:
- لو بعرقلش! ....
ولم يكن في قولي أي أثر لخداع النفس، بل لعلّ كل الحقيقة كانت فيما قلت، فهو لم يكن يملك قوة جسمية تفوق قوة أي منا، وحينما قذفت به الحرب في أفواهنا وفي الأيام الأولى عقدنا جلسات متكررة لنقرّر كيفية التعامل معه، وهل سنستعمل القوة منذ البداية أن نبدأ بالرشوة والإقناع؟ أما بالنسبة للتعامل فيما بيننا فقد كان الأمر مقررًا تلقائيًا... الترتيب ذاته، "مصطفى" أولاً ثم "الشاكر".. ثم "خضر" وأنا.. وكان يبدو أنه يجب التوقف هنا قليلاً وحسم الأمر نهائيًا بالطريقة المتبعة، ولكن يبدو أننا قررنا إهمال ذلك إلى أن تتضح الأمور بالنسبة للقضية الأولى.. وقد اتضحت سريعًا...
- مالك! شو صار؟
كان الدم يسيل من أنفه وأسنانه، بينما كانت آثار الغبار على ملابسه ووجنتيه وحتى على شعره المنفوش تدلّ دلالة واضحة على أنه قد عانق التراب أكثر من مرّة. ولم نكد نصدّق.. "المدني" يتغلب على "مصطفى"!
- بعرقل ابن العرص.
قالها وهو يمسح الدم عن يديه بملابسه المتربة.
وشعرنا برهبة ممزوجة بكثير من عدم التصديق الذي امّحى نهائيًا بعد أن شاهدنا "شاكر" يمرّ بنفس التجربة...
لا تكاد تمسك به حتى ينضغط إليك بحركة سريعة تكون رجله خلالها قد التفت بحركة أسرع خلف رجليك... ثم... حركة خفيفة لا تكاد تشعر بها وإذا أنت على الأرض. كل شيء واضح ما عدا السرعة التي كان يحدث بها كل شيء، والتي ظلت حتى الآن سرًا يملكه "عوض" لوحده. أمّا إذا قوّس أحدنا ظهره وأبعد رجليه عن متناول رجله، فإن النتيجة تختلف، إذ إنه في هذه المرة يسقط على وجهه ويخرج بوجه مدمىً حتمًا. وقد كان هو وحده فقط الذي يعرف سر اللحظة المناسبة التي يجب أن يوقف بها الضغط ويستغلها جميعًا - وبحركة سريعة أيضًا - في حركة السقوط الإيجابية التي يكون من نتيجتها دائمًا عناق حارّ جدًا بين جسم خصمه وبين الأرض. وكانت نتيجة محاولاتنا تقليده أننا أصبحنا نُلحق ببعضنا أضرارًا أشد حينما نتشاجر بينما يظل هو يسخر من تلك المحاولات ويشجعها. وانقلبت الموازين بصورة جذرية حيث أصبح هو يقف على القمة.
وصاح وهو لا يزال على بعد عشرين خطوة أو أكثر، وكأنه يريد أن يلفت انتباه "خضر".
- أوعى! .. أوعى!
وكان يدفع الدراجة بيديه وجسمه بسرعة فائقة رغم أنه كان يقطر عرقًا، ولهاثه يصل إلينا واضحًا كلهاث كلبصغير – ومع ذلك فيبدو أنه كان شديد اللهفة لإثارة "خضر" فما كاد يصل القمة حتى جلس على مقعد الدراجة واندفع بها.
وبدأ الشوط الثالث.
وكانت خيبة الأمل واضحة في وجه "خضر".
وقال بجدية:
- عيّط!
- لليش؟
- بلكي يعطيك اياه.
وشعرت بثورة غير متوقعة. كانت الإهانة جارحة إلى حد بعيد، ولعلّ البساطة التي قالها بها هي التي جعلتها مؤلمة إلى حد لا يُحتمل.. عيّط! هكذا وببساطة.. ولماذا! لكي تحصل على دراجتك من خصم أصغر منك.
ونظرت إليه بقسوة صدمته، فقال باستهزاء هذه المرة:
- طيّب ورّيني كيف بدّك تاخذها منّو!
ورغم ثورتي فإنني لم أكن مستعدًا لأن ألتزم بأي تعهّد من هذه الناحية، وفضّلت الصمت. ورغم أنني كنت متأكدًا من الفشل سلفًا، إلاّ أنني كنت كالغريف أحاول أن أتشبث بأي شيء، ومن هنا فقط اقترحت على "خضر":
- تيجي تاخذها منه؟ بركّبك شوطين.
فقال وهو يتظاهر بعدم الفهم:
- بعطيناش!
- بنفتله!
- والله لاقول لُه!
ودنوت من حافة اليأس. وصحت وأنا أفقد أعصابي:
- قل لُه!
وفي الحقيقة، فقد شعرت في تلك اللحظة أنني يجب أن أذهب إلى البيت وأنسى الدراجة. سيقول له ابن العاهرة حتمًا. إنها فرصته الوحيدة للحصول على الشوط. وأخذت أشعر مقدّمًا بالضربات على جلدي، وامتدت يدي تمسح أنفي وتتحسّسه..
- وين البسكليت؟
"حسن"؟؟
وشعرت بأنني أنسحق وبدأ الدم يتجمع في وجهي ويضغط عيني وأرنبة أنفي بإلحاح.
- وين البسكليت؟
واختنقت وأنا أقول:
- مع "عوض".
- مع "عوض"! ما قلت بدكش تعطيه، وإن حكى بدّك تدبحُه؟!
وسمعت ضحكة "خضر" قبل أن تخرج إلى حيّز التنفيذ.
- يذبحه؟ يا عيني!
ونظر إليّ أخي الصغير متسائلاً، فقلت وكأنني أقفز من مكان عال:
- آه بذبحه.. وهسّه بورّيك.
كان هذا هو الالتزام الثاني أمام أخي... وقد كان هذه المرّة على أرض المعركة، أما في المرة الأولى فقد كان بعيدًا عنها.. كان على أرض معركة وهمية، في البيت بل وعلى الفراش.. ورغم أنني حتى في المرة الأولى كنت أشعر ببعض الشك في مقدرتي على تنفيذ هذا الالتزام، إلاّ أنني هذه المرة شعرت بالبرودة تسري في جسدي. هناك، في البيت، يختلف الأمر. فقد كان أمامي فسحة زمنية على الأقل.. أمّا الآن، وأمام "خضر".. وفكرت بالهرب.
- بتحسّب بغدرلوش؟.. هسّه بتشوف!
وكان حسن يتكلم بثقة تامّة. فقد لمس بنفسه بأي حماس وقوة كنت ألقي به على الفرشة.
- هيك!
وأضمّه إلى صدري ثم تمتد رجلي بحركة سريعة خلف رجليه ثم...
- آخ... ياخي خلص بدّيش.
وكنت أضطر كل مرة إلى رفع السعر.
- خمس أشواط!
- بديش.
- وبدلّك ع العشّ.
- إحلف!
- على عيني.
- والله العظيم؟
- والله العظيم!
ونبدأ من جديد..
واستمرت التدريبات حتى منتصف الليل، وقطعت في نهايتها التزامًا على نفسي بأن أذبح "عوض" إذا فكر أن يمد يده إلى الدراجة.
- بدّي أروّح أشرب.
ولكن أين! كان ابن العاهرة مستدًا لكل شيء.
- هُو هُو.. بدّه يشرُد.
وقال "حسن":
- تشرب؟ ... أنا بَجيب لَك.
وانطلق يعدو.
وفقدت رجلاي قوّتهما نهائيًا عندما أصبح على بعد خطوات من القمة. وبدأ قلبي يدقّ بعنف وغباوة. ونظر إليّ "خضر" مبتسمًا...
- "عوض" تعال أقول لَك.
ورماني للمرة الثانية وبنفس الابتسامة. ولا أدري لماذا بدأت أشعر ببعض الوعي... بل وببعض الهدوء مع اقتراب الخطر.
- قال "صالح" بدّو البسكليت!
ورفع إليّ عينين ساخرتين، وكان وجهه غارقًا في الغبار والعرق، وكأنه كان يحفر في الأرض.
- قال؟؟
ولا أدري إذا كان سمعني أحد وأنا أقول:
- آه.. خلص بقدّيك.. بدّي أروّح.
- ما تنقلع!
- بدي البسكليت!
- تا ترجع.
- لا. هسّه.
- خذه!
وشبك يديه ووقف ينظر إليّ بتحدّ ساخر..
ولعلني حاولت أن أمدّ يديّ لآخذه، ولكنهما حتمًا لم تطاوعاني، فقد ظللت جامدًا في مكاني.
وقال خضر وصوته يقطر تشفيًا وسخرية:
- خذه!... ما بقول لك خذه.
وطاوعتني يداي هذه المرة، وأمسكت بمقود الجراجة. وقبل أن أشدّها نحوي قال بصوت هادئ مليء بالتحذير:
- أوعى! أوعى!
- بقول لَك دشّر!
وكان صوته هذه المرّة أكثر حدّة وأشدّ نذيرًا. وأخذ جسمي يتجمع وينكمش في انتظار الضربة الأولى.
وقال "خضر":
- قال بدّه يذبحك.
وبدأ إحساسي بالخوف يتلاشى تدريجيًا، تاركًا مكانه لإحساس جديد أكثر إلحاحًا.. الإحساس بالخطر. فلم يعد الآن مجال للشك أو الأمل، فالمعركة محققة بعد أن وفى "خضر" بوعده، ووضعه أمام هذا التحدي الخطير الذي لا يمكن أن يتجاهله. وكانت القضية الآن بالنسبة إليّ هي إيجاد طريقة لحماية نفسي.
- صحيح!
وفكّ يديه وأخذ يقترب منّي ببطء.
- استنّى تا يشرب، وبعدين قاتلُه.
كان "حسن" يقف على بعد خطوات قليلة منا، وهو يمسك بحذر "كيلة" الماء.
ولم يُعرْه "عوض" أي اهتمام.
- كنّك زلمة استنّى تيشربّ
- روح إنت. يلعن أبوك!
ولم يكن أي أثر للتردّد أو الخوف في اللهجة التي ردّ بها:
- يلعن أبو أبوك!
واندفع "عوض" نحوه. فقلت وأنا أعترضه بدون أن أفلت مقود الدراجة وكأنني أحتمي به:
- دَشّرُه.
وكانت أسنانه تكاد تمزّق شفته السفلى.
- مش من جيلك.
وكان صوتي واضحًا ومسموعًا، وشعرت بأنني أمتلئ.
ولم تؤلمني الرفسة فقد حالت الدراجة بينه وبين هدفه.
- هات أمسك البسكليت.
وانحنى "حسن" يمسك بمقود الدراجة ويجرها بعيدًا عن أرض المعركة. كان مكشوفًا تمامًا للرفسة التي وجّهها إليه، فاندفع إلى الأرض بشدة بينما طارت الدراجة من بين يديه وانقلب(ت؟) على جانبها.
ويبدو أنني فقدت إحساسي بأي شيء، وأنني مع الدموع التي انهمرت من عيني وجّهت قبضتي إلى وجهه. فقد صحوت على صرخته وهو يغطي وجهه بكلتا (ي؟) يديه بينما كانت قبضتي لا تزال مضمومة وقد كانت أشبه بالعصا. وحينما رفع إليّ وجهه المدمّى.. نزلت العصا مرة أخرى، وثالثة ورابعة وخامسة.
وأخذ يضرب بيديه في الهواء، محاولاً أن يمسك بي.. ولكن عبثًا، فقد كانت يداي الطويلتان تدفعان به بعيدًا مع كل ضربة. وكنت لا أزال أبكي، ولكن بدون صوت. فقد كان صوت اللذة الحاقدة هو الذي يرافق ضرباتي.. حشرجة غريبة متقطعة أشبه بموسيقى وحشية ترافق كل ضربة. وحينما نجح أن يمسك بي أخيرًا، كان قد انتهى. وحدث كل شيء بسرعة فائقة.. ضمة إلى الصدر.. حركة التفاف الرجْل السريعة، ثم...
واندفع إلى الأرض بشدّة..
وكانت اليدان تعملان بحرّية أكبر الآن.. وكان وجهه يفقد صورته في طوفان الدم والدموع والكدمات... ولكن هذا لا يكفي أيضًا..
- "حسن"! ناولني حجر...
- دخل النبيـ يـ يـ يـ يـ ..
وامتدّت يداه إلى وجهه ورأسه تضمّانهما بجنون.
- ناولني حجر...
وشعرت بيد تشدّني إلى الخلف.
مصطفى!! وقلت بوحشية:
- ماذا تريد؟؟.
وقال برجاء وخوف:
- حرام.. مش الحجر.. بِموت.
- ما يموت! خلّيه.. ناولني حجر بقول لك يا "حسن"!
- دخل النبيـ يـ يـ يـ ...
- حرام يا "صالح". حرام. بقدّيه.
وحينما رضيت أن أتركه كان أشبه بجسم غير واضح الشكل يغمره التراب.. ومضت لحظات طويلة قبل أن يستطيع القيام ويمضي وهو يردّد صيحات متقطعة أشبه بالعواء.
- شايف! مش قلت لك بذبحُه...
قالها "حسن" بينما كان "خضر" و"مصطفى" ينفضان عن ملابسي الغبار.
وبعد لحظات، كنت أطير..
لقد بدأ الشوط الرابع..
نقلت إلى مجموعة "الوجه والعجيزة" عن مجلة "الجديد" عدد 11و12 (1972)